قصص ومكالمات تعكس يوميات المواطنين سمحت لنا المديرية العامة للأمن الوطني بولوج إحدى القاعات الحساسة لمصالح الشرطة بالعاصمة، وهي ما يعرف في أبجديات الشرطة “قاعة العمليات”، ومعروفة أكثر لدى الجميع بالرقم الأخضر “48-15” وشرطة النجدة 17، فوقفنا على عمل أعوان يستقبلون مكالمات سكان العاصمة دون انقطاع، بعضهم يستغيث، وبعضهم يطلب معلومة، وبعضهم الآخر “يجوز الوقت”. في يوم عرفت فيه العاصمة حادث انحراف قطار العاصمة الثنية، أُذن لنا بدخول إحدى القاعات السرية لأمن ولاية الجزائر، ألا وهي قاعة العمليات، رفقة مسؤول خلية الاتصال لأمن ولاية الجزائر، وهي القاعة التي تستقبل كافة مكالمات مواطني العاصمة للاستغاثة أو لتبليغ حول حادث ما، لنقف على طريقة عمل المصلحة، فكانت لنا دردشة مع الأعوان كلما توقف رنين الهاتف، حتى إن كان لا يتوقف أكثر من دقيقة على أقصى تقدير، فالقاعة تستقبل آلاف المكالمات. بقاؤنا لساعات من المساء إلى بداية السهرة غيَّر نوعا ما الفكرة التي كانت لدينا حول طبيعة المكالمات التي تستقبلها المصلحة، فكنا نظن أنها تقتصر على التبليغ على الجرائم والاستغاثة، لنقف على تشعب المكالمات لأشياء أخرى، كما اكتشفنا أن المعمول به هو الرد على كل الطلبات، وهذا ليس بناء على تصريحات أعوان الشرطة أو القائمين على القاعة، لكن تأكدنا بأم أعيننا كما سنراه لاحقا. “ختي يرحم باباك واد اوشايح راهي مغلوقة” ولم تمر دقائق على تواجدنا بقاعة العمليات حتى وقفنا على مكالمة لم يخطر ببالنا أنه يمكن إجراؤها على الرقم 48-15، فقد تلقت إحدى الشرطيات المكلفات بالرد على المواطنين، مكالمة من شاب كان في سيارته على مستوى نفق واد اوشايح في ساعة الذروة فقال “ختي يرحم باباك واد اوشايح راهي مغلوقة في النفق، مادابيك قوليلهوم”، بمعنى الرجاء الاتصال لإعلام زملائك، وكان يقصد حاجز الأمن الواقع قبيل مدخل النفق من الناحية الشمالية، وبعد أن أقفلت الخط اتصلت الشرطية بزميل لها وأعلمته أن مواطنين يتصلون ويعتبرون أن هناك ازدحاما ضخما بوادي اوشايح. وهنا قالت لنا “غالبا ما نستفسر عن سبب الازدحام فنجد أن الأمر يتعلق بحادث مرور أو عدد معتبر من المركبات، كما يتوجب علينا إعلام المصلحة المعنية من وجود مشكل في نقطة ما حسب اتصالات المواطنين. قصص إنسانية بين مكالمة وأخرى، كنا نتحدث إلى السيدة نادية رئيس الفرقة التي كانت تستقبل المكالمات، والتي قضت 21 سنة في المصلحة، وطلبنا منها أن تحدثنا عن بعض المكالمات الطريفة، وأول ما ذكرته قصة القط الذي كان عالقا فوق الشجرة، وراحت تروي “منذ فترة اتصلت بنا سيدة لتعلمنا أن قطها عالق في الشجرة، لا أخفي عليك أنه في الوهلة الأولى أصبت بالدهشة، لكن بالتشاور مع رئيس القاعة قررنا مكالمة مصالح الحماية المدنية وحتى إيفاد فرقة للشرطة، وظل الجميع في القاعة هنا يتابع القضية أولا بأول، إلى أن بلغ مسامعنا نبأ إجلاء القط من أعلى الشجرة، وكان هذا تحولا في طبيعة عملنا، فالأمر يتعلق أولا بقضية ذهنيات، فالكل يحق له أن يغاث حتى ولو كان هرا”. غير أن السيدة أضافت “في الحقيقة وبحكم طبيعة عملنا، أكثر ما نحتفظ به في ذاكرتنا تلك القصص الإنسانية التي تصيبنا في أعماقنا، وسأروي لكم إحداها وهي حديثة، فمنذ حوالي شهر تقريبا أو أكثر، عرفت العاصمة رياحا عاتية، فرن الهاتف وكانت إحدى الفتيات في الاستقبال، وكم كانت دهشتها لما قال له المتصل إنه على متن قارب صيد رفقة صديقين وهم عالقون وسط العاصفة على بعد أميال بحرية من ساحل العاصمة، فقمنا بالاتصال بالحماية المدنية وحراس السواحل، وريثما وصلوا إليهم، ظل الجميع وخاصة الشرطية التي استقبلت المكالمة يتحدثون إليه، وانفجرت الشرطية بالبكاء لما قال لها إنه سيموت بعد لحظات، ولن يتمكن المغيثون من الوصول إليه، وانفجر الجميع بالبكاء، خاصة أن المجموعة التي كانت تعمل في ذلك اليوم كانت مشكلة من فتيات، فكان حقا “سوسبانس”، “ولكم أن تتصوروا الفرحة التي عمت القاعة لما وصلت فرق الإغاثة، فنمنا كلنا جميعا تلك الليلة نوم هادئا، وازددنا فرحا لما اتصل بنا المغاث يوما بعد ذلك على 48-15 دائما ليشكرنا على ما قمنا به، ولا يوجد أحسن تكريم من هذا”. “آلو لابوليس.. عيطو لي بومبيي” الأغنية الشهيرة للمازوني “لابوليس عيطو الجادارمية”، وجدت كل معانيها في تلك الساعات التي قضيناها مع “آلو الشرطة”، فعدد كبير من المتصلين يطلبون من مصالح الشرطة الاتصال بمصالح أخرى، كالحماية المدنية، بعد تأخر وصول سيارة إسعاف، أو “سونلغاز” لانقطاع الكهرباء، وهنا يقول محدثونا “لما يتعلق الأمر بحالة مستعجلة نتصل مثلا بمصالح الحماية المدنية لإيفاد فرقة، وأحيانا نمنح المتصل أرقام مصالح سونلغاز لما يتعلق الأمر بانقطاع بسيط للكهرباء”. ونحن نتنقل بين أعوان الشرطة، التقطنا مكالمات كثيرة غريبة، كذلك الذي طلب عنوان سفارة اليابان، أو الشخص الذي طلب معلومات عن سير القطارات بعد حادثة القطار، وهنا خرج رئيس قاعة العمليات المحافظ هاشمي شريف بالخبر اليقين، وأعلم أعوانه أن قطارات الضاحية تسير انطلاقا من محطة الحراش، وطلب من الأعوان الحاضرين إعلام زملائهم في الفرقة الليلية بهذه المعلومة حتى يتم إبلاغها لمن يطلبها. أما بالنسبة للذين يطلبون عناوين، ففي كل حاسوب بقاعة العمليات توجد عناوين أهم الهيئات الرسمية كالوزارات ومختلف الإدارات وحتى السفارات، ويتم إعلام المتصل وأحيانا إرشاده إن كان غريبا عن الجزائر العاصمة. ولما تتحدث أيضا إلى الأعوان تكتشف أن فصل الشتاء، عكس ما قد يعتقد البعض، يمثل الفترة من السنة التي تكثر فيها الاتصالات بسبب تسربات المياه والفيضانات، وليس فصل الصيف. خصوصية الفترة الليلية تواجدنا بالقاعة كان منذ بداية المساء، حيث تركزت المكالمات حول اختناق حركة المرور وبعض المعلومات، غير أنه باقتراب ساعات الليل بدأت مكالمات من نوع آخر، كالذي اتصل من حي شعبي شرق العاصمة ليعلم الشرطة بتواجد أشخاص مشبوهين يتناولون المخدرات بمدخل العمارة، وآخر يتكلم عن شخص يحمل سيفا ودخل في نزاع مع آخر. كما اتصل شخص آخر للتبليغ عن تواجد شبه يومي لمجموعة تستهلك المخدرات بحيه، فردت عليه الشرطية بالاتصال مرة أخرى فور مشاهدته لهم لإرسال فرقة متنقلة لإلقاء القبض عليهم. ولاحظنا أيضا أنه يمكن أن يكون المتصلون شرطيين في حد ذاتهم، غير أنهم في راحة، فيتصلون بالقاعة لإعلام زملائهم بوقوع أمر ما ويقومون بتقديم أنفسهم. حضورنا في القاعة تواصل لقدوم الفرقة الليلية التي كان سيقع على عاتقها استقبال المكالمات حتى الصباح، وقال لنا أحد الأعوان “الكثير من المكالمات لأشخاص كما نقول فارغين شغل، لكن يجب أن نأخذ بجدية كل المكالمات حتى التأكد من عدم جديتها، فقد تكون حياة شخص مهددة، ومكالمات المستهزئين ستبقى، وعلينا اتخاذ الإجراءات اللازمة في حالة تجاوز الأمر ما هو مسموح به. نقول فقط لهؤلاء إنه في الوقت الذي تتصل للاستهزاء ربما يكون شخص في حاجة ماسة لربط الاتصال بنا لإنقاذ حياته أو حياة شخص آخر”.
هاشمي شريف رئيس قاعة العمليات ل “الخبر” “نستقبل أكثر من 1400 مكالمة يوميا”
قال محافظ الشرطة هاشمي شريف رئيس قاعة العمليات لأمن ولاية الجزائر، إن المصلحة تستقبل يوميا 1400 مكالمة من قبل مواطنين في حالة خطر، وآخرون يطلبون معلومات، مضيفا “بعض الطلبات لا تدخل في صلب مهامنا لكننا نتعامل معها، فلا يحق لنا رد طلب حتى من يسأل عن طريق الوصول لمقر هيئة عمومية مثلا”. قبل أن نقضي ساعات رفقة أعوان استقبال المكالمات على خط “48-15” و17 شرطة النجدة، جمعتنا دردشة مع محافظ الشرطة هاشمي شريف مسؤول غرفة العمليات منذ 2001، المتحدث الذي استقبلنا في مكتبه البسيط قال إن تسيير مصلحة مثل هذه يستوجب خلق جو عمل يدفع الأعوان إلى تقديم الأفضل والتضحية، دون نسيان السهر على الانضباط الذي لا مفر منه للسير الحسن، لهذه المصلحة التي وصفها بهمزة الوصل بين المواطن ومختلف مصالح الشرطة، ووصف طريقة التسيير عدة مرات خلال الساعات التي قضيناها في غرفة العمليات “يد من حديد ترتدي قفازا من حرير”، وظهر ذلك جليا من اللباقة التي يتعامل بها مع أعوانه، لباقة لا يفارقها الاحترام. ويقول المحافظ “أقضي معهم أحيانا 12 ساعة في اليوم أو أكثر، يجب أن يكون جو العمل ملائما، ولا ننسى أن هؤلاء الأعوان يقضون ساعات في استقبال المكالمات، وهذا أمر مرهق”. قاعة أو غرفة العمليات رأت النور مع ميلاد الشرطة الجزائرية، وعرفت على مر السنين تطورا بفعل تطور التكنولوجيا، ويقول هاشمي شريف في هذا الصدد “تشرفت بالعمل في الميدان، وتشرفت بأن أكون شاهدا على التطور المتواصل الذي عرفته التقنيات التي استعملناها ونستعملها اليوم، فالطفرة موجودة، وإدخال الإعلام الآلي على قاعة العمليات كان مبكرا في سنة 2001، ونحن اليوم كما تشاهدون نستعمل أحدث التقنيات، ونفتخر أن بعض البرامج إنتاج جزائري 100%، وبالتحديد من قبل مهندسين في الإعلام الآلي للمديرية العامة للأمن الوطني”. 1400 مكالمة والرقم مرشح للارتفاع وعن عمل قاعة العمليات التي تستقبل مكالمات الرقم الأخضر “48-15” وشرطة النجدة 17، كشف المتحدث أنه يتم استقبال أكثر من 1400 مكالمة يوميا من قبل مواطني إقليم أمن ولاية الجزائر الشاسع، ويضيف “استقبال المكالمات يتم من قبل 6 أعوان”، وعن سؤال إن كان العدد كافيا قال “حاليا هو كافٍ، 6 عناصر هم عناصر لفرقة واحدة، وهناك تداول بين 4 فرق، وحاليا هو كافٍ وسنرفع العدد إن اقتضى الأمر ذلك طبعا”. وعن سؤال حول بعض المواطنين الذين يشتكون أحيانا من طول المدة لاستقبال مكالماتهم قال “الأكيد أنه ليس لغياب الأعوان أو شيء من هذا القبيل، فهذا مرده تشبع الخطوط، يجب أن نعلم أننا نعمل وفق خطوط مجمعة، وأحيانا يكون هناك ضغط، فكل شيء مدون، وهذا ليس لغة خشب، فنحن متأكدون من جسامة المسؤولية الواقعة على عاتقنا، فالمتصل ربما في حالة خطر، وسترون بأعينكم وستكتشفون وتستمعون لقصص وقعت للأعوان، فبعضهم لا يغادر منصب عمله حتى يتأكد أن الشخص الذي اتصل والذي كان في حالة خطر وصلت إليه فرق الإغاثة من شرطة أو حماية مدنية”. ودائما عن طبيعة العمل يقول “المكالمات التي نتلقاها لا تقتصر فقط على طلب النجدة، فبعض المتصلين يطلبون معلومات مختلفة كعنوان سفارة أو هيئة عمومية، وحتى هذه الطلبات نقوم بالتكفل بها، بل هناك حتى من يشتكي من تراكم النفايات في حيه، وهنا أيضا نقوم بالاتصال بالجهات المعنية لإيجاد حل لهذا المشكل”. الجزائري متعاون مع الشرطة وكاد المحافظ أن يقفز من كرسيه لما قلنا له إن الفكر السائد يفيد عدم تعاون الجزائري أو نقص الحس المدني لديه للتبليغ عما يراه منافيا للقانون، فرد “أفنِّد هذا قطعا، ومنصبي المتواضع يسمح لي أن أؤكد لك العكس تماما، وسترون ذلك عند دخولكم القاعة، فالجزائري متعاون، وهناك أمثلة عديدة، فمكالمات كثيرة لمواطنين سمحت لفرقنا المتنقلة بتوقيف لصوص في حالة تلبس وغيرها من القضايا، ويحدث أن تصلنا 20 مكالمة أو أكثر حول حادثة واحدة، كحادث مرور، ومن هذا الجانب نحن جد مرتاحين من تعاون المواطنين”.
برنامج معالجة المكالمات 100% “أزرق” ❊ قال المسؤول التقني الذي يرافق عمل قاعة العمليات إن البرنامج الذي يستعمله الأعوان لاستقبال وتسجيل بيانات المكالمات طُوّر من طرف مهندسي الإعلام الآلي التابعين للمديرية العامة للأمن الوطني، وقال “وهذا مفخرة لنا”، وأضاف “البرنامج قيد التطوير وسيتم استغلاله قريبا وسيقدم خدمات إضافية لتسهيل عملهم من جهة، ومن أجل تحسين أداء القاعة وتدوين مختلف البيانات”.