قضيت كامل أيام شهر فيفري تقريبا، في إعادة قراءة فكر هربرت ماركوز. تعود قراءاتي الأولى له إلى سنوات خلت، لما كان يشغلني الهم الفلسفي بشكل مطرد، يكاد يكون يفوق الهم الأدبي. قرأت أعماله رغم مقته الشديد للرواية الحديثة وللحداثة الأدبية، حيث كان ينفر من أعمال كافكا، جويس وبكيت، وهم بمثابة أعمدة الرواية بالنسبة إلي. بدأ اهتمامي به قبل أحداث أكتوبر 1988، خارج المقرر الدراسي، وأنا طالب بمعهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية. وما كان يثير انتباهي في تلك المرحلة، هو توقف أستاذي في الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع السياسي، المرحوم جبلالي اليابس، عند فكر ابن خلدون وهيغل، دون التطرق لماركوز. كان فكر هذا الأخير يكاد يكون ممنوعا علينا. ولسنوات طويلة، بقيت أبحث عن أسباب ذلك المنع أو التجاهل. وكنت أعتقد أن مواقف ماركوز من حرب 67 ومساندته لإسرائيل هي السبب، علما أن فكر ماركوز خال تماما من التأثير اليهودي، فهو هيغلي وماركسي لا غير، مع تأثيرات من مارتن هيدغر. وفي تلك المرحلة، كان الطلبة المتأثرون بالفكر الإسلامي، يقبلون منا الدفاع عن فكر هذا المفكر الغربي أو ذاك من حيث علاقته بالدولة العبرية، فإن انتقدها أعجبهم واعتبروه من فطاحلة الفكر، وإن لم يفعل استصغروه وقللوا من شأنه أمامنا وراحوا يحاولون تصويره لنا في صورة ''الشيطان''. ولحسن حظنا، كنا نقرأ ماركوز بكل حرية، دون أن نتعرض لمضايقات خصومنا الإسلاميين، بعد أن عثرنا على مقال كتبه ماركوز إثر عودته من إسرائيل سنة 1971، عبّر فيه عن رأيه صراحة بخصوص دولة إسرائيل ووصفها بالدولة التي لا تحترم حقوق العرب. لا أعرف كيف وصلت إلى ماركوز. وإن لم تخن الذاكرة، فقد تم ذلك عبر هيدغر ومدرسة فرانكفورت، فالعلاقة بين الرجلين كانت وثيقة. ومن المعلوم أن هيدغر اعترض، في الأول، على تأهيل تلميذه ماركوز بسبب يهوديته. وتبادل المفكران عدة رسائل بين 1947 و1948، كثير منها لم يترجم حتى إلى اللغة الفرنسية، وفيها نعثر على عتاب ماركوز لهيدغر، لكننا نعثر في نفس الوقت على مراجعات هيدغر. ففي رسالة مؤرخة بيوم 28 أوت 1947، يكتب ماركوز: ''لقد أخبرتني أنك تخلصت نهائيا من انتمائك للنظام النازي، وأنك انتقدت أسسه نقدا لاذعا، كما أنك خضعت لمراقبة مستمرة من شرطة ''الغيستابو''. وفي فقرة أخرى يعاتب التلميذ أستاذه، ويكتب: ''ورغم كل شيء فقد كنت أحد أعمدة الفكر النازي''. شدني فكر ماركوز بسبب كتاب واحد هو ''الإنسان ذو البعد الواحد''. قرأته بسذاجة كبيرة، قبل أحداث أكتوبر 1988، واستخلصت أفكارا كثيرة طبّقتها على ظاهرة الحزب الواحد التي كنا نعيش بين ظهرانيها في تلك المرحلة. وأوجدت علاقة بين فكر ماركوز وظاهرة الأحادية السياسية من حيث صناعة الوهم وتزييف حاجات الإنسان وقمع الأساسية منها، للترويج لحاجات زائلة. وخلصت، في النهاية، إلى أن فلسفة ماركوز تقوم على تحليل نقدي ينفي المؤسسات الاجتماعية والسياسية، وهو ما أدى بنا إلى دراسة هيغل دون ماركوز، أي دون الحلقة العصرية للهيغيلية، كما برزت في كتابه ''هيغل ونشأة النظرية الاجتماعية'' (ترجمه إلى العربية الدكتور فؤاد زكريا). والحالة هذه، تجد نفسك كأنك تقرأ ''نهاية التاريخ'' من هيغل إلى فوكوياما دون ألكسندر كوجيف (صاحب الهاجس الهيغيلي). إن قراءة كتاب ''الإنسان ذو البعد الواحد''، كانت تعني بالنسبة إلي التحرر من محاولات الاحتواء، ورفض الرغبات والتطلعات التي تفرضها مؤسسات المجتمع. كانت الجزائر سائرة، خلال اكتشافي لماركوز، نحو مجتمع الاستهلاك، فبالتالي لم يكن من المعقول تدريس مفكر مثله، يرى أن تعظيم الاستهلاك يعد بمثابة توتاليتارية جديدة. ويرى أن للنخب المثقفة دورا نقديا، يعمل على توجيه الجماهير التي أغوتها المؤسسات الليبرالية الديمقراطية وجعلها تسير نحو الاستهلاك. وأسند ماركوز لهذه النخبة مهمة إيجاد إنسان متعدد الأبعاد، واعتبر أن الفن هو الملاذ النهائي، وهو القادر على تحقيق الانعتاق والتحرر من ''البعد الواحد'' ومن هيمنة العقل. ماذا تبقى من فكر ماركوز اليوم؟ عاد الحديث عن ماركوز بعد التسعينيات، وبروز تيار مناهض للعولمة. وبالفعل كان ماركوز قد تنبأ في منتصف الستينيات بحصول تجاوزات في المنظومة الليبيرالية، تؤدي إلى بروز ديكتاتورية السوق، وتحكم قانون الأقوى، وتراجع نفوذ الحكومات والبرلمانات أمام قوانين السوق.