يقتضي اعتماد دستور جديد مراجعة كافة القوانين العضوية التي تدخل في صميم الأداء السياسي والهيكلي في الدولة، ويعتبر قطاع الإعلام أحد هذه الأدوات التي تكرس بها الدولة وجودها السياسي داخليا وخارجيا. غير أنه ومنذ سنوات ترزح مهنة الصحافة تحت "نير" التعسف والتضييق والتمييع الذي بلغ مداه وأصبح يهدد استمرار "مهنة النخبة" مثلما هو متعارف عليه عالميا. على الرغم من التمثيل النقابي للصحفيين، تظل المهنة "يتيمة" لا أحد يلتفت إليها، إلا نادرا عندما يتعلق الأمر بمشاريع يراد لها أن تمر بسلام وسط أمواج الرفض الشعبي لها مثلما حدث مع مشروع العهدة الخامسة الذي أسقطه الحراك في 2019. ولأنها تبقى الملاذ الأخير للمواطنين، فقد تفننت السلطات العمومية في ممارسة شتى صنوف التضييق على الصحافة، مستعملة في ذلك سياسة العصا والجزرة التي يمكن القول بأنها آتت ثمارها مع بعض منتسبي المهنة الذين غرقوا بفعل ذلك في مستنقعات الفساد والابتذال تحت مسميّات عدة. يقول رئيس النقابة الوطنية للصحفيين، كمال عمارني، "ما وصلت إليه الصحافة الجزائرية نتيجة مسيرة بدأت في 1990، وسرعان ما دخلت في أزمة أمنية دفعتها إلى الوقوف في الصفوف الأولى في مواجهة الإرهاب على حساب دورها الإعلامي والتنويري داخل المجتمع كسلطة رابعة. ومع مجيء عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم في 1999، تيقن أن العناوين الصحفية الرئيسية لن تقف إلى جانبه ولن تدعمه في سياسته، فاهتدى إلى فتح القطاع أمام كل من هب ودب، وجرى ما يمكن اعتباره تمييعا للمهنة فشاهدنا دخلاء عليها باستثناء عدد قليل من الزملاء الذين اختاروا مساندة الرئيس السابق إعلاميا.. وترجم ذلك في ظهور صحافة موالية، ما دفع بالعناوين الصحفية إلى اختيار طريق التربح التجاري وصار الخط السياسي هو الذي يدير الصحافة مقابل نزوع فريق آخر من العناوين إلى الاهتمام بالريع التجاري والإشهار، ما تسبب بعد سنوات في كارثة دفعت بها إلى الموت مخلفة ديونا معتبرة لدى المطابع والضمان الاجتماعي والضرائب، الخاسر فيها الصحفيون". ويلاحظ عمارني بأن الجزائر "تصنع الاستثناء من حيث عدد الصحف المسحوبة يوميا، مقارنة بدول معروفة بالديمقراطية"، معتبرا ذلك "ميزة عددية ليس إلا، لأن الجانب النوعي وجودة الخدمة الإعلامية يظل في خانة الضعيف، لأنها أنيطت بجرائد لا أثر لها ميدانيا". وبرأيه، فإن "الغاية من تمييع المهنة هو النتيجة التي نلمسها اليوم، وهي تتفيه مهنة الصحفي.. وللأسف أصبحنا بعد عقود من النضال والاحترافية ننتسب إلى مهنة مهانة"، مستدلا بتوظيف طلبة كليات الإعلام والاتصال وتخصصات أخرى، عن طريق الوكالة الوطنية للتشغيل، في حين أن هذه الآلية وضعت أساسا لفائدة الشباب البطالين وليس للصحفيين!!
الالتزام بالقانون والمعايير العالمية وسألته "الخبر" عن المطلوب من النقابات خلال الفترة المقبلة التي ستشهد مراجعة قانون الإعلام، أجاب عمارني "لن نعيد اكتشاف الفحم، هناك معايير عالمية تعمل في إطارها الصحافة، وهناك هيئات تسهر على حريتها واستقلاليتها من أجل تقديم الخدمة المطلوبة للمجتمع الجزائري، وهو ما درجنا على إيصاله إلى وزارة الاتصال منذ سنوات". وتابع موضحا "المطلوب هيئات تمثيلية مهمتها الردع وأخرى للضبط والتنظيم، واحترام الجميع للقوانين المتعلقة بمهنة الصحافة سواء المكتوبة أو الإلكترونية أو السمعية البصرية، مضيفا أن أخلاقيات المهنة حاليا هي مجرد شعار أكثر منه ممارسات". واقتربت "الخبر" من رئيس المجلس الوطني للصحفيين الجزائريين، رياض بوخدشة، الذي يسجل هو أيضا أسفه للواقع الذي آلت إليه الصحافة، واصفا إياه بالصادم بالنظر إلى سقف الطموح الذي كان يتطلع إليه محترفو الصحافة في الأيام التي سبقت الحراك الشعبي سنة 2019 وأثنائه وبعده. ويقدر بوخدشة بأنه على الصعيد المالي "نعيش كصحفيين أزمات مالية قاتلة لكل رغبة في تطوير الأداء الإعلامي، بسبب التوزيع غير العادل للدعم والإعانات المالية للدولة على وسائل الإعلام، واستمرار نفس الممارسات الممقوتة التي عانى منها الصحفيون من ظلم فظيع للناشرين وملاك المؤسسات الإعلامية وتنصل وزارة الاتصال من مسؤولية حماية الصحفيين اجتماعيا، واعتماد مقاييس غير شفافة في التعيين في المناصب وفي التوظيف في القطاع العام وبالخصوص وسائل الإعلام العمومي الثقيل، ما جعل الكثير من الصحفيين المحترفين يفقدون أمل البقاء في المهنة". ويسترسل بوخدشة قائلا "فتح هذا الوضع المجال للاستغلال السيئ للشباب المقبل على المهنة، حيث وجدت كثير من المؤسسات الدخيلة على الصحافة ضالتها بتشغيل مئات الشباب خريجي معاهد الإعلام والطموحين للنجاح مهنيا، بلا رواتب وبلا أدنى ظروف العمل الملائمة، وهو ما كان كافيا لتراجع مستوى الاحترافية وضعف المحتوى الإعلامي في بلادنا وعجزه التام عن مواجهة التحديات المختلفة داخليا وخارجيا". ويحمل رئيس المجلس الوطني للصحفيين الجزائريين السلطات العمومية، مسؤولية ما آلت إليه الصحافة الجزائرية، داعيا وزارة الاتصال إلى "إعادة النظر في مسألة دعم الصحافة وترشيد نفقات القطاع والحوار مع المنظمات المهنية لإنقاذ المهنة وإعادة الأمل للصحفيين والأعوان الآخرين في القطاع، والغرض الأسمى من هذا هو وضع استراتيجية وطنية للعمل الإعلامي تفاديا لمآس قد تعرفها -لا قدّر الله- الساحة الإعلامية خلال هذه السنة 2021.