''المعريفة'' مصطلح عامي، يرافقنا منذ السنوات الأولى من حياتنا، بحيث لا نتمكن من فهم معناه الحقيقي إلا بعد دخول مرحلة التجربة والاضطرار لاستعمال أشخاص ''واصلين'' لتلبية احتياجاتنا، سواء كانوا من الشخصيات النافذة في مؤسسات الدولة أو تمارس وظائف بسيطة وتملك ''أرجلا وأذرعا'' في كل مكان. هذا النوع من السلوك الذي يصنفه البعض في خانة ''الفساد'' المنتشر ولا أحد من المواطنين أو أصحاب القرار، يقدر على التخلص منه، وأصبح وسيلة رائجة لتحقيق وتبادل المنافع على حساب الضعيف. وعلى هذا الأساس بات امتلاك ''المعريفة'' أمرا ضروريا ينبغي أن يوفره الفرد لنفسه على غرار المسكن والملبس والغذاء، في زمن أصبح كل منا لا يقوى على التمتع بحقوقه العادية دون اللجوء إلى مساعدة الآخرين. فالمولود الجديد بحاجة إلى ''المعريفة'' ليحظى بالعناية اللازمة في المستشفى، وأمه أيضا من أجل سرير تقضي عليه ساعات نقاهة، والوالد يضطر لإيجاد ''المعريفة'' ليتمكن من زيارة زوجته المريضة، والطالب بالجامعة يحتاج إلى ''المعريفة'' للحصول على العلامة أو التخصص أو الشهادة التي يريدها، والبطال أيضا من افتكاك منصب عمل و..و..و.... في استطلاع لآراء بعض سكان العاصمة، أكد كل من التقينا بهم أنهم أصبحوا غير قادرين على قضاء حوائجهم أو تلبية طلبات عائلاتهم دون اللجوء إلى أحد المعارف لمساعدتهم. وقد اعترف العديد منهم بأن الأشخاص الذين يقصدونهم لا تتعدى وظيفتهم في أغلب الحالات ''عون أمن'' بمؤسسة ما أو موظف عادي، يتوسط لدى صاحب القرار في مؤسسة عمومية أو خاصة. وأوضحت نسرين، 29 سنة، أنها اضطرت إلى استعمال الوساطة من أجل الحصول على عمل في أحد مكاتب المحاماة، حيث أكد لها المحامي في أول يوم عمل لها أن ''معرفتها بالشخص الذي توسط لها انتهت عند باب المكتب'' ورغم أن نسرين أحست باستياء المحامي إلا أنها سعت لتثبت نفسها في المهنة حتى تمكنت من الحصول على التثبيت في الوظيفة. أما عبد الرؤوف، 35 سنة، فكشف لنا عن استيائه الكبير، لأن كل محاولاته للحصول على عمل كسائق في مؤسسة عمومية باءت بالفشل، خاصة وأنه يملك المؤهلات اللازمة التي تخوله للحصول على وظيفة. وقال''اللي ماعندوش معريفة صحيحة غير يأكل الخبز اليابس ويسكت، في وقتنا هذا لازم المعريفة لو ماتكونش عندك متعيش''. وتروي إيمان، 26 سنة، قصتها مع ''المعريفة'' بأنها لجأت إليها لأول مرة عندما كانت برفقة والدها في السيارة، عندما ارتكب مخالفة ترتب عنها سحب الوثائق مع غرامة مالية، وعندما توجه الأب إلى مصالح الأمن أخبره أحدهم أنه ''إذا عندك معريفة يتنحالك''. وفي حادثة ثانية، بعد نجاح إيمان في امتحان شهادة البكالوريا، وجهت إلى تخصص لا يناسب الشعبة التي درستها في الثانوية، وعند تقدّمها للتسجيل والاستفسار أخبرتها الموظفة ''إذا عندك معريفة تقدري تسجلي في أي جامعة''، فأخبرتها أنها تريد التحويل إلى كلية أخرى، فسألتها إن كانت لديها ''معريفة''. وحتى وهي في الجامعة، فإن إيمان لا تستطيع الاستغناء عن ''الواسطة'' سواء في إقامة الجامعة أو المكتبة أو المطعم...