إن الفضل في إثارة موضوع خطر تكنولوجية الاتصال الحديثة على ”الحياة الخاصة” أو الخصوصية لا يعود لإدوارد سنودن، المتعاقد التقني وعميل وكالة المخابرات المركزية. فكل ما فعله هذا الأخير أنه طرح مسألتين أساسيتين على الملأ، الأولى تتعلق بشرخ الثقة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها الغربيين. والثانية ترتبط بالعلاقة بين الأمن والحرية. وهي قضية معقدة ذات طابع فلسفي تضع المرء أمام خيارين: التمتع بحريته على حساب أمنه أو التمسك بأمنه على حساب حريته. رغم هذا، فإن البعض يعتقد أن الخيارين يجحفان بهذه العلاقة التي لا تتضمن الإقصاء، بمعنى أن وجود الحرية لا ينفي الأمن أو العكس. إن المساس بالحياة الشخصية مسألة قديمة ارتبطت بنشوء الصحافة وتطورها وتقنين نشاطها، لكن النقاش حولها احتدّ بظهور شبكة الانترنت والجيل الثاني من ”الواب” تحديدا. فالصحفي الفرنسي المختص في تكنولوجيا@ الاتصال الحديثة ”جون مارك مناش”، صعّد من حدة هذا النقاش في الكتاب الذي أصدره بعنوان ”هل الحياة الخاصة أصبحت مشكل المسنِّين الأغبياء”؟ والكتاب عبارة عن عمل صحفي استقصائي عبّر فيه الصحفي عن انشغاله العميق بالأضرار التي تلحقها تكنولوجية الرقابة بحياتنا الخاصة وحريتنا. وقد انخرط في هذا النقاش العديد من المختصين والمستثمرين في مجال تكنولوجية الاتصال الحديثة. فمؤسس موقع شبكة الفايسبوك” مارك زوكربرغ أكد، قبل سنوات، أن مفهوم الحياة الخاصة تجاوزه الزمن! وقد سانده في ذلك الكثيرون بحجة أن جيل الانترنت لا يتحفظ في الحديث عن حياته الخاصة مثل الأجيال السابقة. فالمحامي الفرنسي الشاب المختص في تكنولوجية الاتصال، هيغو روي، كتب في مدونته ما يلي: ”لقد تغير سلوكنا اليوم فأصبحنا نميل إلى تقاسم كل شيء، وإظهار كل شيء، ونشر كل شيء، إذ يبدو أن جيلي تجاوز عقدة الحياة الخاصة والحميمية، وهذا يتجلى بوضوح في مواقع الشبكات الاجتماعية”. ويرى أن موقع شبكة ”اليوتوب” مثلا يركز على توزيع شرائط الفيديو، أي على المضمون الذي يتداوله مستخدموه، بينما لا يركز موقع الفايسبوك على مضمون ما يُبث، بل يهتم، أكثر، بالأشخاص الذين قاموا ببثه أو تفاعلوا معه. وهذا الأمر يدفع المرء إلى التخبط في نوع من المفارقة. فمن جهة يشتكى من قيام مواقع الشبكات الاجتماعية بانتهاك حياته الخاصة، ومن جهة أخرى يستعرض تفاصيل حياته هذه في هذه المواقع ويبحث عن أدق التفاصيل في ”بروفيلات” من يرضى بهم أصدقاء افتراضيين! فالحديث عن حماية الحياة الشخصية في هذه الحالة ينتفي. فالذي يبوح ب ”أسراره” الشخصية في الفضاء الافتراضي أمام أشخاص لا يعرف عنهم سوى الاسم، وقد يكون منتحلا لا يحق له أن يشتكي من انتهاك حياته الخاصة إلا إذا أراد أن يكون مثل تلك الفتاة التي ذهبت إلى مركز الشرطة تشتكي من سلوك جارها العازب زاعمة أنه يتحرش بها، فاستجوبت الشرطة الجار دون جدوى لأنه أنكر التهمة جملة وتفصيلا. فعطف رجال الشرطة على الشاكية وانتقلوا إلى بيتها وراحوا يراقبون الجار من النافذة وهو في المطبخ يُعدّ وجبة عشائه. فلم يروا أي مظهر من مظاهر التحرش، فطلبت منهم الشاكية الركوب فوق الكرسي ليروا ما يفعله، فشاهدوه مرتديا تُبّانا! فسألها أحدهم: إذا كان منظره بالتبان يزعجك فلماذا تصعدين فوق الكرسي لرؤيته؟ إن مفهوم الحياة الخاصة يختلف من ثقافة إلى أخرى. فوسائل الإعلام الأمريكية بثت صور الأشعة للرئيس الأمريكي السابق رولاند ريغن وهو في فراش المرض. ولم يحتج أحد على هذا البث باسم حماية الحياة الخاصة، بينما منعت العدالة الفرنسية توزيع كتاب ” السر الكبير” الذي ألّفه طبيب الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران وكشف فيه عن معاناته مع المرض ليس بسبب إفشاء السر الطبي فقط، بل بسبب المساس بالحياة الخاصة أيضا. وهذا يعنى أن إدراك المجتمعات للحياة الشخصية مسألة ثقافية، فمن المحتمل أن يكون جارك أو أحد سكان الحي الذي تقطنه يعرف عن حياتك الشخصية الكثير إخوانك ونشاطهم المهني وحتى رواتبهم ونسباؤهم، والمبلغ الذي اقترضته من أجل شراء سيارتك، واسم الشخص الذي ينوي طلب يد أختك وسنه ومهنته، وسبب خلافك مع فلان أو علان! والغريب في الأمر أن لا أحد يرى في كل هذا انتهاكا لخصوصيتك. أتوقف عند هذا الحد حتى لا يسألني أحد القراء الكرام قائلا: ما قيمة الحياة الخاصة في زمن استرخص البعض حياتهم فراحوا يبحثون عن الموت بغباء في الشوارع لعدم احترامهم قانون المرور؟ وما معنى الحفاظ على الحياة الخاصة للذين لا حول لهم ولا قوة في الحفاظ على حياتهم؟ www.nlayadi.com