الإهداء إلى الذين صدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه وما بدلوا تبديلا إلى من وشموا بدمائهم خارطة الوطن، ورسموا ملامح مستقبل باللوح والدواة والبندقية أيضا. يقول اللورد ماكماهون : كانت السرية التامة التي تحيط بالزوايا، وما يجري داخلها، من نشاط شيوخها والتي لم يستطع الاستعمار بما لديه من إمكانيات ووسائل الإطلاع عليها، يجب على الإنسان أن يقضي حياته كلها في الزاوية حتى يعرف ما يجري فيها وما يقال فيها". تمهيد مارس الإنسان التصوف منذ القدم، حيث ارتبط كممارسة وسلوك بالشعائر الدينية، وهو بهذا المعنى لم يرتبط بالدين الإسلامي كما قد يتبادر إلى الذهن، وهو إجمالا ظاهرة دينية واجتماعية تعني عزوف الناس عن ترف الحياة والتمسك بالعبادات، ومجاهدة النفس ومحاولة إدراك الحقيقة، وعند بعضهم محاولة بلوغ اليقين، ولعل الرهبانية النصرانية والترهب البوذي من الدلالات القديمة لظاهرة التصوف الإنساني. وقد ظهر التصوف عند المسلمين أولا في بلاد المشرق، ثم امتد الى المغرب الاسلامي، ويمكن القول ان فترة التواجد العثماني كانت بمثابة العصر الذهبي لنشاط الطرق الصوفية في الجزائر . وقد اختلف أهل التصوف في الجزائر حول السبل المؤدية الى التصوف وحقيقته، فكان موقف بعضهم معتدلا بالقول إن التصوف هو القيام بالواجبات الشرعية ومعرفة الله وشكره باستمرار، وان يمارس المتصوف ذلك في خلوته بحسب قدرته وبتقوى وخشوع، وأمام هذا الرأي المعتدل يزعم بعض أدعياء التصوف إن المتصوف عليه أن يمارس شعائره وطقوسه كاملة، وان يبالغ في الانقطاع والانعزال والتضحية ويمارس طقوس الرقص والتضارب، ويستفيض في قراءة الأدعية والأوراد، وهؤلاء يمكن تسميتهم دراويش بدل متصوفة، أما المرابطين الذين يمارسون تعاليمهم الدينية بتقشف بهدف الصلاح والتقرب إلى الله، فسموا بالرجال الصالحين والمرابطين، وهم ليسوا رجال الطرق الصوفية، وعرف في الجزائر صنف آخر هم الأشراف الذين ينتسبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق ابنته فاطمة الزهراء، وكانوا يستقطبون الناس إليهم ويعلمونهم الدين ويظهرون لهم الكرامات وخوارق العادات، وبعض الأشراف كانوا مسالمين في حين أن الكثير منهم اتخذ الجهاد وسيلة لتحقيق مآربه . وقد كان للزوايا دورها البارز ليس فقط في التعليم ومقاومة الاستعمار وإنما أيضا في قيادة العمل القتالي والجهادي ضد القوات الإستعمارية. مع إشارة هامة هنا تتعلق بفريضة القتال كواجب لا بد منه، وليس مجرد حالة جهادية تقوم على بعض وتسقط عن بعض، فقد كان رجال الزوايا "ذكرانا وإناثا وأطفالا" أهل قتال ونزال، وذلك يرتبط بمفهوهم الفقهي للدين، إذ لا يعقل أن يرضخ شيخ الزاوية وإمامها، مع أتباعه ومريديه الذين يتمركز دورهم في الأساس على توارث العلم وتعليمه، للضغط والإرهاب الاستعماري وأن يسلم به، وإنما اقترن العلم هنا بالقتال كحالة عملية عليا، إذ ليس بعد التضحية بالنفس من تضحية تذكر، وإن لم يكن الثائر صاحب علم فمن السهولة كسره، وإن لم يكن العالم صاحب راية حربية ضد الظلم والبغي والسيطرة، فأية فائدة يمكن الحديث عنها من ذلك العلم الشرعي؟. وإذن كانت الزوايا بدءا منارة معرفية، وذات صبغة اجتماعية تراحمية وتضامنية، وبعد الهجمة الاستعمارية لعبت دورا جهاديا وحربيا متميزا فكانت قاعدة وقواعد، ثم تطور فعل الزوايا بتطور الزمن وتغير مجرى الأحداث، وهي وإن استكانت في فترة ما، أو انكفأت وتقوقعت لكن جذوة المقاومة لم تنطفئ فيها، بل كانت دوما إما مصدرا للثورة أو محرضا عليها، وفي أضعف حالاتها كانت تخرج من ثناياها مشاريع ثوار وحرية وشهادة. الفصل الأول الصوفية والزوايا في إفريقيا الصوفية ومقاومة الاستعمار لم تكن علاقة الناس بالصوفية والزوايا نتيجة قهر وإكراه، ولا هي تبعية جامدة وخشبية، بل كانت علاقة إيجابية متبادلة ذات حدين فاعلين ومؤثرين، وسنتناول هنا تاريخ الصوفية في شمال إفريقية، بدءا من مصر ولغاية المغرب الأقصى، وبيان طبيعة العلاقة التي ربطت ونشأت وتعمقت بين المواطنين ومشايخ الصوفية. فقد كان تعلق قلوب المسلمين ومحبتهم للصوفية ورجالاتها، نتيجة طبيعية لما نشروه من فكر وكرسوه سلوكا، وذلك عن طريق القدوة الحسنة التي مارسوها وكرسوها بين الناس، فقد نشروا قيم العدل وحرضوا عليه وقاوموا الظلم، وساووا بين الظلم والكفر، وهم قاوموا الاستعمار لأنهم ربطوا بينه وبين الكفر والظلم، كما يقول الدكتور عمر التيجاني إلا أن البعض رأى فيهم مصانعين للاستعمار وصنايع له، جهلا منهم بتاريخ الإسلام في إفريقيا من مصر إلي المحيط الأطلسي غربا والمحيط الهندي شرقا، فإن سير الأئمة الصوفية تحكي عن ملاحم المقاومة والرفض أكثر مما تروي مظاهر الخضوع والخنوع . مفاهيم مغلوطة لقد أخطأ المهاجمون في فهم التصوف لأنهم أخطأوا في فهم روح الإسلام ورسالته فليس التصوف خمولا ولا انهزاما كما ادعوا وليس التصوف تواكلا وهوانا ورضى بالذل، ولو كان هذا الادعاء حقيقيا وصادقا، لما كان صاحبه مسلما كاملا ولا عابدا عارفا بالله. فالتصوف قوة وبأس ونضال، إنه تصعيد بالحياة إلى أعلى معرفة وإيمان لأنه كما يزعم أهله هو البحث عن اليقين والحقيقة العادلة. أنه قوة روحية تكمن وراء كل حركة وخاطرة وتعلق بالله وحده، وهو بهذا المعنى يرفع من معنوية الإنسان في الحياة، فلا يأبه بطغيان طاغية ولا جبروت سلطان، ولا يزن أعماله إلا بميزان دقيق، أساسه مراقبة الله تعالى لأعمال العبد، وتحكيم الحق الصرف في كل عمل وفي كل حركة وفي كل خاطرة وفي كل التفاتة . لقد كانت الحركة الفكرية والتجديدية في الإسلام، بعضا من أعمال أئمة التصوف الإسلامي الأوائل، ونتيجة لجهودهم الضخمة في نصرة الإسلام والعمل على النهوض بالمسلمين، بل إن الإسلام لم ينتشر في أواسط إفريقيا وفي الممالك النائية في آسيا، وفي جزر المحيط الهندي وفي إندونيسيا وفي ماليزيا، وأيضا في أوروبا من بلغاريا وفي رومانيا وفي بلاد يوغسلافيا وفي البوسنة والهرسك وكوسوفو( بلاد الصقالبة ) لم يكن كل ذلك إلا على أيدي الدعاة من الصوفية المجاهدين . وكيف ننسى هذا التراث الروحي الكبير أو ننتقص من قيمته وهو جزء مهم من تاريخنا الوطني والسياسي، فهؤلاء الصوفيون الأعلام هم الذين قاوموا طغيان الحكام وانتصروا للشعب في محنته وكافحوا الاستعمار الصليبي بكافة أشكاله، ومهما جدد من جلده وماهيته سواء كان إيطاليا أو إفرنسيا والإنجليزي أيضا، كما كافحوا من قبل ظلم المماليك وطغيانهم الذين كانوا بمثابة استعمار داخلي، لجهة تحكمهم في مقاليد الحكم ورقاب الشعب، لقد كان الصوفية هم من وقف وراء تأهيل المصريين لزعامة العالم الإسلامي بعد سقوط بغداد عاصمة الخلافة، وبتأييدهم وحشد مريديهم ومحبيهم انتصر المسلمون على الصليبيين في حطين، فهل كان القائد صلاح الدين الأيوبي إلا ابن زاوية وربيبها، وفي دمياط وفي المنصورة وانتصروا على التتار في عين جالوت، انظر تاريخ الشيخ أحمد الدرديري شيخ الطريقة الخلوتية وانظر تاريخ الشيخ عبدالله الشرقاوي شيخ الطريقة الشاذلية وانظر تاريخ الشيخ السادات والشيخ عمر مكرم والشيخ أحمد بن السنباطي وكل هؤلاء هم أئمة صوفيون . وللنظر لما كتبه عبدالله شليفر، وهو مستشرق أمريكي مسلم، له عدة دراسات منها كتاب (سقوط القدس) وكتاب ( فكرة الجهاد في العصر الحديث ) وقد نشر بحثا بعنوان (الشيخ عزالدين القسام : حياته وفكره) نكتشف فيه علاقة الشيخ المقاوم والثائر في فلسطين باشقائه الجزائريين، وكأن فكر الزاوية قد اقترن وتزاوج مع فكر البندقية، بطريقة يصعب فكاكها والتقليل من أهميتها، فحيث كانت الزاوية كان القتال، وإن بشكل منفرد، على مستوى الشخاص فقط.
لقد كتب المستشرق الأمريكي في بحثه قائلا: "في 21 نوفمبر 1935 نشرت صحيفة جيروزلم بوست على ثلاثة أعمدة في صدر صفحتها الأولى نبأ اصطدام رجال الشرطة البريطانيين بمسلح عرب بجوار (جنين ) واصفة المسلحين برجال العصابات وقطاع الطرق ذاكرة ان الشيخ عزالدين القسام كان بين القتلى ناعتة إياه بمنظم العصابة غير أن دوائر الاستخبارات البريطانية والصهيونية أعلم بالحقيقة، فهي تعرف أن الشيخ عزالدين القسام رئيس لجمعية الشبان المسلمين وخطيب واسع الشعبية في جامع الاستقلال بجوار محطة حيفا الحديدية ومأذون في محكمة حيفا الشرعية، ثم إنه كان تحت المراقبة وقد استدعي للتحقيق معه، ووجه إليه التحذير من الدعوة العلنية للجهاد ضد الاحتلال البريطاني والاستعمار الصهيوني، خلال العقد المنصرم.