عادة، ما توجد في التجمعات الصغيرة تلك الرموز التي تمثل، بشخوصها ومسارها، معالم بارزة، لها بصمتها الواضحة في جغرافيا الزمان والمكان، وحين تغيب تشعر البلدة أنها فقدت شيئا من ذاتها، لن يتكرر ولن تجود به الأيام مرة أخرى• الشيخ علي خنفري الذي فقدته بلدية ليشانة قبل أيام، واحد من تلك المعالم التي تشكل في حد ذاتها مرجعية معينة، لها نكهتها ولها ذلك الوجود المميز ولها أيضا ذكريات ستظل موشومة على الحجر وأشجار النخيل وذاكرة الذين عرفوا الفقيد. سي علي صنع لنفسه عالما خاصا به، يشرك فيه الآخرين حينا لكن لا يشترك معه أحد في ذلك العالم الذي كان يلجأ إليه في كل الأحيان ، يهاجر بعيدا عن واقعنا، يحلق في خياله الذي يحتمي به من غدر الزمان• عاش الشيخ علي عمرا مديدا، مسكونا بأسراره المكنونة، يلتحم مع جراحه التي تأبى أن تلتئم أو تنطفئ فيها تلك النار الملتهبة، يأوي إلى نفسه المكسورة، يصرخ حينا ويلوذ بالصمت البليغ أحيانا• الشيخ علي، خريج الزيتونة، حافظ القرآن الكريم، الضليع في اللغة العربية، الفقيه والشاعر، آثرت له الأقدار أن يعتزل في محرابه، يغرق في غيبوبته وفي لغته السرية التي لا يريد أن يفهمها غيره، وكأنه ينتقم من نفسه أو يسخر مما حوله. كنا نلتف حوله، نحن شباب البلدة، نستفتيه في إشكالية لغوية، نستمع إليه عن رحلته إلى تونس طلبا للعلم، يمتعنا بقصيدته الرائعة والحزينة التي نظمها على نسق قصيدة "حيزية"، وهي تروي فاجعته الكبرى وحبه الأبدي وقصته المؤلمة مع رحيل الصديق العزيز. كان يتميز بقامته الطويلة ووسامته الظاهرة، وقد سألت عنه المرحوم الأستاذ عبد الحميد مهري، وقد كان رفيقا له في الزيتونة، فإذا به يصفه ب "العملاق"، وقد كان كذلك، لكن الدنيا دارت عليه دائرتها الملعونة. نتصوره أحيانا شيخا من مشايخ الطرق الصوفية ويبدو في أحيان أخرى متمردا رافضا للواقع المجحف الذي لم يكن معه منصفا، وهو في حالات كثيرة مسكون بابتسامة صافية وكأنه الملك السعيد في "ألف ليلة وليلة"• رغم كهولته وجسده الذي أخذ يذوي، إلا أن سي علي، وحتى اللحظات الأخيرة من عمره، ظل شامخا، تعلو وجهه الوسيم ابتسامة لم تتغلب عليها رحلة الزمن القاسية، التي عاشها في ظروف صعبة، تزاوج فيها الألم العميق بالأمل الذي يخفق به القلب وتنطق به العيون، يرجو رحمة الله وعفوه وغفرانه. وداعا شيخنا العزيز، يا من ستظل ليشانة تفتقدك، وهي التي تتحسر عليك، لأن العمر قد ذهب هدرا ولأن الحظ قد خانك ولأن من الحب ما قتل، إذ شاء القدر أن نور الحب لم يبتهج في القلب ولم ينتصر للحياة. رحمك الله، أيها الشيخ وطيب ثراك.. إنه سميع مجيب.