عندما يعود الإنسان إلى ذاكرته، تكون عودته شبيهة لمغترب غادر الديار، ثم عاد إليها بعد غياب طويل، فوجد الأمور تغيّرت والناس الذين يعرفهم رحلوا، كل شيء تغيّر، وكأنما الطبيعة أيضا تغيّرت، خمسون سنة تمضي على استقلال الجزائر ونحن في الإعداد لهذه الذكرى الجميلة الرائعة التي رفعت فيها الرايات والهامات، وتعالت فيها الأصوات بالنغمات مخلدة هذا الانتصار العظيم، أصوات غابت عن الحياة وتم تغييبها، أصوات لم نعد نسمع لها رنينا ولا حسا، فهل نعود لنتذكر هذه الأصوات في شهر التراث وفي سنة الاحتفال، باستعادة السيادة والكرامة. بعض الأصوات الجزائرية التي غنّت أروع القصائد بالشعبي وبالشعر الملحون وتم تكريمها، وأصوات أخرى حجبت أسطواناتها في أرشيف الإذاعة الغبار والنسيان، وربما التّلف والضياع ولم يعد لها اسم يذكر. من الأصوات المغيّبة؛ المطرب الصحراوي الكبير حدادي ابراهيم، وهو المطرب الشاعر الذي غنى للوطن، للغربة وللفروسية بصوته الجميل. غاب اسم هذا المطرب ولم يعد يذكر له ذكر في إذاعتنا الوطنية، المطرب أيضا والشاعر الكبير الذي غنى للجزائر، للجمال والغربة؛ رحاب الطاهر، هذا الصوت العذب الجميل، هو الآخر غاب عن الأسماع وتم تغيبه، المطرب أيضا الكبير خذير منصور، بسيسة ابراهيم، الشيخ حمادة، عبد الرحمان عزيز، ومن النساء، المطربة التي تم تكريمها مؤخرا سلوى، والمطربة نورة التي غنّت هي الأخرى للاستقلال حينما كان صوتها يتردد في الإذاعة الوطنية بأغنية: ''جانا الاستقلال جابوه ذوك لبطال أعلامنا لمنور بالأبيض والأخضر والنجمة وهلال جابوه ذوك لبطال'' ومن منا لايتذكر المطربة الجزائرية مريم عابد التي غنت لجمال الجزائر، وأشهر أغانيها: ''البهجة مدينة الجزائر زينت لقصر والبنيان البهجة مدينة الجزائر الفايز على البلدان فيها القطب الرباني سيدي عبد الرحمان'' كما أن هناك صوت جميل غنى للتراث الجزائري أروع أغانيه، وهو المطرب الكبير البارا عمر الذي غنى ''راس بنادم''، وهي أغنية من التراث، تعدّ من أجمل القصائد الشعبية، وينسبها البعض إلى الشاعر المقاوم سيدي لخضر بن خلوف. هذه القصيدة التي ألقي بسببها القبض على المطرب الباراعمر، وقضى أربعين يوما في الاستنطاق والعذاب، معلقا بتهمة التحريض على العصيان والثورة ضد الاحتلال الفرنسي. هناك أيضا أصوات ما تزال حية، إلا أن أصحابها تم تغيبهم عن الساحة الفنية، وحتى في المناسبات الوطنية؛ مثل المطرب عمر العشاب، رابح درياسة ومصطفى زميرلي''. ومن الأصوات التي تحضرني، الصوت الجميل، صوت وراد بومدين، والصوت الشهيد الخالد علي معاشي الذي اختفى صوته وأغانيه، ويُكتفى ببث أغانيه ليس بصوته، كأغنيته الجميلة الخالدة ''أنغام الجزائر'' التي أصبحت تبث بأصوات المجموعة الصوتية، بالاضافة إلى الصوت الجميل عثمان بالي الذي لم نعد نسمع صوته أيضا، بعد رحيله وموسيقاه الجميلة، إضافة إلى مطرب الشباب في عصره؛ محمد مازوني الذي غنى هو الآخر للجزائر، للوطن والخدمة الوطنية. كثير من الأصوات لم نعد نسمعها في إذاعتنا الوطنية، قد تبث أغانيها في الإذاعات الجهوية، مثلما أعلن مؤخرا أن مطربنا الكبير رابح درياسة منح مجموعة من أغانيه لإذاعة البليدة الجهوية. إن هؤلاء المطربين، وأيضا الأصوات الجزائرية الجميلة، ينبغي أن تعود للساحة الفنية وتبث في الإذاعة الجزائرية الوطنية مثلما كانت في السابق، لتعيد للذوق الفني توهجه، وللكلمة الجميلة مكانتها في العائلة الجزائرية. إننا في شهر التراث الذي ينبغي أن نحافظ من خلاله على ثروتنا الفنية، وشيء هو قليل لوجعلنا شهرا خاصا بالفن الأصيل، كمعرض من المعارض الفنية الصوتية التي أغنت إذاعتنا عن الاستجداء بأغاني الآخرين ونافست كبار المطربين العرب، بل افتكت الإعجاب والجوائز، حينما غنى خليفي أحمد ونال جائزة الأغنية البدوية، وحينما غنى رابح درياسة في صوت العرب ''خلخالك مال''، ''نجمة قطبية'' و''ووردة بيضة فالعلالي''، وحينما كانت أغاني المطرب الحكيم دحمان الحراشي تزين صبحات الجزائر ومساءاتها، إضافة إلى صوت الهاشمي ?روابي، عيسي الجرموني، زليخة، والكثير الكثير من الأصوات التي لم نعد نسمعها، سواء تلك الأصوات التي رحلت عنا، أو الأصوات التي تم تغييبها عن قصد وإحالتها إلى المعاش الفني بسبق الإصرار والترصد. أصوات مغيّبة صنعت الفرح وحافظت على التراث، فهل آن الأوان لتكريم هذه الأصوات وإعادتها للحياة بإذاعة تلك الأغاني الجميلة وبثها من جديد، ليس بالأصوات المقلدة أو المكررة لإبداعاتها، بل بأصواتها هي.