بدأت قضايا الإهمال العائلي تطفو إلى السطح وتطرح أمام العديد من المحاكم وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على العنف الأسري بأشكاله المتعددة والذي بات يفتك بالعديد من العائلات التي عانت الكثير مما انعكس سلبا على حياة ومستقبل الأبناء بسبب تماطل رب الأسرة في تحمل المسؤولية التي تقع على عاتقه. لقد كانت قضايا الإهمال العائلي في زمن ليس ببعيد محاطة بنوع من التستر ولم يكن الكثير من السيدات اللواتي يعانين من هذا المشكل يملكن الجرأة الكافية للتقدم بشكوى ضد الزوج في حال أهمل عائلته كما هو حاليا وذلك بسبب العادات والتقاليد التي تلزم المرأة بالصبر على تصرفات زوجها. يهمل عائلته لمدة تزيد عن ثلاثين سنة هي إحدى القضايا المطروحة أمام المحكمة الجزائية لمجلس قضاء العاصمة المتهم فيها شيخ طاعن في السن هجر زوجته والبيت العائلي بعد سفره إلى فرنسا ليعود بعد ثلاثين سنة طالبا الطلاق من زوجته التي وقفت أمام قاضي الجلسة وهي تروي معاناتها في إعالة أسرة بكاملها بمفردها ولمدة طويلة, حيث اضطرت للعمل مقابل بعض المال الذي لم يكفها في تلبية طلبات الأسرة, وكم كان محزنا أن نرى الأب وهو يلتقي ابنته التي تركها جنينا في رحم أمها وهي الآن شابة في حيرة من أمرها بين أن تكون مع أمها وتطالب أباها بتعويض مادي علّه يعوضها سنين الحرمان, وبين أن تكتفي بحضن أبيها الذي لم يسبق لها رؤيته إلا وهو واقف في قفص الاتهام, وما زاد الطين بلة أن ينقسم الإخوة بين مؤيد للأم وآخرين للأب, ما جعل الخلاف قائم بينهم لدرجة أن الاإن تجرأ على سب وشتم أمه في رواق المحكمة وكاد يضربها على مرآى الجميع. قضية أخرى لزوجة هجر زوجها البيت العائلي لمدة ثلاث سنوات كاملة بعد خلاف عائلي تاركا إياها تتحمل مسؤولية ثلاثة أبناء لوحدها وهي لا تعلم مكان تواجده,اتجهت إلى بيت أهلها علّها تجد من يساعدها على التكفل بالأطفال, ولكن واجهت مشاكل اضطرتها لترك البيت العائلي لتجد نفسها في الشارع بعد أن عجزت على تسديد إيجار البيت, ما جعلها تتوسل بأبنائها في الشارع بل أن تقرر رفع دعوى قضائية ضد زوجها الذي اتضح أنه كان مهاجرا خارج الوطن, وبمجرد عودته ألقي عليه القبض بتهمة الإهمال العائلي ولاتزال القضية مجدولة الى يومنا هذا دون أن تأخذ المرأة تعويضا ماديا. يهمل عائلته ليعيش مع عشيقته زوجة أخرى ضاقت ذرعا وهي بين رحلة الذهاب والإياب إلى المحكمة, مطالبة بتعويض مادي ضد طليقها الذي نسي تماما أن له أطفالا بحاجة إلى ميزانية تعيلهم, تروي أمام القاضي قائلة: «كان زوجي قد طلب مني أن أصوم شهر رمضان الفارط في بيت أهلي وسيعود لأخذي بعد انقضائه, كونه مسافر للعمل, ولن يطمئن علي وسط عائلته بسبب كثرة الخلافات, وبالفعل كان له ما أراد. ولكن بعد مرور أكثر من شهر لم يسأل خلالها لا عني ولا عن أبنائه, اتصلت لأستفسر عن طول مدة غيابه, فأكد لي أنه يعمل في الصحراء, فاضطررت للعودة إلى بيتي الزوجي الذي كنت أقطن فيه رفقة عائلته, ولكنهم طردوني وصارحوني أن زوجي ليس له رغبة في إرجاعي, لأنه وبكل بساطة يعيش مع عشيقة له وهو ما تجرأ هو الآخر بقوله», تضيف: «لولا عائلتي لكنت الآن أنا وأولادي في الشارع, فهو لا يقدم لي أي مبلغ», الزوج أنكر التهمة الموجهة اليه وقال أن الزوجة تركت بيت الزوجية بمحض إرادتها, وأنه كان يرسل لها نفقة الأولاد لتؤجل القضية إلى جلسة لاحقة. محمد ضحية لإهمال أبيه بدأت معاناة محمد صاحب الثماني عشرة سنة بعد طلاق أمه من أبيه منذ ما يقارب سنتين دون أن يؤدي والده ما عليه من الالتزامات العائلية المفروضة بعد الطلاق, ولكون أمه كانت تجهل طريقة المطالبة بحقها ولا تملك المال لدفع تكاليف التقاضي, قررت التنازل عن حقها لتجد نفسها تبحث في كل مرة عن مستودع بإحدى العمارات تكسر أبوابه وتقيم فيه رفقة ابنائها قبل أن تطرد من صاحبه لتبحث عن محل آخر يأويها وأبناءها بعد أن عجزت عن تسديد تكاليف التقاضي, ما جعل الأم تخرج للعمل مقابل بعض المال الذي لا يسد حاجة فرد واحد, فما بالك بعائلة من أربعة أفراد, ما جعل محمد رغم صغر سنه يعمل مرة كبائع في سوق شعبي ومرة أخرى كقابض نقود في حافلة دون أن يتمكن من إعالة أسرته, كان هذا جزء من قصة شاب أوقف بتهمة السرقة والتعدي بالسلاح الأبيض, فالظروف جعلت محمد يدخل عالم الانحراف بدءا من سرقة الهواتف النقالة إلى السطو على المنازل قبل أن يصدر في حقه حكم يقضي بثلاث سنوات سجنا نافذا. عدم تسديد النفقة من أبرز القضايا عدم تسديد النفقة هي من أكثر صور الإهمال العائلي التي باتت تطرح أمام المحاكم, فرغم إدراك الأزواج بضرورة تسديد النفقة الواجبة عليهم, إلا أن الكثير منهم يتماطلون في ذلك قبل أن تقرر الطليقة رفع دعوى قضائية, لتختلف الأعذار التي يقدمها كل رجل بين تأخيرات في تحويل المبلغ الى حساب المعنية, وبين من هو مدين وبالتالي لا يستطيع دفع مبلغ النفقة الذي تراكم عليه, في حين لا يدفع آخرون ما عليهم من مبالغ النفقة إلا بعد تحريك المتضررة للدعوى, ليكون رسم الدفع حجة أمام القاضي تؤكد أنه دفع المبلغ قبل أن يعود للتماطل مرة أخرى ما يجعل الطليقة ترفع شكوى من فترة لأخرى حتى تضمن حقوق أطفالها من الضياع وهو ما حدث مع إحداهن, وهي مطلقة وأم لثلاثة أبناء تضطر بعد كل شهرين تقريبا الى رفع شكوى ضد أب أبنائها, قالت أمام هيئة المحكمة أنه لم يلتزم يوما بما عليه فيما تعلق بتسديد النفقة, وهو الأمر الذي أثبته محامي الدفاع للقاضي, حيث لم تلبث مدة طويلة منذ أن رفعت الزوجة دعوى عدم التسديد ليدفع المال بناء على أمر من القاضي, ولكن عاد للتماطل مرة أخرى ما جعل الزوجة تكون في كل مرة على أهبة الاستعداد لمواجته في المحكمة. ومن القضايا المماثلة التي طرحت مؤخرا بالغرفة الجزائية لمحكمة بئر مراد رايس لشابة اتهمت زوجها بعدم تسديد نفقة ابنته لمدة تزيد عن تسعة أشهر, غير أنه صرح بعكس ذلك, مؤكدا أنه صرف لها مبلغ تسعة ملايين سنتيم, ما يعني أنه دفع ما عليه وأكثر, في حين قالت هي أن ما قبضته من مال هو ما كان مدين لها به بعد أن طلبه منها لإقامة مشروع. وما يلاحظ أن تعقيدات قضايا تسديد النفقة تكون عادة بسبب التماطل وعدم الدفع في الوقت المناسب, ما يؤدي الى تراكم الدين عليه. الإهمال العائلي يجعل الطفل مؤهلا لدخول عالم الانحراف هذا وأرجعت حميدة عشي, أستاذة في علم الاجتماع بجامعة الجزائر الإنتشار الكبير لقضايا الإهمال العائلي إلى تعقد الحياة العصرية وكثرة المشاكل الاجتماعية التي تواجه الكثير من الأسر وتجعل أربابها عاجزين عن التكفل الأمثل بها إضافة الى تغير العلاقات الاجتماعية وطغيان المادة, ليبقى السبب المرجح حسب ما أكدته أستاذة علم الاجتماع إلى جهل بعض الناس لحقيقة الزواج والأسس الصحيحة في تشكيل الأسرة, تقول في هذا السياق: «إن تنامي قضايا الإهمال العائلي ترجع إلى عدم القدرة على تحمل المسؤولية إزاء البيت الزوجي والعائلة, لأنه وبكل بساطة لما كان الفرد صغيرا لم يتعلم جيدا كيف يكون مسؤولا, هذا من جهة, ومن جهة تشير إلى نقص الوزاع الديني والأخلاقي لبعض الأفراد ما يجعلهم لا يؤدون ما عليهم, هذا وتضيف عن تأثير هذه الظاهرة أنها عامل في تفكيك العلاقات الأسرية, ليبقى الأبناء هم الضحية الأولى لهذا الإهمال, فالطفل عندما لا يلقى الرعاية الكافية يصبح مؤهلا لدخول عالم الإنحراف», وتضيف: «لو نظرنا إلى الظروف المعيشية لكثير من الأحداث ممن دخلوا عالم الإجرام لوجدنا أنهم ضحايا عنف أسري بما فيه الإهمال العائلي», إذ تعتبر المتحدثة الإهمال الأسري نوعا من أنواع العنف الاجتماعي الذي يؤدي الى تكوين طفل غير مستقر نفسيا بسبب الإهمال المادي والعاطفي وسوء المعاملة, وما قد ينتج عنها من آثار سلبية على الطفل, تجلت في العديد من الظواهر مثل الهروب من المنزل, ضعف التحصيل الدراسي, كما وصل الحد إلى الإصابة بعقد نفسية وحتى أمراض عقلية عند الكثير من الأبناء, وبالتالي تتولد لدى الكثير منهم رغبة في الانتقام, إضافة إلى أن الطفل بدوره يكون على استعداد لممارسة نفس الشيء عندما يصبح أبا.