مازال مؤتمر الصومام، بعد ثمانٍ وخمسين سنة من انعقاده، لم يكشف بعد عن كل أسراره، ولم يتمكن المؤرخون من فك كل ألغازه. ومازال المجاهدون الأحياء الذين عايشوا الحدث مختلفين حول تفاصيل كثيرة، منها مدة انعقاد المؤتمر. "الخبر" تعود إلى مكان الحدث، لتستنطق التاريخ وبعض الفاعلين فيه مع هذا الريبورتاج الذي عاد إلى الكثير من الحقائق. يقول رشيد أجعود، آخر سكرتير خاص للعقيد عميروش، وأحد الضباط الذين شاركوا في توفير الدعم والإسناد، والمكلف بتجهيز الغرفة الصغيرة التي دخلها الخمسة من كبار الثورة، إن ”مؤتمر الصومام لم يكشف بعد عن كل أسراره، وبعضها لن يكشف عنه أبدا”. وأرجع ذلك إلى خصوصية الثورة الجزائرية، مضيفا أن التحضير لمؤتمر الصومام ”بدأ منذ عدة أشهر، وكان تاريخ 20 أوت مجرد لقاء للتوقيع على المحاضر المسلمة للقادة، واستمرت عملية استلام المحاضر إلى غاية يوم 10 سبتمبر”. يؤكد رشيد أجعود أن مؤتمر الصومام أكبر معجزة حققتها الثورة الجزائرية، من خلال الأهداف المسطرة والمحققة، منها شعار الثورة الذي حذف من مناهج التعليم لأسباب مجهولة، وهو ”مؤتمر من أجل ضمان استمرارية الثورة”، واعتبر أن مؤتمر الصومام هو ”بمثابة النفس الجديد للثورة بعد عامين من الكفاح”، وأضاف أن البعض ”لايزال بعد أزيد من خمسين سنة، يعتقد أن بيان أول نوفمبر كان كافيا لتسيير الثورة بدلا من مؤتمر الصومام”. يمثل مؤتمر الصومام بالنسبة للمجاهد والمؤرخ جودي عتومي الذي ألف عدة كتب تاريخية حول العقيد عميروش، إحدى المحطات الرئيسية في تاريخ الثورة، ولولاه لما بلغت ما بلغته، باعتبار أن مؤتمر الصومام دعمها بالأسس التي تضمن لها الاستمرارية، وتحقيق الأهداف المنشودة. وبالنسبة إليه، فإن مؤتمر الصومام له سمعة داخلية وخارجية، وأن الجاحد وحده قادر على التنكر لما فعله مؤتمر الصومام بالنسبة للثورة. غرفة صغيرة زلزلت الأرض تحت أقدام فرنسا دخلنا رفقة عدد من المجاهدين الذين حضروا إلى قرية ”افري”، القاعة الصغيرة التي احتضنت مؤتمر الصومام، حيث لاتزال خمسة كراسٍ صغيرة تحيط بمائدة تقليدية تكاد تلامس الأرض، حولها جلس ذات يوم من 20 أوت 1956 كل من عبان رمضان، كريم بلقلسم، اعمر اوعمران والعربي بن مهيدي ولخضر بن طوبال، وتحت سقف هذه الغرفة المبنية من الطين المجفف زلزلوا أركان الاستعمار الفرنسي عن طريق القرارات والنتائج التي خرج بها اللقاء، فقد أسست وثيقة الصومام المجلس الوطني للثورة الجزائرية ودعمته بصلاحيات التفاوض مع الاحتلال وأعطت له صلاحيات تقرير مصير الثورة، وهو من يعين قادة الولايات العسكريين والمحافظين السياسيين، وكان في بدايته يضم 34 عضوا نصفهم دائمون، قبل أن يتقرر رفع العدد إلى 54 عضوا نصفهم دائمون. وولدت من المجلس الوطني لجنة التنسيق والتنفيذ التي يسميها البعض ”مجلس الحرب”، وتملك صلاحيات التخطيط العسكري وبالتالي تقسيم الجيش إلى جناحيه العسكري والمدني، وتحديد نظام الرتب وغيرها، إلى جانب تأسيس اللجنة السياسية والاستعلامات، وكذلك تقسيم التراب الوطني إلى ست ولايات، منها الولاية الثالثة التاريخية التي احتضنت المؤتمر. وأكد كل المجاهدين الذين التقت بهم ”الخبر” أن المائدة التي كانت بالبيت خاصة بالقادة الخمسة دون غيرهم، وكثيرا ما يخرجون إلى الساحة للاطلاع على الوضع وتفقد المحيط وجس نبض بعض الأعوان. وحسب الضابط رشيد أجعود، فإن 98 في المائة من المجاهدين المتواجدين بقمة ”افري” ”لا يعرفون شيئا عن الحدث وأكثر من ذلك، كل واحد التزم موقعه ولا يربطه اتصال بمجاهد آخر، وكانت جميع الحركات تتم تحت العين الساهرة للقائد فضالة احمد المدعو ثوريا ”سي حميمي”، وكان هذا الأخير يعرف ما يحدث، لكن لا أحد غيره تجرأ على الاقتراب من محيط القاعة”. يقول أجعود إن القادة الخمسة يناقشون ويقررون، وبعدها يخرج اوعمران حاملا أوراقا مكتوبة باليد، فيسلمها لملازمين من منطقة ”القصر”، وهما صالحي حسين وطاهر عميروشن، ليقوما برقنها على الآلة الكاتبة التي قاما بسرقتها من محكمة ”القصر”، حيث كانا يشتغلان كتاب ضبط، قبل الفرار والالتحاق بالثورة، ليتحولا إلى جنديين تحت إمرة العقيد عميروش. ويواصل أجعود الشرح يقول إن فريق الحراسة ظل واقفا بمكانه لأزيد من عشرة أيام كاملة، رغم انصراف القادة بعد جمع كل الوثائق، حتى غير الضرورية منها. وأكد أن المئات من المجاهدين الذين حضروا أشغال المؤتمر، عرفوا الحقيقة مثلهم مثل الرأي العام المحلي والدولي، فأدركوا بعدها أنهم كانوا شهودا على حدث عظيم، وساهموا في نجاحه دون أن يدركوا ذلك في حينه. ولتأكيد أهمية المؤتمر استحضر المجاهد أحمد عزوق من دوار أوزلاغن بعض ما ورد في كتاب بلعيد عبان الذي قال فيه إن جبهة التحرير جعلت وثيقة مؤتمر الصومام بمثابة بوصلة في سفينة كبيرة متجهة نحو شاطئ الانتصار على الاحتلال، وأن مؤتمر الصومام أسس لجزائر جديدة، جزائر المؤسسات، وقضى على ادعاءات فرنسا بأن الثورة الجزائرية قضية داخلية فرنسية، وقال إن المؤرخين أصابوا حين أكدوا أن مؤتمر الصومام وضع الثورة في مدار النصر والانتصار. متحف افري.. تحفة في طريق الاندثار لا تعكس الوضعية التي يتواجد عليها ”متحف افري” السمعة الوطنية والدولية التي يتمتع بها، إذ يحتاج إلى دعم أكبر حتى يكون في مستوى الحدث الذي صنعه قبل 58 سنة. لم يكن الوصول إلى متحف افري بأعلى قمة الجبل هينا، رغم أن المسافة التي تفصله عن الطريق الوطني لا تتعدى ثمانية كيلومترات، لكن المرتفعات والجبال الشامخة والدروب الوعرة، جعلت الرحلة القصيرة شاقة جدا، خاصة أن الطريق المؤدية إليه ظلت لسنوات متهرئة، ومستعملوها يشكون ضيقها. بالنسبة لبعض سكان افري، فإن قادة الثورة أحسنوا اختيار الموقع، لأنه يضمن لهم الحماية، ورجال الرائد سي حميمي يتحكمون جيدا في تضاريس المنطقة، وهو ما تعكسه محتويات المتحف، حيث نجد أول طائرة هيليكوبتر أسقطتها الثورة بالوسائل التقليدية في منطقة الصومام، وحطامها مازال قائما إلى اليوم، وعددا هائلا من القنابل غير المستعملة والأسلحة التي استعملها الثوار. وما ينقص المتحف، حسب الزوار، هو الأرشيف المكتوب من الوثائق الإدارية التي تداولها واستعملها المجاهدون خلال المؤتمر وآلة الرقن التي سرقت من محكمة القصر من طرف الشهيد عميروشن طاهر. ويؤكد مجاهدون أن وثائق كثيرة في غاية الأهمية مازالت في حوزة عدد من المجاهدين الأحياء، وأسر الشهداء يرفضون تسليمها للمتحف أو للجهات المعنية دون معرفة الأسباب. وبحثا عن الحقيقة، اتصلنا، قبل أيام، بالمجاهد أحمد عزوق الذي يملك كمية كبيرة من الوثائق التاريخية، حيث لفها بإتقان داخل قطعة قماش ولم يتردد في عرضها على من يشاء أن يستنسخ منها نسخا، لكن يرفض أن يسلمها لأي أحد، وقال إنه من المستحيلات، مبررا موقفه بقوله ”إن الإدارة البيروقراطية لا تعي أهمية مثل هذه الوثائق”، موضحا بأنه تحصل على هذه الوثائق بالصدفة من عند مجاهدة كانت مطاردة من قبل مجموعة من الحركى الذين بلغهم خبر حصولها على وثائق مهمة، وبحكم أنه مجاهد ومن معارفها سلمته إياها ليقوم بدوره بإخفائها في مكان آمن وسط القرية، قبل أن يطرد الجميع منها، بعد شروع الفرنسيين في قصفها ليستعيدها بعد الاستقلال. الجحيم بعد المؤتمر! أصرّ الكثير من مواطني قرى افري أوزلاغن على التطرق لمرحلة ما بعد المؤتمر، حيث يقول داعلي ابرقان، الذي عاد بنا إلى شهر سبتمبر من سنة 1956 قائلا: ”إنه بمجرد انصراف قادة الثورة وانسحاب المجاهدين تشكلت أسراب من الطائرات الفرنسية في سماء المنطقة وتحركت المئات من الدبابات وشرع الآلاف من الجنود في محاصرة المنطقة، قبل أن يصدم الجميع بإدراكهم لفوات الوقت، لتعطى الأوامر بداية من الرابعة زوالا، وبعد أربع ساعات فقط من الإنذار بالقصف العشوائي والوحشي على القرى، حيث أمطرت الطائرات مئات القنابل ومسحت الدبابات الأرض بينما يطلق الجنود الرصاص على الفارين، وحتى القطع البحرية الراسية بالميناء كانت تقصف مناطق محددة، ولم يكد الليل ينجلي حتى سويت جميع المنازل بالأرض، بينما المحظوظون من السكان تم إدماجهم في أحياء وسط أوزلاغن”.