في رواية "الأسود يليق بك"، لأحلام مستغانمي، لا يمكن الحديث عن فصل واضح بين الشواغل الفنية المختلفة التي يقدر لها أن تحوط بالعملية الإبداعية، وتحديدا عملية إبداعية على هذه الدرجة. وتفصيلا لذلك لا يمكن الفصل، مثلا، بين الشعري والسردي في هذا النص، وذلك إذا ما اعتمدنا المفهوم الواسع والمعاصر للشعرية. وحدها اللغة تحدد هوية النص، ووحده السياق يحدد دلالاته. في النص الذي تقترحه أحلام مستغانمي تنتفي معايير التصنيف على مستوى الموضوع، فلم يعد الأمر متعلقا بموضوع ما للرواية، بقدر ما هو متعلق بالنموذج البشري والإنساني الذي ترسم الكاتبة ملامحه وتتلمس آلامه وأحلامه وانكساراته، قوته وضعفه، استسلامه وعناده.. فالموضوع، في عمومه، لا يغدو شيئا يذكر أمام هذه القدرة على خلق النموذج البشري الإنساني الذي يحبه القارئ ويتعاطف معه، أو يمقته فيسخط عليه.. إن مقاربة نص "الأسود يليق بك" تقتضي التجرد من نظرتين: أولاهما النظرة الأخلاقية البحتة، التي تقود إلى ما يشبه المحاكمة ومن ثم إصدار الحكم على نص تخييلي في الأساس، وثانيتهما قراءة النص ضمن السياق التطوري لمسار الكاتبة الروائي، وذلك لتفادي الوقوع في مطبة المقارنة والموازنة، بحثا عن مضامن التجاوز أو التكرر. وأعتقد أن الفائدة التي يمكن أن تضيفها أي قراءة للنص هي ممارسة فعل القراءة في سياق النص الخاص، وليس في سياق المسار الإبداعي العام لصاحبه. إن هيمنة الشخصية النموذج على النص تدفع بها إلى الواجهة، فتصبح الموضوعات خلفيات لحركة الشخصية. والموضوعات هنا نوعان: موضوعات مخزنة في ذاكرة الشخصية (المعلمة القادمة من مدينة مروانة بالأوراس، هربا من جحيم الإرهاب إلى سوريا مسقط رأس أمها السورية، التي تتحول إلى مطربة يقع في حبها رجل ثري لبناني يخفق في اتخاذ ماله وسيلة لإغرائها وإذلالها، فتنتصر عليه بأنفة المرأة الجزائرية وكبريائها). وموضوعات تصنعها هذه الشخصية النموذج، ضمن حاضر العملية السردية، وهي كلها تفاصيل عن حياتها الفنية والعاطفية مع هذا الرجل الثري اللبناني. وقد أتاحت هذه النمذجة، بهذا الشكل من الحضور، تداولا على مستوى زمن الحكاية، إذ يتأرجح الحكي بين الماضي والحاضر.. وفي الزمنين كليهما تهيمن الشخصية النموذج، لأن كل العناصر المتصلة بالحكاية متعلقة بها، سواء ما متح منها من الذاكرة أو ما مورس في راهن السرد. وفي وضع كهذا تتحول الشخصيات الأخرى (الأب والأخ اللذان اغتالتهما الجماعات الإرهابية والحبيب الزميل في المدرسة والجد وهدى..) إلى ظلال وأشباح لا تملك من الوجود إلا قدر ما علقت به في الذاكرة. وبالمقابل، فإن الحاضر يعزز سطوة حضور الشخصية بما تضيف إلى مسار الحكاية من أفعال غير منجزة، أو على الأقل تكون هي شاهدة عليها أو مساهمة في إنجازها. ويتجلى الفضاء حيث تتحرك الشخصية النموذج، في الماضي أو الحاضر، لكن ثنائية الزمان تجر خلفها ثنائية الفضاء، إذ يمكن العثور على صنفين من الفضاءات: فضاءات في الذاكرة أو الماضي فقط وفضاءات في الحاضر فقط، ولا تقاطع بين الصنفين في ما يتصل بحركة الشخصية النموذج، في الصنف الأول الجزائر، من خلال مروانة وقسنطينة والأوراس. وفي الصنف الثاني دمشق وبيروت والقاهرة وباريس وفيينا.. وبينما يرتبط الصنف الأول بالاسترجاع، يرتبط الصنف الثاني براهن الحكاية وعملية إنجازها التي تتولاها الشخصية النموذج. من الطبيعي أن هذا المقام لا يتسع لتفصيل هذه المسائل، ولكن الغاية من ذلك هي إضاءة جوانب من البعد السردي في رواية "الأسود يليق بك"، غير أنه لا يكون من الإنصاف إغفال البعد الآخر في النص، وأعني به البعد الشعري. ثمة ميزة كرّستها أحلام مستغانمي، في هذا النص، كدأبها في نصوص أخرى، وهي الاشتغال الجيد والمتأنق على اللغة.. وهذا قد يقود إلى سؤال جوهري: هل أنجزت الكاتبة نصا سرديا محضا يكتفي بالحكاية كلبنة أساسية، أم تجاوزت ذلك إلى متاهات جمالية أخرى تتجاوز السرد من دون أن تلغيه؟ ويستدرج هذا أسئلة أخرى لعل أهمها: هل استحضرت أحلام مستغانمي الشاعرة الكامنة فيها وهي تنجز هذا النص السردي؟ إلام أفضت هذه المزاوجة البديعة بين نفس الكاتبة الروائية وانزياحات الشاعرة؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تحيل مباشرة إلى مقاربة طبيعة لغة النص، وإبراز إلى أي مدى حافظت الكاتبة على الحدود الوهمية التي تفصل بين لغة السرد ولغة الشعر، إذا كان ثمة من حدود أصلا. إذا كانت الغاية من الكتابة الأدبية هي الإمتاع قبل الإقناع، فإن ما حققه نص "الأسود يليق بك"، على هذا المستوى، لجدير بأن يحتفى به، وأزعم أن هذا الإمتاع تحقق على مستويين اثنين: متعة الحكاية وسحر الشعر. يتداخل المستويان في عملية صناعة النص حد التماهي، إذ تغدو شعرية الخطاب الوجه الآخر لسرديته، ذلك أن الموقع الطبيعي للشعرية هو حيث أريد لها ضمن منظومة العملية السردية، ومثل هذا الفعل يجعل أي محاولة للفصل بين الوجهين ضربا من العبث. إن شعرية الخطاب في رواية "الأسود يليق بك" تأخذ ملامحها من موقعها الطبيعي ضمن المسار السردي، كظاهرة مساهمة في تأسيس النص من دون أن تكون إقحاما يستدعي استشعارا بنشاز ما. ثم إن للسردية تلك الأبعاد الشعرية التي تحقق وجودها المواقف المختلفة للشخصيات والفاعلين في حركتهم. إنها سردية لا تستعير الشعرية، وإنما تتبناها عنصرا من عناصر حياتها. وحيث تنتفي الحدود الفاصلة بين السردي والشعري، في هذا النص، تغدو اللغة حمّالة الوجهين معا، إذ يجب القفز على المعايير التصنيفية المعهودة، والقول بأن لغة الشعر هنا هي ذاتها لغة السرد، إنها لغة واحدة تتضامن لخدمة النص، تحقيقا لأمر واحد هو الأمر الحتمي وأعني به الإمتاع. إن قراءة واعية لنص "الأسود يليق بك"، بعيدا عن الاعتبارات الذاتية أو غيرها مما لا يصدر عن متخصصين، كفيلة بوضعه في سياقه الإبداعي المتميز، الذي أزعم أنه يمثل حالة نادرة في مسارات الرواية العربية.