أحال سريان سلسلة الإجراءات الاحترازية "شبه الراديكالية" التي أقرتها السلطات العليا، لاحتواء استفحال عدوى فيروس "كورونا المستجد"، الكثير من الفئات الشغيلة التي تتقاضى أجورا يومية او المرتبطة بأنشطة مقاولات ومؤسسات أغلقت أبوابها، على بطالة إجبارية مؤقتة، فوجدوا أنفسهم في ضائقة مالية وعجزا فادحا على توفير الحاجيات الأساسية. وأمام الشلل "الحتمي" لحركة المجتمع وتوقف آلاف العمال اليوميين عن النشاط، سارع نشطاء جمعويين في إطلاق نداءات واستحداث خطط متكيفة مع توصيات التباعد الاجتماعي، ومتخذة من منصات التواصل فضاءً لها، بهدف مساعدة الفئات العمالية الهشة، بوصفها الطبقة التي تتلقى أولى الصدمات في هذه الأزمة الوجودية. وبعد تشخيص "الآثار الجانبية" للقرارات الرسمية، تحركت ضمائر جمعويين متعودين على خوض مغامرات تطوعية كبرى للتخفيف من وطئها، وشرعوا في إعداد وضبط مبادرات لفائدة الفئات الهشة، ومن بينهم مديرة البحث والتطوير بمؤسسة "ناس الخير" كنزة نشار، التي ذكرت في اتصال مع "الخبر" أمس، أن المؤسسة خصصت رقم 05 600 66 600 للتبرع بالمساعدات الأساسية بالعاصمة، تمهيدا لانطلاق عملية توزيعها على من يستحقها في اطار التكافل الاجتماعي، مشيرة الى أنهم تبنوا نفس المنهجية المعتمدة أثناء مبادرات الإفطار الجماعي في الخيمة العملاقة خلال اشهر رمضان الكريم التي مضت. وذكرت نشار وهي كذلك محافظة ولاية الجزائر بذات المؤسسة التطوعية، أن عناصر المؤسسة سيتكيفون مع الإجراءات الاحترازية عند خروجهم لتقديم المساعدات، كالمحافظة على مسافات الأمان بين بعضهم وارتداء الكمامات والقفازات والألبسة الخاصة، وأيضا المواظبة على استعمال المطهرات الكحولية قبل وبعد كل عملية مساعدة. والهدف من هذه المبادرة، في فلسفة المنظمة بحسب المتحدثة، هو ثني الأشخاص الذين تعطلت مصالحهم، ومن توقفت مصادر أرزاقهم بسبب الحجر الجماعي الصحي، على التنقل بحثا عن مساعدات دون أخذ احتياطات وقائية مدفوعين بالذعر والخوف على أولادهم وعائلات من الجوع، في حين انشغل الجميع في مصيره وغرق في هواجسه. ودعت الناشطة الى تعميم المبادرة على كامل الولايات العائلات ونبهت أرباب العمل الذي يستخدمون عاملات نظافة او مهنيين يتقاضون أجورهن بشكل يومي الى مساعدة هؤلاء وتفقد أحوالهم المادية ومدى قدرتهم على توفير الغذاء اللازم في هذه المحنة المؤقتة، مشيرة إلى أن هؤلاء يضلون تحت المسؤولية الأخلاقية لميسوري الحال.
هؤلاء تضرروا
ومع هرولة الناس إلى منازلهم، لم ينتبه غالبية المواطنين وكذا السلطات العمومية المستغرقة في إدارة الأزمة، إلى الأشخاص المرشحين لتلقي الصدمة بشكل مباشر، ولقد رصدت "الخبر" عينة من الحالات المهددة بالجوع والإهمال وحتى الإصابة بجائحة "كوفيد 19" بعد إقرار السلطات وقف العديد من الأنشطة الجماعية، كالعمال في ورشات البناء، الأشخاص دون مأوى قار، الحمّالون وبائعي الأعشاب والحشائش على جنبات الأسواق وكذا تجار العربات وغيرهم والتجار الأحرار في الأحياء. هذه الوضعيات الهشة أزاحتها اللهفة جانبا عن مجال الرؤية، أبعد قليلا من هامش المجتمع حيث كانوا، فلا أحد يراهم الآن بعدما غشت الأنانية البصرة والبصيرة وخلت الشوارع من المارة، وانعدمت فرص العمل مع شلل الفضاءات الجماعية، التي شكلت مصدر قوتها، بحيث ما إن بدأت مظاهر العزل ودخول الشوارع، برزت فئة المشردين في الشارع لوحدها .. فهذا شخص رث الثياب ممددا على مقعد موقف الحافلات بشارع ديدوش بالعاصمة، غير مكترث بالعالم وهو يُشل من حوله، ولا يكثرث به العالم المتأزم وهو في عزلته مهددا بالموت جوعا او مرضا. وغير بعيد عنه، على قارعة الطريق المقابل، تجلس عجوز لوحدها وغير آخذة لاحتياطات الوقاية من الفيروس .. ترمق العابرين بنظرات استعطافية طالبة منهم صدقات ورأفة، في زمن تصاعدت فيه الأنانية الى مستوى غير مشهود، أدى إلى اختفاء منتج السميد من كل الفضاءات التجارية في ظرف قياسي، بالرغم من أن الأزمة صحية وليست غدائية، وتحتاج فقط إلى شهر من الانعزال الذاتي على الأكثر لاحتوائها، وليس إلى تكديس الأطنان من الغذاء في البيوت. وفِي البيوت عمالا يوميين تقطعت بهم السبل وعجزوا على توفير المأكل والمشرب، فلا من معيل لهم سوى تلك العمولات اليومية التي يكسبونها بعرق الجبين المتطاير يوميا في ورشات البناء أو حمل البضائع أو بالمغامرات البحرية وكذا البيع في محيط الأسواق الأسواق الأسبوعية والثابتة ومن ألفوا الاسترزاق من التجمعات السكانية.
تكييف شكل التطوع
هؤلاء صاروا اليوم بحاجة إلى آليات جمعوية منظمة لإغاثتهم وفك العزلة عنهم، في ظل انشغال مصالح الدولة على إدارة الأزمة بإمكاناتها المحدودة، يقول المسؤول عن خلية أزمة المتابعة بمؤسسة "ناس الخير" منير غربي. ويسعى غربي إلى تكييف طبيعة النشاط التطوعي للمؤسسة المنتشرة في أغلب الولايات والمدن الجزائرية مع المرحلة الثالثة من الأزمة، التي أعلن وزير الصحة عن دخولها بشكل رسمي، بحجة انتشار الوباء في اكثر من 17 ولاية .. وذكر في هذا الصدد، أن عناصر الخلية يفكرون في تغيير نموذج العمل من الميدان إلى الواقع الافتراضي وإجراء دورات تكوينية للمحجور عليهم وحملات تحسيسية لرواد منصات التواصل الاجتماعي طيلة فترة الانعزال الاجتماعي، بالإضافة إلى إنشاء فضاءات خاصة لأبناء الأطباء الذين يتواجدون في الخط الأمامي من المعركة، بالإضافة إلى تحديد العائلات التي تضررت من الإجراءات الاحترازية الحكومية الحتمية.