"الليونة الشجاعة" هل تعيد النظر في عقيدة السياسة الخارجية الإيرانية؟ عاد الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى بلاده في ثوب المنتصر من سفرية نيويورك بعد أن تمكن من إعطاء صورة جديدة لبلد كان يدرَج ضمن الدول المارقة أو دول محور الشر. وعلى نقيض الرؤساء الإيرانيين السابقين، فإن روحاني استطاع أن يُكسب بلاده صورة أخرى أكثر إيجابية وتقبلا لدى الدول الغربية، وجعل مسؤوليها يتقبلون إيران بوجهها الجديد بعد عداء قديم بلغ حد التهديد بالضربة العسكرية. فما الذي حدث حتى تحولت 35 عاما من التوتر ولغة الوعيد إلى تقبّل وقبول من طرفي معادلة الملف النووي الإيراني وكأن شيئا لم يحدث؟! ولكن عندما نعلم أن العداء الأبدي بين الدول غير موجود وأن الود المطلق غير مضمون أيضا في علاقات تحكمها المصالح، يمكن فهم دواعي الطارئ على علاقات إيران مع الدول الغربية. ولما ندرك أيضا أن الدبلوماسية هي فن الممكن فإن ما حدث في العلاقات الإيرانية الغربية عامة والأمريكية تحديدا، أن هذه القاعدة تنطبق عليها، وسمحت بعودة الدفء التدريجي، الذي بدأ يزيل الجليد من علاقات قد تتطور إلى محور طهرانواشنطن. والواقع أن الرئيس الإيراني ما انفكّ يوجّه منذ انتخابه شهر جوان الماضي، رسائل طمأنة باتجاه الدول الغربية، وهو الذي استقبلته عواصمها بكثير من الاهتمام، وقناعتها أن القطيعة مع سياسة الرئيس أحمدي نجاد، قد حانت مع الوافد الجديد على قصر الرئاسة الإيرانية. ولكن الجميع كان ينتظر موعد الجمعية العامة الأممية للوقوف على حقيقة تصورات الرئيس الجديد التي روّج لها في تصريحات مكثفة قبل مغادرته طهران باتجاه نيويورك، والتأكيد على حسن نواياه في التعامل الإيجابي معهم. ولم يخيّب الرئيس روحاني تلك الهواجس، وأصبح بمثابة "نجم" هذه الدورة بالنظر إلى مواقف لم تعهدها المجموعة الدولية في خطابات سابقه أحمدي نجاد، الذي انتهج أسلوبا صداميا مع العواصم الغربية، ومتحديا إياها أن تضرب بلاده أو أن تُرغمه على وقف برنامج بلاده النووي. ولم يكن من محض الصدفة أن أجرى الرئيس باراك أوباما اتصالا هاتفيا أمس بالرئيس روحاني مباشرة بعد عودته إلى طهران لو لم يستشعر منطقا ولغة جديدة لدى نظيره الإيراني، قد تمهّد لعودة علاقات التعاون الإيجابي التي طبعت عهد شاه محمد رضا بهولي مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ الإطاحة بحكومة محمد مصدق سنة 1953. ولكن ما الذي قدّمه روحاني حتى يتمكن من كسر القاعدة التي حكمت علاقات بلاده مع الدول الغربية وتحويلها من النقيض إلى النقيض؟ وعندما نتحدث عن تحول في علاقات دولتين من العداء إلى التعايش، فإن ذلك يعني أن تغيرا جذريا حصل فعلا وأن طهران ربما غيّرت من عقيدتها الدبلوماسية، بتحول يكاد يكون جوهريا إن لم نقل ب 180 درجة. وهو أمر مطروح إذا سلّمنا بأن الإصرار في مجابهة قوى غربية متحكمة في دواليب القرار الدولي والصمود أمام سيل العقوبات التي تعرضت لها إيران طيلة السنتين الماضيتين، أمر صعب إن لم نقل مستحيلا على دولة أيقنت أنه لا يمكنها أن تعيش خارج نطاق نسق دولي، قواعده محددة من طرف هذه القوى. وقد اقتنعت السلطات الإيرانية بذلك وحتى الشعب الإيراني، الذي بدأ يستشعر آثار تلك العقوبات على حياته اليومية؛ مما جعله ينتخب رئيسا رأى فيه أنه سيحدث قطيعة مع سياسات الحكومات السابقة تجاه الدول الغربية. وهو ما يفسر المنطق الإيراني الجديد في التعاطي مع الدول الغربية، وراح روحاني يتعامل بالمنطق البراغماتي الذي تتقنه الدول الغربية وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وكلها منطلقات جديدة اقتنعت إيران بانتهاجها، متأثرة بما يجري في محيطها القريب بعد الهزة العنيفة التي تعرفها سوريا أهم حليف عربي لها في منطقة الشرق الأوسط. ثم إن الدور الإقليمي الذي تسعى إيران للعبه في منطقة لا تعرف الاستقرار، جعلها تكيّف مواقفها بكيفية تؤهلها لأن تظفر به وخاصة في ظل التنافس الذي بدأ يشتد بشأنه بين أنقرة والرياض وحتى القاهرة رغم تراجع دور هذه الأخيرة، دون نسيان الدور الذي تريد إسرائيل الاضطلاع به في منطقة عجزت أن تجعل نفسها طرفا مقبولا فيه. ولكن هذه الرغبة جعلت السلطات الإيرانية تقتنع بأن هذا الهدف صعب التحقيق ما لم تغير في جوهر برنامجها النووي، وربما ذلك هو الذي جعل الرئيس روحاني يؤكد أن بلاده لا تريد امتلاك السلاح النووي ولا هي تكنّ العداء لأية دولة في محيطها القريب أو في كل العالم. ولكن إلى أي مدى سيتمكن الرئيس الإيراني الذي استحدث مصطلح سياسة "الليونة الشجاعة" التي أطلقها على موقف بلاده ضمن منطق "لا إفراط ولا تفريط"، من أن يقنع الولاياتالمتحدة بصدق إرادته في بناء علاقات جديدة تضمن مصالح الكل في منطقة تعرف هزات متلاحقة قد تعيد النظر في كل التوازنات التي حكمتها منذ الحرب الثانية؟