لم تبق منه إلا الأساسات وبعض الجدران، بينما القصر لم يكن موجودا، هو ذلك المعلم الخالد الذي كان منه سلاطين بني زيان يديرون دفة الدولة، وفيه يستقبلون الوفود والسفراء.. يعود القصر ليظهر من جديد كما ''العنقاء'' ويتحول إلى مزار سياحي وتاريخي وآية من آيات الفن المعماري. تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية 2011 أبت استقبال ضيوفها إلا بوجهها التاريخي ورونقها الحضاري وتميزها المعماري، تلمسان بكل حقبها وتراثها تستوقفك لتتحسس في حواريها نكهة التاريخ، وفي أسواقها تطور الإنسان وإبقاءه على تشكيلة التاريخ وتنوعه في اللباس والمطعم واللسان. لم تكن الزيارة التي أخذتنا إلى تلمسان مجرد زيارة عابرة مع مدائح دينية تونسية عريقة، ولا مجرد وقوف على تطور الخط العربي وبالأخص المغاربي وهو الكوفي القديم، ولا حتى تلك المحاضرات التي مزجت بين القديم والحديث، بين المرحلة الانتقالية وما قبلها، بل كانت زيارة إلى تلمسان بسحرها وجمالها وأناقة إنسانها وحسه الجمالي. قصر المشور الذي ينبض بالتاريخ ويؤكد أنه مايزال يضخ لتلمسان القوة والحراك الثقافي، بذلك السور الذي يخبرك عن صموده إبان حصار المرييين لعاصمة الزيانيين، وكأن تلك الأبراج لا تزال تراقب الجيوش المرينية، وكأن صهيل الخيول وصلصلة السيوف وهرولة العساكر وقرقعة الأبواب وصيحات القادة على الجند ما تزال محفوظة في الجدران تعرض عليك كل المشاهد والصور في تأمل وتمعن، وكأن أبا حمو مسي بن يوسف الزياني مازالت أبياته الشعرية التي كتبها على جدرا القصر حاضرة: ''سكنّاها ليالي آمنينا وأياما تسر الناظرينا بناها جدنا الملك المعلى وكنّا نحن بعض الوارثينا فلما أن جلانا الدهر عنها تركناها لقوم آخرينا'' قصر الزيانيين الذي انطمست أحجاره وعفت آثاره عاد إلى الحياة بكل أناقته ورونقه وذلك من خلال المجهود الكبير من البحث والدراسة والتكوين، حيث وفرت الدولة كل الإمكانات لبعث هذا المعلم التاريخي من جديد من حيث التربص والتوجيهات وجلب اليد العاملة المحترفة في الحفر على الخشب والجبس والزليج والفسيفساء والمساطب وحجرات السلطان وقاعة الحكم، وقاعة استقبال الوفود والمجلس الشتوي والصيفي وحوض الماء بشكله المستطيل وأقواسه وباحته، إنه القصر، تحفة معمارية مستنسخة من المعمار الأندلسي، أرسل المهندسون إلى الأندلس لمعاينة الآثار العربية الإسلامية بالإضافة إلى دراسة التاريخ المعماري دراسة معمقة حتى تمكنوا من إخراج هذه التحفة من حيز العدم إلى الوجود وأصبح لسور المشور قصره وفخره، ولمدينة تلمسان جوهرة سياحية تفتخر بها وتتباهى على سائر المدن الأخرى. طافت بنا دليلتنا بأرجاء القصر وبلكنتها التلمسانية الناغمة.. كان قصر المشور الذي بعث من جديد جميلا أخاذا، أما المسجد حيث كان يتعبد السلطان ويؤدي صلواته مع حاشيته وأرباب دولته فقد أعيد ترميمه رغم أن الفناء لم يأته مثلما أتى القصر، وإنما حول في العهد الاستعماري إلى كنيسة وتم تحويل منبره عن القبلة، وها هو اليوم يتحول إلى متحف تعرض فيه بعض المخطوطات وبعض الأشياء القديمة خصوصا مصحف الشيخ العربي التبسي وسجادة لصلاته وبعض الأشياء التلمسانية التقليدية الأخرى. الشيء الذي لفت انتباهنا هو أن الأبواب والأقفال لم تأخذ طابعها التقليدي الحرفي، ولم تكن بتلك المتانة التي كانت عليها في السابق خصوصا القفل الذي يشوه الباب بكونه ماركة صينية مما يستعمل في الأبواب الحالية، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على عدم الاهتمام والتذوق والاطلاع على التاريخ وعلى الحرف التقليدية، ولا أعتقد أن تلمسان لايوجد فيها حداد تقليدي يستطيع صناعة أقفال لأبواب قصورها ومساجدها العتيقة.