ما هذا ”العنوان”، وما معناه؟ وما هي أبعاده الحضارية في ظل هذه الأوضاع المشلولة بمرسوم؟ ولمن ولأي فترة كان هذا العنوان موجها؟ كثير من الأقلام لا يدركون الفروقات بين طرفي هذا العنوان لأنهم لا يملكون بوصلة مغناطيسية تجذب إليهم بطريقة لا شعورية كل كلمة وكل فقرة يرد فيها اسم الجزائر. لكن صاحب ”هذا العنوان” مسكون بحالة لا شعورية تنتابه كلما تأزمت أوضاع الجزائر، وتريد حروف العلة أن تجعل من الجزائر حروف علة تحذف، بحروف جازمة من فرنسا التاريخية. من هذه الحيثيات المؤلمة عقدنا العزم أن نبحث عن جزائر المعاني، متسائلين كيف نستعيد ذاكرتنا المفقودة؟ كيف نلج طريق التفكير والإنصات؟ لتكن ”عرفانية (المتصوفة) وعقلانية (المعتزلة) منهجين ينيران لنا الطريق، ولتكن تجربة استعادة الوعي المفقود بفعل تضليل الشعارات، التي كانت عكس المآلات، هامشا معاصرا يسافر بنا في اتجاه الإقامة في جزائر المعاني والملاحم، التي يكاد يقتلنا الحنين إليها.. سفر رمزي يصعب وصفه بالمغامرة باهظة الثمن، لأنه عودة إلى ”جزائر المعاني” إلى وعينا الذي اختفى وراء ألف حجاب من الفساد والإفساد المبرمجين. لتكن ”عرفانيتنا” و«عقلانيتنا” إضاءات تعلمنا كيف لجزائر المعاني أن تسترجع معناها الملحمي؟ وكيف نرى بوضوح داخل خلية كل كلمة صادقة، ونحس بأصدق الكلمة، هو فجر متنام نرى فيه جزائر المعاني، بعد أن نزيل علامة الاستفهام التي بعثت فينا شكا يقتل الذاكرة التاريخية التي أعادت بعث جزائر المعاني التي نصّ عليها البيان النوفمبري، وخاصة في مادته الثالثة: (إعادة بناء الدولة الجزائرية.. في إطار المبادئ الإسلامية). إن الكتابة التي تستوجبها ”جزائر المعاني” هي كتابة صعبة، وتبدو مستحيلة في أوضاع ملغّمة ومشلولة، والتي كثرت فيها الخزعبلات الإصلاحية عن طريق محاورة حروف العلة لبعضها البعض، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قلت فيها- للأسف الشديد- المصارحة التي تنفتح على ما هو أكثر إيلاما وسرية في محاولة إعادة صناعة التضليل. ومع ذلك يظل البحث عن جزائر المعاني مطروحا: إنها تريد قلما عاشقا لها، قبل أن يفك رموز التآمر الذي يحيط بها من طرف حروف العلة والأفعال الناقصة. إن الأمر يبدو، وكأن البحث عن جزائر المعاني يتطلب عشقا مزدوجا: عشق التضحية في سبيل البحث عنها، وعشق القراء لتلك الكتابة. هذه الجدلية العرفانية التي سيعرفها كل نوفمبري أصيل: تحوّله من حب الجزائر كمعاني ملحمية إلى حب الألم والمعانات من أجلها أو بتعبير صوفي التحلية والتخلية. لكن قبل ذلك كله وبعده تطرح هذه العرفانية الإشكالية التي تتوقف عليها أزمتنا المبرمجة: كيف يمكن تحرير الجزائر من اللامعنى؟ أو بتعبير عرفاني كيف نحرر الروح الجزائرية من عقالها؟ هذه الروح سجينة مغلولة، مقيدة بأصفاد الفساد المبرمج، فمن يحررها؟ من سيحل عقدة الفساد الموجعة؟ لكن الأكثر درامية هو أننا مازلنا لا نشعر بأننا مقيدون على العكس، فإن السواد الأعظم من الناس يعتقدون بأنهم أحرار، بل يستغربون كيف نثير هذه المشكلة غير الموجودة أصلا: ”ولكن أكثر الناس لا يعلمون”، والناس من شدة البكاء يضحكون، على حد قول نزار قباني. السبب في ذلك: هو التمييع والتزييف والتضليل الذي طال أكثر من عقد من الزمن. وهذه أعلى درجات الغياب والاستلاب، أكبر مشكلة في الجزائر أننا لا نشعر بوجود أزمة عميقة تغطيها حلول مسمومة. وأكثر درجات العبودية أن نشعر أننا أحرار ونحن مقيدون بأصفاد المكر والحقد وروح الانتقام. متى حصل تلويث الروح الجزائرية لأول مرة؟ متى بدأت تدخل في الشرنقة المسمومة وتسكت عن هذا التسمم المبرمج؟ من الذي سلبها ملحمتها؟ متى أحبطت وهبطت درجة ملحمتها شيئا فشيئا؟ من الذي أشلها عن الحركة والمبادرة والمغامرة؟ كيف استكانت لكيد الكائدين الذين يرزحون على صدرها أكثر من عقد من الزمن؟ هذه هي أهم الأسئلة التي يجب طرحها. وهي لا تزال تنتظر بفارغ الصبر من يفككها أو يحفر حوليها. وعندما أتحدث عن تحرير الروح الجزائرية فإني لا أقصد شيئا مثاليا كما قد يتوهم بعض أشباه الكتاب بمرسوم، وإنما أقصد معادلا موضوعيا، الروح الجزائرية التي أصيبت بداء الانتماء الذي يبحث عن حاضنة مدمرة لوجوده. واستسلمت واستكانت وعجزت عن انتشال نفسها. فالمعركة طويلة ومعقدة، ولن نصل إلى جزائر المعاني إلا إذا نجحنا في عملية التشريح والتشخيص لنفسية الشخصيات اللاوطنية المستعارة لجزائر منهارة حضاريا وتاريخيا وثقافيا.. وللحديث بقية. جامعي وباحث [email protected]