شدد الداعية الإسلامي، الدكتور طارق السويدان، على “ضرورة احترام الأمّة للتخصّص”، وانتقد في حوار خصّ به “الخبر”، ظاهرة أنّ الكلّ “يفتي في الدّين والسياسة والصحة”، داعيا إلى التأكّد من الإشاعات قبل نشرها، مبديًا أسفه “لظهور الكثير من الأصوات النّشاز المتعلّقة بفتاوى صحية بالذّات، وأدّت إلى إشاعات قد تؤدّي إلى أذى، وقد تصل المسألة إلى أكثر من ذلك”. هل هي ظاهرة آنية أم واقع نهوضها من جديد؟مع انتشار وباء كورونا المستجد، ظهر توجّه رسمي في وطننا العربي والإسلامي لإعادة الاعتبار للعلماء بمختلف تخصّصاتهم، كيف ترون هذه الظاهرة؟ تحيّة أوّلًا للجزائر وشعبها الكريم الّذين لديهم محبّة خاصة، المجاهدون أصحاب التاريخ العظيم، بلد المليون ونصفالمليون شهيد، الّذين تفخر بهم الأمّة، لأنّهم صمدوا حتّى حرّروها، وسيصمدون إن شاء الله أمام كلّ الكوارث، ومنها هذا البلاء العظيم الّذي أصاب البشرية، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحمي الجزائر وكلّ مَن فيها من كلّ سوء، وتحية أيضًا لجريدة “الخبر” المميّزة، وشكرًا لهم على فرصة هذا اللّقاء. وجوابي عن هذا السّؤال أنّ الأصل أنّ الأمّة تحترم التخصّصات بأشكالها المختلفة، ولاحظنا اليوم أنّ الكلّ بدأ يفتي في قضايا الدّين، ويفتي في السياسة والصحة. ورغم أنّ هذا الحقّ محفوظ للجميع والكلّ يُعبّر عن رأيه وعمّا يعتقده، إلّا أنّه في نفس الوقت مطلوب من السّامعين أن يُميّزوا، فإذا سمعنا كلامًا من أيّ إنسان فلنتأكّد من مرجعية هذا الإنسان وقدرته، ولن نأخذ الصحّة عن عالم الدّين، ولن نأخذ الدّين عن إنسان مبتدئ في قضايا الشّرع. فاحترام التخصّص أمر مطلوب، ولذلك نأسف مع هذه الأزمة والكارثة الكبيرة، ظهور الكثير من الأصوات النّشاز المتعلّقة بفتاوى صحية بالذّات، وأدّت إلى إشاعات، وقد تؤدّي هذه الإشاعات إلى أذى، وقد تصل المسألة إلى أكثر من ذلك. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ الجميع، ويُعلِّم الأمّة ونتعلَّم معهم كيف نحترم التخصّص ونرجع إلى العلماء. وعندما يتناقض العلماء في آرائهم،سواء علماء الدّين أو علماء الصحّة أو غيرهم، فالقاعدة جدّ بسيطة، وهو كما يحدث للإنسان عندما يذهب إلى طبيبين وكلاهما يعطيه تشخيصًا مختلفًا، وعندها سيأخذ من الّذي تمكّنه العلمي أعلى، وهذه القاعدة نطبّقها أيضًا في كلّ القضايا، ومنها قضايا الدّين وقضايا الصحة. كيف للأمّة أن تنهض في ظلّ واقعها المزري؟ الأمّة تخلّفت فترة طويلة لأكثر من أربعمائة (400) سنة، وبدأت الصحوة منذ القرن الماضي، والحمد لله، اليوم بدأنا نرى هذه الصحوة تزداد، وهذا الحَراك الّذي في الشّعوب أدّى إلى تغييرات جذرية حتّى في السياسة، وأعتقد أنّ هذه المسألة ستستمر وتزيد مع الأيّام إلى أن تُحقّق نتائجها المطلوبة، وهي أن ترجع الأمّة إلى سيادة البشرية وقيادة الحضارة من جديد. ما هي الأولويات الّتي ينبغي أن يركّز عليها الدّعاة والمصلحون إلى جانب الحكام للنّهوض من هذه الكبوة؟ بالنسبة للأولويات الّتي يجب علينا أن نركّز عليها، أوّلًا يجب أن نقضي على المقاومة الّتي تعرقلنا من الوصول إلى أهدافنا، وهي تتمثل في خمسة أمور: أوّلًا الاستبداد السياسي الّذي كبت الحريات ومنع الشعوب من النّهضة، والحمد لله بدأنا نشهد ذلك، والجزائر نموذج رائع في الوصول إلى شيء من ذلك، من حلال الحَراك السلمي. الأمر الثاني هو القضاء على الفساد المالي، ثروات هائلة جدًّا للأمّة تمّ سلبها وسرقتها على مدى عقود، وبدأت الأمّة اليوم تُراجِع الحسابات وتُحاسب كلّ مسؤول من أين لك هذا؟ ولو وُجّهت هذه المليارات إلى التعليم والصحة والتنمية، لرأينا فارقًا كبيرًا في الأمّة. والمشكلة الثالثة الّتي ينبغي أن نركّز عليها هي تصحيح الخطاب الدّيني والعلمي، فالخطاب الدّيني التقليدي الّذي يُحرّم كلّ شيء ولا ينظر إلى المقاصد، يجب إعادة النّظر فيه، وكذلك الخطاب العلمي، سواء في علوم الدّنيا أو الإدارة أو الإنسانية أو الطبيعية، ويجب أن نأخذها من مصادرها، وأن نركّز على البحث العلمي، ونحاول أن نطوّر أنفسنا فيه. والمشكلة الرابعة هي التدخل الأجنبي في بلادنا، لا شكّ أنّنا أمّة أثناء تخلّفنا تمّ استعمارنا، والحمد لله تحرّرنا جزئيًا من هذا الاستعمار، وآن الأوان لنتخلّص كليًا منه، حتّى لا يتدخّل المستعمرون في سياستنا وفي اقتصادنا وفي أيّ قرار من قراراتنا، مع استمرار فتح الجسور وبناء العلاقات والتّبادل الّذي يقوم على الاحترام والمنفعة المتبادلة. والأمر الخامس والأخير وهو مواجهة الاحتلال الصهيوني النّجس لأرض فلسطين المقدّسة، فهي وقف الأمّة وقلبها. وأُحيّي الجزائر وشعبها بالذّات، فخلال تجوالي في العالم، لم أر شعبًا واقفًا مع قضية فلسطين وتأييدها كما رأيت في الجزائر، فحيّاكم الله وزادكم ولاء لأمّتنا ونموذجًا وقدوة لرفض الاستعمار، وهذا شأنكم منذ رفضكم للاستعمار الفرنسي، ومقاومته منذ ذلك الوقت، واليوم تضربون النّموذج الأعلى في الوقوف مع قضية فلسطين، بارك الله فيكم. هل تعتقد أنّ علماء اليوم بإمكانهم الاقتداء بعلماء الأمس من جيل الفارابي وابن سينا وابن رشد؟ لا أعتقد ذلك، لأنّه في ذلك الوقت كانت العلوم المكتوبة على الأقل محدودة جدًّا، وتمّ إحصاء عدد الكتب المتداولة بين أيدي النّاس في القرن الثاني، فوجدوها 200 كتاب فقط، وبالتّالي يستطيع الإنسان أن يتمكّن من علوم شتّى، فيكون موسوعيًا في علوم الدّين والفلك والموسيقى والطب وغيرها من العلوم، لأنّ كلّ الّذي يحتاجه هو أن يدرس هذه ال200 كتاب، وهذا ما جعل العلماء السابقين موسوعيين. أمّا اليوم، فأعتقد أنّ المسألة اختلفت وصارت ليس فقط التخصّص، وإنّما التخصّص الدّقيق داخل التخصّص. نعم، جميل جدًّا أن يكون الإنسان عنده علم في المجالات المختلفة، وهذا سيعطيه الحكمة، لكن لا بدّ أن يتعمّق في علم معيّن حتّى يصبح مرجعًا فيه. ولا أعتقد أنّ الأجيال السّابقة يمكن تكرارها اليوم، لكن الأوضاع اختلفت اختلافًا جذريًا، والعلم قد اختلف بشكل فريد. هل تعتقد أنّ بإمكان الأمة أن تعيش بعقلية الزمن الماضي؟ طبعًا الزّمن الماضي فيه الخير والشرّ والثّوابت الّتي يجب أن نتمسّك بها، وفيه المتغيّرات الّتي لا يجوز التمسّك بها باسم العادات والتقاليد، وهنا يأتي دور العلماء في التّمييز بين هذه الأمور. وقد شرحتُ ذلك في سلسلة “مستقبل الإسلام” والجزء الرئيسي منها وهو “مقوّمات الحضارة الإسلامية القادمة، وما هو الثّابت من الماضي الّذي يجب أن نتمسّك به، والمتغيّر الّذي يجب أن نعدّله، ولطول الأمر يصعب التفصيل فيه، فأرجو الرجوع إليه. وهل يمكن للأمّة أن تكون قويّة؟ طبعًا، لقد بدأنا والحمد لله بخطوات جادة، الكثير من النّاس ينظر إلى السّلبيات فقط، أو إلى الانتكاسات، لكن المقارنة ليست هنا، ولو قارنا وضع الأمّة اليوم ووضعها قبل 100 سنة، سنجد أنّ الفرق هائل، وأنّنا تقدّمنا تقدّمًا كبيرًا. صحيح ما زال بيننا وبين الغرب أشواطًا ضخمة جدًّا، ولو قارنا أنفسنا بما كنّا عليه فسنجد أنّنا قفزنا قفزات، وأعتقد أنّ هذه القفزات قد وضعت الأساس للتقدّم في المستقبل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُعيننا في أن نكون جزءًا من الحلّ، وجزءا ممّن يساهمون في نهضة أمّتنا وتطوّر أوضاعها، وأن نجعل لأنفسنا بصمة نتركها لنساهم في هذه النّهضة القادمة لا محالة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر النّاس لا يعلمون. شكرًا لكم وتحيّة من طارق السويدان وأهل الكويت جميعًا لشعب الجزائر العظيم وللإخوة في “الخبر”، وبارك الله فيكم، وإن شاء الله تزول الغُمّة ونزوركم في الجزائر، ونتشرّف بذلك بإذن الله.