تضاعفت في السنوات الأخيرة النداءات الموجهة إلى الجيش للتدخل في الحياة السياسية من أجل وضع حد للأزمة والعمل لتحقيق انتقال ديمقراطي. وتصدر هذه النداءات من حركات سياسية مختلفة، وتتضمن بعض الفرقات الصغيرة تسمح بالتمييز بين أصحابها. لكنها مبنية، بصفة عامة، على تحليلات متقاربة. هذه النداءات تبين حدود مشاريع الانتقال الديمقراطي، وتجعلها ضعيفة وغير منسجمة. 1- الجيش في قلب النظام السياسي إن النداء الموجه إلى الجيش مبني على فكرة، صريحة أو ضمنية، أنه لا توجد أية قوة سياسية قادرة على فرض إصلاحات تسمح بإدخال الديمقراطية على النظام السياسي. هذه الفكرة صحيحة بما أن المنظمات السياسية، النقابات والجمعيات الحاضرة في الساحة السياسية، غير قادرة على صياغة أهداف واضحة، وحشد جهات مهمة من المجتمع من أجل الدفاع عنها وفرضها. بطريقة أخرى، يتم اللجوء إلى الجيش بسبب انعدام وجود قوة سياسية قادرة على تحقيق الإصلاحات الديمقراطية ووضع حد للأزمة، حيث إنه لا يمكن تحقيق التغيير دون تدخّل المؤسسة العسكرية. يستند هذا التحليل أيضا على نقاط غير معلن عنها، والتي لابد من توضيحها. في الواقع، لا يجب أن تنسينا النداءات الموجهة للجيش أن قيادته كانت دائما في محور النظام السياسي. إذا اكتفينا بذكر بعض جوانب تولي الجيش للسلطة، فسنذكر أن كل رؤساء الدولة منذ الاستقلال عام 1962 قد تم اختيارهم، في ظروف مختلفة، من قِبل القيادة العسكرية. إن بحوثا قام بها مراقبون أو جامعيون تبين ذلك، ومسؤولون سياسيون سابقون يؤكدون الأمر عندما يبتعدون عن الميدان السياسي. لا يستطيع أحد تجاهل الاستيلاء القوي للقيادة العسكرية على الحياة السياسية للبلاد، التي يمثل فيها رئيس الدولة نقطة مهمة جدا: يمثل الدولة على الصعيد الوطني والدولي، وهو الهيئة الرئيسية في المجال الإداري. سنذكر جانبا آخر ذا أهمية: لقد اشتغل النظام السياسي الجزائري، بطريقة دائمة، بتنظيم “سياسي- عسكري” حصل على تسميات مختلفة، ولكنه مكّن القيادة العسكرية من أن تكون في مركز السيطرة على كل الأعمال السياسية والاقتصادية والاجتماعية. في ظل هذه الظروف، لا يمكننا إلا التساؤل حول قدرة المؤسسة العسكرية في تغيير وضع ساهمت بقوة في خلقه، ولعبة سياسية هي من يملي قواعدها. إن مطالبة الجيش بتغيير النظام هو تجاهل لأمر بديهي، وهو: القيادة العسكرية في قلب نظام ساهمت في تشكيله، وذلك مثلا باختيارها للشخصيات السياسية، وبتأثيرها القوي في الخفاء في تحديد توجيهات البلاد. من ثم، استنادا على أية قوى، يأمل المنادون بتدخل الجيش إقناعه بتغيير دوره وذلك بالتحول من ديمقراطية واجهة، تخفي بالكاد نظاما متسلطا، إلى مرحلة انتقالية يطمح حقيقة من خلالها لفتح عملية ديمقراطية؟ هل تتناسى النداءات الموجهة إلى الجيش أن القيادة العسكرية، التي طلب منها عدة مرات سحب الثقة من رئيس الدولة بسبب حالته الصحية، لم تتمكن من الوصول إلى اتفاق، دون شك بسبب الانقسامات القائمة في داخلها، في الوصول إلى خيار غير ذلك المتمثل في ترك الوضع السياسي على حاله، خاصة في ظل الوضع الجيوإستراتيجي القائم؟ بصفة عامة، تطرح الأسئلة ذاتها نفسها عندما يكون النداء الموجه إلى الجيش غير مصاغ بطريقة واضحة، وعندما يقترح عقد حوار خال من الشروط مع المتسلطين على الحكم، من أجل الوصول إلى إجماع وطني. فإذا تقبلنا فكرة أن السلطة في قبضة القيادة العسكرية، فسينظم الحوار مع هذه الأخيرة في الواقع. كيف يمكننا إقناع الحاكمين بتغيير نظام سياسي يسمح لهم بالحكم؟ لأية شخصيات سياسية سيفتحون أبواب سلطة يملكون مفاتيحها؟ أية قوى سياسية واجتماعية يمكن تجنيدها من قِبل هؤلاء الذين ينادون الجيش أو بصفة عامة النظام من أجل انتقال ديمقراطي؟ مصطلح “إجماع وطني” في حد ذاته مصطلح مستخدم من قِبل النظام الحالي.. مصطلح غامض، وبالتالي يعاد طرح مسألة المشروع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يمكن أن يكون محل إجماع.
2- النداءات الموجهة للجيش والانتقال الديمقراطي: مشاريع ضعيفة أصحاب النداءات الموجهة للجيش أو النداءات الداعية للحوار من أجل الوصول إلى إجماع وطني يبنون تحاليلهم، في غالب الأحيان، على كون النظام معرقل في عمله، ويمر بأزمة ويتطلب تغييرات، من أجل تجنب قيام فوضى في الوطن وخراب مستقبله. والحقيقة هي أن هذا النظام هو نتيجة أزمة وانقلاب منذ عام 1962. من ذلك فهو غير شرعي منذ البداية. بالطبع، لابد من السعي للحوار، لكن الحوار لن يؤدي إلى إصلاحات ديمقراطية، إلا إذا استبعدت أدوات القمع. في ظل هذه الظروف، إذا كان يهدف إلى إدخال الديمقراطية، لابد أن يذكر في النداء للحوار، حتى مع المتسلطين على الحكم بما في ذلك القيادة العسكرية، بعض الشروط. لن يكون لهذه الدعوى معنى جاد إلا إذا أدرجت إجراءات وخطوات انسحاب القيادة العسكرية من الحياة السياسية للبلاد، في قائمة النقاط التي يجب دراستها. لا جدوى من إعلان تعددية سياسية، نقابية وجمعوية، حرية الانتخابات، استقلال القضاء، طالما توجد شرطة سياسية تؤدي إلى ممارسة سياسية لا علاقة لها مع النظام المحدد في الدستور. هل توجد علامات من قِبل الحائزين على السلطة المدنية والعسكرية التي تدل على إرادتهم في بناء حوار مبني على هذه الأسس؟ بما أن النداء الموجه للجيش يستند على كونه في محور النظام أول خطوة في التفاوض مع الحاكمين تتمثل في وضع أدوات حياة سياسية تسمح بتشكيل أحزاب سياسية، نقابات وجمعيات تتمتع باستقلال تام. وذلك لا يتم إلا بحل كل الحركات التي تنظم المراقبة والسيطرة السياسية، بوجه أخص الشرطة السياسية بجميع أشكالها. ولكن، لا نرى كيف يكون هذا التغيير ممكنا دون عمل عنيد وصعب يهدف إلى بناء قوة مضادة تسمح بذلك. يكمن هذا العمل في القيام بتجنيد الأشخاص من أجل وضع حد لمختلف جوانب النظام السلطوي الذي يحكم الجزائر منذ 1962. المهمة صعبة جدا، خاصة أن السياسيين الأكثر شهرة اليوم قد شاركوا بطريقة أو بأخرى في توجيه وإدارة هذا النظام. ولهذه التجربة أثر على صورتهم في الميدان العام. المهمة الأكثر صعوبة هي إعادة بناء رابط اجتماعي وثقة في مجتمع يواجه حياة يومية صعبة. هذه حقيقة سبق ذكرها، ولكن لابد من إعادتها نظرا للطريقة التي ينظم بها جزء من الحوار العام. إعادة بناء رابط اجتماعي سيتم عن طريق الالتحاق بكل النضالات الاجتماعية والسياسية والعمل من أجل إسنادها. لن يتم ذلك إلا بعمل عميق وجاد في النقابات، الأحزاب السياسية، الجمعيات والمجموعات غير الرسمية المختلفة في المناطق، المدن والريف، في الجامعات وأماكن العمل. هكذا سيظهر الأشخاص القادرون على تحقيق المشاريع التي تحمل تطلّعات الجزائريات والجزائريين للحرية والعدالة الاجتماعية. أخيرا، أمر مهم لابد من ذكره؛ الطريقة السلمية والحوار لا يعنيان التخلي أو عدم تنظيم اجتماعات، مظاهرات عامة في الشوارع أو أماكن العمل، أو التخلي عن الإضراب، والقيام بتنظيم توقيعات عامة وحملة رفض انتخابات، أو التخلي عن إنشاء جمعيات.. بطريقة مختصرة: لا يعني ذلك التخلي عن ممارسة الحريات العامة والفردية لهزيمة عقبات إدارة تحت سيطرة السلطة. بمثل هذا، كما يعلم الجميع، في الطرق التي يتم من خلالها تنظيم انتقال ديمقراطي جاد. ودون هذه الضمانات الجذرية لن تحقق الانفتاحات التي قام بها النظام التسلطي، في أحسن الحالات، كما رأيناه مع دستور 1989، وبعض الإصلاحات التي لحقت، إلا ديمقراطية واجهة تسعى لإخفاء سيطرة الحائزين على السلطة الحقيقية، الذين يقررون وضع حد لهذه التجارب عندما يستخلصون أنها تهدد مصالحهم.