على غلاف الطبعة الخامسة من قاموس الأكاديمية الفرنسية الذي صدر عام 1798 بعض الرسوم والزخارف العربية والأقواس التي تكشف عن اهتمام عميق بالثقافة العربية الإسلامية. وكيف لا يحدث مثل هذا الاهتمام ونابليون بونابرت يستعد يومها للنزول بأرض مصر وفلسطين قبل أن يلوذ بالفرار مع فلول جيشه؟ في ذلكم الزمن، كان العثمانيون يحكمون سيطرتهم على كامل البحر الأبيض المتوسط وعلى جانب كبير من شرق القارة الأروبية، وكانت المعاملات الدبلوماسية على قدم وساق بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، وعليه، فقد شعر الفرنسيون بضرورة التعمق في الثقافة العربية الإسلامية بغاية التسرب إليها، ومن ثم معرفتها حق المعرفة، والإطلاع على جوانب النقص فيها، والثغرات التي يمكنهم الولوج منها لتوجيه ضرباتهم الموجعة إلى هذه الكتلة الحضارية التي ظلت تؤرقهم عقودا طويلة. والكلمات العربية في هذا القاموس ذات مدلولات تكشف نوايا الملكية الفرنسية وثورة 1789 والعهد النابوليوني حيال العالم العربي الإسلامي برمته، وإفريقيا الشمالية بوجه خاص، فمن كلمة العرب إلى كلمة الأرابيسك، إلى كلمة قرصان وما يدور في فلكها من أسماء بعض السفن والمراكب العثمانية التي تشق عباب المتوسط شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا. ومعنى ذلك أن الخطط الحربية لم تكن تقتصر على الأسلحة والمدافع ومواقعها فوق الحصون والقلاع، وإنما كانت تهتم اهتماما عميقا بكل جوانب الحياة بمعناها الأنثروبولوجي الشامل. ولذلك، لم يكن غريبا أن تضم الجحافل العسكرية الاستعمارية مترجمين، ولغويين، ورسامين، ومهندسين، وخبراء في اللهجات الشعبية والأساطير والخرافات والطلاسم السحرية وما إليها. والنبرة هي نفس النبرة سواء في العهد الملكي الذي سبق ثورة 1789 أوخلال الفترة التي سيطر فيها نابليون بونابرت وفرض في أثنائها سياسته على الفرنسيين والأروبيين وحاول أن يفرضها على المناطق الجغرافية التي كان ينوي وضع يده عليها، بل، ولعل نابليون أن يكون أكبر الاستعماريين جميعا بسبب من أنه استخدم النار والحيلة في نفس الوقت، وأفلح في جانب، وأخفق في جانب آخر. ولا شك في أنه أدرك مع عسكرييه وخبرائه أن التمكن من اللغة العربية ومن دقائقها هو الباب المفضي إلى قلب الأمة العربية. وعندما اصطحب أول مطبعة بالحروف العربية إلى أرض مصر، انبهر المصريون بها، ولم يدركوا أول وهلة أن استقدام تلك المطبعة لم يكن حبا فيهم ولا في مصر ولا في بقايا الحضارة العربية الإسلامية، وإنما كان وليد نية دفينة من أجل الدخول إلى قلب المشرق عن طريق اللغة العربية في المقام الأول. ولذلك لم يكن عجيبا أوغريبا أن تصدر الطبعة الخامسة من قاموس الأكاديمية الفرنسية في عهده، أي عام 1798، وأن تكون محلاة بالزخارف العربية على الغلاف على سبيل لفت انتباه الفرنسيين إلى ضرورة الاهتمام بالثقافة العربية الإسلامية كوسيلة للسيطرة على هذا العالم العربي، والباقي يعرفه الخاص والعام في البلاد العربية وفي العالم أجمع.