واصلت إدارة الاحتلال الإسرائيلي محرقتها ضد الأبرياء من الفلسطينيين غير مكترثة بكل النداءات الدولية التي طالبتها بوقف جريمتها وفضلت مواصلة مجزرتها بأعنف ما أنتجته معامل السلاح الأمريكية من طائرات وقنابل وصواريخ. ولليوم الثالث على التوالي تواصلت عمليات القصف الجوي بكل عنف ودمار لم يسبق أن لحق المدنيين الفلسطينيين وبناهم التحتية منذ حرب 1967 إلى درجة أصبح قطاع غزة من شماله إلى جنوبه وبمدنه وقراه أشبه بحقل تدريب حربي بالذخيرة الحية، المتدربون فيه غابت عن قلوبهم صفة الآدمية وتحولوا إلى وحوش هائجة. أشلاء في كل مكان وعمارات تدمر ومستشفيات تقصف ومساجد تنهار على مصليها ومنازل تتهاوى جدرانها على ساكنيها في مشاهد فاقت درجة رعبها ما يمكن إن يتصوره العقل البشري أمام أشلاء أطفال يقتلون وعائلات بأكملها تطمر تحت الركام ومرضى لم يعودوا يجدون شبرا للعلاج في مصحات تحولت إلى أشبه بقبور مفتوحة. ولم ينم الغزاويون لياليهم الثلاثة الماضية وسط ألسنة اللهب التي طالت كل المنشآت وأعمدة الدخان المنبعث من كل مكان ورائحة الموت والجثث والدم المراق التي غطت الأجواء وأزكمت الأنوف. وساد الرعب القاتل في أوساط السكان الفلسطينيين منذ أن بدأت المجزرة المتعمدة إلى درجة أنهم لم يعودوا يجدون مكانا آمنا للفرار أو الاحتماء من بطش زبانية جيش تجاوز في درجة حمقه وعدوانيته الجيش الهتلري. ورغم كل تلك المشاهد التي لا يقوى أي وصف أن يصنفها، فإن ذلك يبقى سوى البداية لما هو أدهى وأمر لأن ما تم اقترافه إلى حد الآن لم يشف نازية ايهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلي الذي خطط للعملية على الطريقة الشارونية في صبرا وشاتيلا وقال متحديا كل العالم أن ما تم جوا سيتم استكماله برا. وبالفعل فقد صنفت المناطق الحدودية بين قطاع غزة وإسرائيل منطقة عسكرية ممنوعة بعد أن احتلتها التعزيزات العسكرية من دبابات ومدرعات وشاحنات نقل القوات المحمولة وفي وقت أعلنت فيها التعبئة العامة في أوساط الاحتياط المدنيين منهم والعسكريين تحسبا لأكبر عملية اجتياح ضد قطاع غزة وضمن خطة إبادة سكانه. وتتوالى هذه الاستعدادات يومين بعد تصريح لرئيس كيان الاحتلال شيمون بيريز الذي أكد أن جيشه لن يقوم بعلمية برية ضد القطاع بدعوى كاذبة "أننا لم نغادر القطاع من أجل العودة إليه". وتكون هذه مجرد كذبة تكتيكية أخرى تماما كما فعلت وزيرة خارجيته تسيبي ليفني التي توجهت إلى القاهرة لتغليط الفلسطينيين بأن باب الدبلوماسية لم يغلق بعد ولكن ذلك لم يكن في حقيقة الأمر سوى مجرد تمويه عسكري للحفاظ على سرية العملية العسكرية التي تمت يوم سبت العيد الأسبوعي المقدس عند اليهود وهو ما وقع فعلا ساعات فقط بعد عودتها من القاهرة. وهو ما يفسر التصريحات المتلاحقة لمختلف المسؤولين في الكيان الإسرائيلي الذين أكدوا أن العملية ستستمر لأطول مدة ممكنة والى غاية القضاء على حركة حماس وهو ما يعني عمليا إبادة شعب بأكمله على اعتبار أن لهذه الأخيرة امتدادات شعبية واسعة وأفكارها ومبادؤها متبناة من غالبية سكان القطاع. والمؤكد أنه في حال أقدمت الآلة العسكرية الإسرائيلية على تنفيذ عملية برية فإن العالم مرشح لأن يشاهد أبشع مما رأى إلى حد الآن وهو الأمر المتوقع كون إسرائيل رفضت الإذعان للنداءات الدولية التي طالبتها بوقف مجزرتها وأيضا لأن كبار العالم بقوا إلى حد الآن غير مكترثين بما يجري إلا من خلال بيانات هي أقرب إلى التأييد الضمني منها إلى التنديد الفعلي. وهو التذبذب الذي وجدت فيه إدارة الاحتلال ضوءا أخضر لمواصلة مذبحتها الآثمة في حق الأبرياء. وواصلت مقنبلات "إف16" الأمريكية دك كل شيء بقي قائما دون تمييز بين منزل أو مسجد أو مدرسة أو جامعة أو حتى مستشفى المحمية بالقانون الدولي فما بالك بمقرات الأجهزة الأمنية. وكان من الطبيعي في ظل هذا القصف العشوائي أن يسقط ضحايا مدنيون من أطفال لم تتعد أعمارهم السنة إلى أعضاء عائلات بأكملها طمرت أرضا وقد غلب أعضاؤها النوم بأحلام مرعبة من شدة ما رأوا وكثرة السهاد الذي عانوا منه طيلة اليومين الأولين للمجزرة. وهو الواقع الذي يحتم علينا عدم ذكر أية حصيلة لعدد الشهداء لكونها في ارتفاع مستمر ولا يبدو أنها ستتوقف عند حدودها الحالية والتي وصلت إلى 315 قتيلا وقرابة ألفي مصاب. وهي الحصيلة التي جعلت ما تبقى من مستشفيات قطاع غزة يلفظ جرحاه بعد أن ضاقت مصالحه بالمئات منهم رغم خطورة إصابتهم مما يرشحهم لأن يضافوا إلى القائمة المفتوحة لعدد شهداء الجنون الإسرائيلي. وما الفائدة لأن ينقلوا إلى مصحات لم تعد تحمل إلا الإسم وقد نفدت موادها الطبية والأدوية الضرورية في مثل هذه الوضعيات الكارثية بل وفي وقت انقطعت عنها الكهرباء والتدفئة. وهو الوضع المأساوي الذي يغني عن كل وصف مهما كانت دقته.