“الأمر الوحيد الذي لم أجد له تفسيرا إلى اليوم هو كيف وصلت الحشرات التي التهمت لحوم هؤلاء الموتى إلى هذه الصحراء؟”، يقول شاهد عيان حضر عملية البحث عن المهاجرين السريين الذين هلكوا عطشا قبل أيام في الحدود بين النيجروالجزائر.. قلت في نفسي: آه لو أن هذا المسكين الملقى على الأرض وجد هذه الحشرات قبل موته لأكلها، لكنها هي الآن من يلتهم لحمه، فقبل ساعات كان هذا المسكين يبحث عن أي شيء رطب يضعه في فمه، أما الآن فهو مصدر طعام للحشرات. أوتوغار وصحراء تينيري مجددا دفعوا مقابل الموت ما لا يقل عن 20 أورو لكل فرد، ركبوا متزاحمين في سيارات الدفع الرباعي، اتفقوا مع المهرّب في محطة أوتوغار في مدينة أكادس، انتظروا سيارات المهربين خارج مدينة أكادس حتى لا تشعر السلطات والمصالح الأمنية بانطلاقهم، ركبوا السيارات وكلهم أمل في توديع حياة الفقر والغبن والمرض والجهل، ثم تخلى عنهم المهرّبون قبل الوصول إلى عين ڤزام بالجنوبالجزائري، حيث يتعين عليهم الوصول إلى هذه المنطقة سيرا على الأقدام.. المأساة نفسها بكل مشاهدها التراجيدية تتكرر.. الضحايا هم عائلات بأكملها، وشباب بعضهم لم يتعد سنه 17 أو 18 سنة. هي صحراء تينيري مجددا تحصد أرواح المهاجرين السريين، ما بين 30 و50 مهاجرا سريا فُقدوا جميعا ولم تعثر فرق البحث في النيجروالجزائر إلى اليوم سوى على 20 جثة فقط، بينما اختفت باقي الجثث التي لا يعرف الناس حتى هويتها. بعد أقل من7 أشهر من أسوأ كارثة إنسانية تقع على الحدود الجنوبية بين النيجروالجزائر، عندما قضى أكثر من 90 شخصا حتفهم عطشا وجوعا في الصحراء الواقعة بين الجزائروالنيجر، تكررت المأساة مرة أخرى هذه المرة مع ما لا يقل عن 50 مهاجرا سريا فقدوا حياتهم قبل الوصول إلى الجزائر التي قصدوها بحثا عن العمل والحياة. الكلمات الأخيرة.. “خدعونا.. خدعونا” على قطعة كرتون أجهشت البكاء وأنا أرى قطعة الكرتون الموجودة على بعد عدة أمتار من جثة مهاجر سري ومكتوب عليها “tromper ..tromper” أو “خدعونا.. خدعونا”، وأعتقد أن هذه هي هذه الحقيقة الأخيرة علمها كاتبها، وهو أحد ضحايا مأساة موت ما بين 30 و50 مهاجرا سريا، ودوّنها على ورقة كرتونية، قبل أن يفارق الحياة. ولم يكتب هذا الرجل الذي لم يكن يحمل وثائق إثبات هوية معه سوى ورقة صادرة عن السلطات الإدارية في مدينة زيندر النيجرية تحمل اسم “سوليما بونينا”، كتبها باللغة الفرنسية في قطعة كرتون كانت معه، ونقلت مع جثته من قِبل عناصر الجيش الوطني الشعبي الذين انتشلوا جثته مع جثتي شخصين آخرين. يقول جمال، وهو أحد العناصر التي جندتها قيادة الجيش الوطني الشعبي في إطار مخطط البحث والإنقاذ الذي أطلقته قيادة الجيش للبحث عن المهاجرين السريين الذين تاهوا في الصحراء: “لم أتمالك نفسي وأنا أشاهد تلك الجثث التي بدت مستسلمة لقدرها المحتوم. التوت إحدى الجثث وكان ظاهرا أنها تعود لشاب في مقتبل العمر وقد التصقت يداه مع وجهه، ولم يبق من الجثة إلا جزء قليل، حيث التهمت الحشرات أغلب أجزاء الجثة. وعلى بعد أقل من 20 مترا اكتشفنا جثة ثانية ثم جثة ثالثة.. المشهد حقا رهيب، الجلد التصق بالعظم في بعض أجزاء الجسم فيما تحللت الأحشاء في البطن”. يواصل محدثنا قائلا “بدأنا البحث في الساعة الرابعة صباحا يوم 2 ماي كانت الحرارة شديدة.. جمعنا القائد، وقال لنا “أدرك صعوبة المهمة لكننا يجب أن نساعد هؤلاء المساكين الذين تتوقف حياتهم أو موتهم على بعض الجهد منا”.. كنا نتحرك بصعوبة في الصحراء شديدة الحرارة، قضينا اليوم الأول كله ونحن نسير على الأقدام، استهلك كل واحد منا ما لا يقل عن 10 لتر من الماء.. أحسست بعذاب هؤلاء المحرومين من الماء في هذه الحرارة، وكان هذا بمثابة حافز لنا من أجل مواصلة البحث عن هؤلاء المساكين بعد أن استفدنا من راحة قصيرة، حيث نمنا لأقل من 4 ساعات وفي كل ساعتين كان القائد يوقظ 3 من الجنود من أجل الحراسة، وكان معنا “قصّاص” أثر متطوع (مقتفي الأثار)، وهو دليل صحراوي شهير في المنطقة.. وبعد طلوع الشمس أكد لقائد عملية البحث الميداني أنه عثر على دليل سيوصله إلى المهاجرين السريين. بدا الدليل غريبا بعض الشيء، حيث عثر قصاص الأثر على كمية من التراب قال لنا إنها أتت من خارج المكان، وأنها دليل قاطع على أن المهاجرين السريين التائهين مروا من هنا”. يواصل محدثنا سرده ويقول “وبعدها تلقى القائد الميداني مكالمة باللاسلكي تشير إلى احتمال اكتشاف عدد من الجثث في منطقة صحراوية تقع إلى الجنوب الشرقي من عين ڤزام على مسافة 95 كلم. وبعد المسير لأكثر من ساعتين ونصف الساعة بالسيارات أحيانا، وسيرا على الأقدام أحيانا أخرى، استقبلنا عدد من رعاة الإبل التوارڤ وأرشدونا إلى الموقع نفسه الذي توقع مقتفي الأثر أن نجد به جثث المهاجرين السريين. قبلها بقليل بدأنا نرى آثارا قديمة لمسير أشخاص، واحد يشير إلى أن آثار الأقدام يظهر عليها الإعياء الشديد، وقال إن أصحابها يسيرون نحو الجنوب عائدين إلى مدينة أكادس، وأشار إلى أن أحد الأشخاص الثلاثة الذين كانوا بصدد السير يكون قد أصيب بإغماء ما أجبر صديقه على حمله، وبعد السير لساعة أخرى شاقة أرعبتنا مشاهد الجثث الثلاث التي كانت في حالة تعفن شديد. برقية عاجلة استقبلت وحدات الجيش الوطني الشعبي يوم الأربعاء 30 أفريل في القطاع العملياتي جنوب تمنراست، على خط المواجهة مع النيجر، برقية عاجلة وقصيرة كان مصدرها الجانب النيجري، تقول البرقية “يجري الآن البحث عن ركاب سيارة دفع رباعي من المهاجرين السريين في منطقة “س”، وقد أبلغ سائق شاحنة في بلدة سامقا أنهم تاهوا في الصحراء.. انتهى”، وبعد أقل من ساعة حرّكت قيادة الجيش الوطني الشعبي وحدات الإغاثة وفعّلت مخطط البحث والإنقاذ للبحث عن المهاجرين السريين، يقول مصدر أمني رفيع، حيث تم تداول عدة فرضيات حول مصير المهاجرين السريين: الفرضية الأولى هي أنهم وصلوا جميعا سالمين إلى عين ڤزام وضواحيها، والفرضية الثانية هي أنهم ينتظرون في المخابئ على الحدود حلول الليل من أجل التسلل إلى الجزائر، أما الفرضية الثالثة فهي أنهم تائهون في الصحراء بعد أن ضلوا الطريق.. كانت الفرضية الثالثة تعني أن الوقت قصير جدا أمام فرق الإغاثة والإنقاذ للوصول إلى المهاجرين السريين، وأن أي تأخير في الوصول إليهم يعني موتهم جميعا في الصحراء عطشا، وقرر قائد الناحية العسكرية السادسة تجنيد قوات من الجيش والدرك و«المهاريست” راكبي الجمال، وطائرات مروحية، وحددت قيادة الجيش 5 مناطق للبحث هي أكثر المواقع التي يمكن أن تبحث فيها قوات الجيش عن التائهين في الصحراء. والمواقع الخمسة التي تم البحث فيها كانت تحيط بمدينة عين ڤزام من الشرق والغرب والجنوب الغربي والشرقي ثم الجنوب، وكانت كل فرق البحث على اتصال بغرفة عمليات القطاع العسكري طيلة عدة أيام، كما أن الجزائريين كانوا على اتصال مباشر مع النيجريين أثناء البحث، ولم يتوصل أي من الطرفين إلى نتيجة حول عملية البحث، وكانت عملية الإنقاذ محكومة بالفشل منذ البداية بسبب بسيط، وهو أن النيجريين لم يعثروا على ما يسمى الأثر الأول للمفقودين لأن أساس عمليات البحث هو العثور على الأثر الأول للمفقودين الذي على أساسه تتواصل عملية تقفي الأثر، وأجبرت هذه المشكلة الجزائريين على الاعتماد بشكل كلي على جهود فرقهم الذاتية من أجل الوصول إلى التائهين في الصحراء، وهو ما جعل المهمة شبه مستحيلة. المأساة الجديدة تكرار لمآسي سابقة في المكان نفسه ابتلع هذا الجزء من الصحراء الكبرى عددا غير معروف من الضحايا، يسميها البدو الرحل هنا ب«المهلكة”، وهي جزء من الصحراء تتكرر فيه حوادث التيه والموت عطشا.. إنها المنطقة الصحراوية الواقعة بين جبال الهڤار الجزائري شمالا والوادي الجاف تافسست وهضبة جادون شرقا والحدود المالية غربا، ويعتقد أن ما لا يقل عن 2000 شخص ماتوا هنا بفعل التيه ثم الجوع العطش، دون أن يعلم أحد مكان وجود جثثهم.. مهربون وإرهابيون وسائقو شاحنات نقل وأشخاص عاديون ومهاجرون سريون ماتوا جميعا بسبب التيه في الصحراء، ثم الجوع والعطش. ويقول هنا السيد دنغون يوسف، أحد أعيان منطقة جادون من قبيلة التبو النيجرية، “لم يكلّف الجيش النيجري نفسه في الماضي البحث عن الأشخاص ضحايا حوادث التيه في الصحراء، ولهذا فإن المئات ماتوا وابتلعتهم الرمال المتحركة في هذه الصحراء التي هي جزء من صحراء تينيري”، ويضيف المتحدث “تقع كل حوادث التيه في هذه الصحراء تقريبا، في المنطقة التي تفصل بين أكادس في الشرق وأرليت في الجنوب الشرقي وعين ڤزام في الشمال. ويعود السبب في أغلب هذه الحوادث إلى رغبة المهربين والمهاجرين السريين في الإفلات من رقابة قوات الجيشين النيجريوالجزائري، فيقعون فرائس للموت عطشا بعد التيه. وتعدّ المنطقة شديدة الصعوبة بسبب كون درجات الحرارة مرتفعه بها طول فصول السنة، حيث لا تقل حتى في فصل الشتاء عن 30 درجة بينما تقفز إلى 54 درجة في الصيف”. يقول مصدر أمني، طلب عدم الكشف عن هويته وقد شارك في البحث عن المهاجرين السريين الذين فقد الاتصال بهم في بداية شهر ماي: “بدأت قيادة الجيش الوطني الشعبي في يوم 1 ماي عملية بحث وإنقاذ لمساعدة السلطات النيجرية في عملية البحث، بعد أن تأكدت الأخبار حول اختفاء ركاب سيارتين تعملان على تهريب المهاجرين السريين بين الجزائروالنيجر الأولى من نوع تويوتا أف جي 55 والثانية من نوع نيسان باترول، وكانت السيارتان تحملان ما لا يقل عن 50 مهاجرا سريا”، ويضيف المتحدث “تشاء الصدف أن تقع المأساة الجديدة في المكان نفسه تقريبا حيث وقعت مأساة موت أكثر من 90 مهاجرا سريا في شهر أكتوبر الماضي”. م. ب
المصيدة قد يفاجَأ بعض الأشخاص الذين لا يعرفون الصحراء، وبأن بإمكانها تشكيل جبل من الرمال اليوم ونقله إلى موقع آخر بعد يوم آخر، بفعل العواصف الرملية، حيث تشكل كثبانها الرملية “مصيدة” لمن تورّط في عبورها. يُخيّل لمن يرى تلك الكثبان عن بعد أنها جبال من شدة ارتفاعها، فإذا وصل إليها علقت سيارته في رمالها أو غاصت رجلاه، فلا يعود قادراً على الخروج. وتنقسم صحراء “تينيري” الشاسعة إلى ثلاثة أجزاء: الوسط وهي منطقة قريبة من هضبة جادون، و«رانون” في الجنوب، و«تافسست” وهي منطقة قريبة من واد تافسست الجاف إلا أنها تسمى تينيري بشكل عام. وتخلو تلك المساحة الشاسعة من أي مظهر من مظاهر الحياة، ولم يتجرأ البدو على السكن إلا في أطرافها، فارين من عمقها، لاستحالة الحياة هناك، وصعوبة المناخ والتضاريس، حيث تبني الرياح جبالاً من الرمال لا تلبث أن تختفي في اليوم التالي، جاعلة من محاولة تحديد معالمها واتجاهاتها مهمة مستحيلة. اختيار القبور.. يقول جمال، وهو أحد العارفين بما تخفيه الصحراء الكبرى: “عملت مع بعض عناصر الدرك الذين شاركوا في عمليات بحث عن مهاجرين سريين تائهين في الصحراء، وقد قال لي أحدهم، في عام 2013 في شهر فيفري وأثناء دورية عادية في منطقة تقع إلى الشرق من مدينة عين ڤزام جاءنا بلاغ من وحدة حرس الحدود يقول إنه تم كشف آثار عجلات شاحنة”، ويضيف جمال: “بعد أن يقضي الجندي عدة أشهر في الصحراء يصبح بإمكانه تمييز آثار السيارات في الصحراء، لدرجة أننا كنا قادرين على تمييز آثار الشاحنات التابعة للجيش وتمييزها عن باقي العربات المدنية. المهم بعد تلقي البلاغ- يقول جمال على لسان صديقه الدركي- تنقلنا إلى الموقع وبدأ مقتفي الأثر في فحص آثار الشاحنة، حيث إنه من المهم أن نعرف هل الآثار قديمة أم جديدة. فقال لنا قصاص الأثر إن الآثار لا يزيد عمرها عن 15 ساعة وأن الشاحنة من نوع “مان”، وأنها كانت تسير ببطء، وهو ما يدل على أن الأمر لا يتعلق بمهرّبين.. بدأنا في تتبع آثار الشاحنة وسرنا لعدة ساعات وفجأة شاهدنا الشاحنة متوقفة في الصحراء. اعتقدنا في البداية أن في الأمر كمين من إرهابيين، فقرر القائد الميداني تشكيل مجموعة قتال وحصار الشاحنة، بعدها بدأ في محادثة سائقها وطلب منه الخروج والابتعاد عنها، إلا أننا لم نتلق أي رد، وبعد ذلك أطلقنا عيارات في السماء لكننا لم نتلق أي رد أيضا، فقرر القائد التسلل إلى الشاحنة ولغاية تلك اللحظة كنا نعتقد أن الأمر يتعلق بكمين إرهابي، وبعد التسلل تبين أن الأمر يتعلق بحالة تيه في الصحراء وبدأنا مع مقتفي الأثر في تتبع آثار التائهين الذين تخلوا عن الشاحنة بعد نفاد الماء والوقود، وقرروا مواصلة السير على الأقدام”. ويواصل جمال سرده دائما على لسان صديقه الدركي: “عندما تتوه مجموعة من الأشخاص في الصحراء فإن أول ما يقع بينهم هو سوء تفاهم قد ينتهي بجريمة، وهو ما وقع بالفعل حيث اكتشفنا بعد السير لأكثر من ساعة خلف آثار التائهين في الصحراء آثار دماء ثم جثة ملقاة لشاب في الثلاثين من العمر ورأسه مهشم بالكامل، يبدو أنه ضرب بآلة حادة على الرأس أثناء عراك مع أحد أصدقائه. وبعد السير 4 ساعات أخرى اكتشفنا جثتين لشابين وكانا دون ملابس تقريبا، بدا المنظر شديد التعاسة والمأساوية، وأول ما خطر ببالي هو أن كل واحد من الشابين اختار بعناية فائقة المكان الذي سيفارق فيه الحياة، فالأول اختار موقعا بين صخرتين كبيرتين وقد جرد نفسه من الملابس بالكامل واستعمل ملابسه في محاولة يائسة لخلق بعض الظل تحت شمس حارقة بينما اختار صديقه مكانا آخر يبعد بحوالي 400 متر تقريبا، في هذه اللحظة وأثناء نقلنا لجثامين الضحايا جالت في خاطري فكرة وهي: لماذا نفسد راحة هؤلاء المساكين بعد أن ارتاحوا من حالة عذاب لا يمكن وصفها ولا يمكن لأحد أن يتحملها؟ لكن ضرورة التحقيق تفرض علينا نقلهم إلى القواعد الخلفية. كانت آثار سير الضحايا تعبّر عن رحلة العذاب الأخيرة التي قطعوها”، ويختتم جمال حديثه “قضيت عدة أيام وأنا في حالة نفسية سيئة جدا بعد المنظر التراجيدي الذي شاهدته”. جبل “جيرمانو”.. جبال بأسماء ضحايا الصحراء يسمي البدو الرحل في منطقة تقع على بعد 70 كلم داخل الأراضي النيجرية جبلا صغيرا باسم “جيرمانو” نسبة إلى الرعية الفرنسي الذي اختطف من قِبل الجماعات الإرهابية ثم قُتل، ويقول الناس هنا إن “جيرمانو” احتجز عدة أشهر في هذا الموقع، ثم نقل بعد اكتشاف أمره إلى صحراء شمال النيجر. ومن يستعرض مسميات تضاريس مناطق عدة في الصحراء، خاصة صحراء جنوب الهڤار وإيفوغاس وتينيري التي ترتفع فيها حوادث الموت عطشا من “جبال” و«عروق” و«كثبان” و«أودية” يُفاجئ بأن عدداً من هذه التضاريس أطلق عليها أسماء من هلكوا فيها عطشا، وكأن صحراء تينيري تكرّم ضحاياها بإطلاق أسمائهم على تضاريسها. فنجد مثلا أن جبل “ڤواوو” وهو نسبة لشاب تارڤي مات فيه، و«عرق حسان” وهو اسم شخص آخر من “التبو” مات عطشا قبل سنوات و«عرق غيبون” و«جبل ايشر”.. كبار السن يؤكدون أن تلك المناطق ارتبطت بأسماء أشخاص، أو أسر هلكت في هذه الأماكن. وتعدّ فكرة اختيار القبور منطقية، حيث يسمي البدو الرحل وسكان الصحراء في أغلب المناطق المواقع بأسماء الأشخاص الذين قضوا عطشا فيها. ففي شمال تمنراست يوجد موقع في الطريق الوطني رقم واحد يسمى “فيراج الڤاوري” حيث مات شخص أوروبي في حادث مرور، وفي مكان آخر بولاية إليزي تقع بلدة “بلقبور” التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى ضحايا وجدت جثثهم قبل سنوات عدة ودفنت في المكان نفسه لتعذّر نقلها.
كيف تُدار عمليات البحث والإنقاذ؟ مراحل معقّدة ولا تفريط في مقتفي الآثار في هذا الموضوع يقول الدليل الصحراوي محمد بن داوي، وهو أحد أشهر مقتفي الأثر: “حتى نتمكن من الوصول إلى أشخاص تاهوا في الصحراء لابد من الحصول أولا على المعلومة الخاصة بفقدانهم في وقت قياسي قصير، أي بعد أقل من 24 ساعة، لأن الوقت مهم جدا في هذه الحالات، بعدها مباشرة ننتقل إلى أقرب واد موجود في الجهة ونبدأ في فحص كل جزء من هذا الوادي بعناية فائقة، لسبب بسيط، وهو أن الحركة في طول الصحراء لا يمكن كشفها إلا في حالة الحصول على ما يسمى “رأس الخيط”، و«رأس الخيط” هو آثار التائهين في الصحراء، بعدها يمكن تتبع بقية الآثار إلى غاية الوصول إليهم. وفي العمليات الكبيرة تعتمد القيادة العسكرية على عدة وسائل للبحث والإنقاذ، والوسيلة الأولى هي بالاعتماد على قصاصي الأثر، والوسيلة الثانية هي الطائرات المروحية، والوسيلة الثالثة هي فرق التمشيط التي تتحرك عبر الصحراء وتستعمل المناظير. وفي بعض الحالات يكون البحث عن التائهين في الصحراء أشد صعوبة من البحث عن إبرة في كومة قش، لأن الصحراء شاسعة ولا يمكن لمجموعة من البشر مهما كبرت أن تفتشها”. ويضيف محمد قائلا: “لا يمكن أبدا البحث عن تائهين في الصحراء هكذا، فالصحراء شاسعة وهي تلتهم كل الوقت والجهد من فرق البحث، لهذا تعمد قيادة الجيش أو الدرك الوطني إلى تشكيل مجموعات بحث، على أن ترسلها للمواقع التي يعتقد قائد عملية البحث أن التائهين في الصحراء موجودون فيها، بناء على آخر آثار يكون قد خلّفوها وراءهم”، ويواصل محدثنا: “أنا أعتقد أن السبب الرئيسي في موت المهاجرين السريين عطشا هو عدم توفر إمكانات البحث والإنقاذ لدى النيجريين وتأخرهم في الحصول على المعلومات وقلة وسائل البحث والإنقاذ لديهم”. م. ب