كم أسعد أن تنعقد هذه الندوة اليوم في هذا البيت الثقافي المتواضع الذي أنجزه صديقنا الراحل الطاهر ليكون متنفسا للمثقفين وناديا يجمعهم في وقت تضاءلت فيه النوادي الثقافية ، وها هو صديقنا الأستاذ محمد التين يواصل هذه المسيرة بمساهمة زملائه في الجاحظية . لن أستعرض أمامكم في هذا التقديم ملخصا لكتابي الجديد التعفن السياسي ولعنة الكرسي حيث كنت وسأبقى مع كل ما يجسد النبل السياسي ، مثلما آمنت أن الكراسي لا تَصنع الزعماء ولا العظماء كما قالها الراحل نيلسون مانديلا ، كما أنني لن أتحدث عن الإصدارات الثمانية التي سبقت كتابي الأخير ومن بينها : مسيرة حياة : من الخيمة إلى البرلمان ،لأن هذه المهمة سيقوم بها الصديقان الأستاذ محمد عباس والدكتور محمد العيد رتيمة ، بل وكل من قرؤوا بعض كتبي الأخرى. ونحن هنا في هذه القاعة لا تكاد تبرحنا صورة صديقنا الراحل الطاهر وطار عليه رحمة الله وهو يقدم لنا الشاي بنفسه تارة بعد أن يطلب من عمي السعيد إحضار ذلك الشاي ، وتارة أخرى وهو يتحدث أو يتحاور مع ذاك أو يناقش هذا ويجادل كعادته في مقر رغم صغره فقد حوله سي الطاهر إلى منبر كبير وحر يساهم في صنع الثقافة والرأي الآخر والاختلاف بعيدا عن الإكراه والتزمت والتطرف في وقت كان مجرد إبداء الاختلاف في الرأي يُعدُ كفرًا وزندقةً قد يدفع صاحبه الثمن حيث يكون شهيدَ كلمة أو رأي أو موقف أو كتابة. لقد فَضّلتُ أن أتحدث لكم في هذه العجالة عن علاقتي عموما بالكتابة والكتاب أو التأليف ، وأنا أستحضر هنا مقولة الفيلسوف الألماني الكبير غوته بأن أعداء القراءة والكتابة لو عرفوا متعتنا إزاء ذلك لقتلونا .. و لهذا فإن عمليات القتل والإرهاب التي طالت كثيرا من الأسماء اللامعة في عالم الفكر والكتابة والإبداع لم تمنعنا مثلما لم تمنع غيرنا من الاستمرار في الكتابة حتى مع لحظات الموت تماما كما فعلها صديقنا الحميم سي الطاهر عليه رحمة الله في مقامه هذا وقد ظل يكتب ويكتب حتى وهو على فراش الموت في المستشفى بباريس رغم تحذيرات الأطباء له مثلما كان يقول لي كلما تحدثت إليه عبر الهاتف ومثلما نقل عنه الذين زاروه بالمستشفى . تبدأ هذه العلاقة مع الكتابة كما بيّنتُ بعض جوانبها في كتابي: مسيرة حياة: من الخيمة إلى البرلمان خلال عام ,1965 كنتُ وقتها مازلت بعد في السنة الثانية من التعليم التكميلي الذي كان مدمجا مع التعليم الثانوي لمدة سبع سنوات. كان الأستاذ محمد الصالح الصديق أستاذ اللغة والأدب العربي في ثانوية عبان رمضان بالحراش أطال الله عمره ومده بالصحة والعافية دليلي ومشجعي الأول على الكتابة عندما أُعْجبَ بأول نص لموضوع إنشائي ذو طابع سياسي كتبته ذلك العام عن المؤتمر الأفرو أسيوي الذي كان مزْمعا عقده في الجزائر في جوان 1965 ولكنه أُلغي بسبب حركة ال 19 جوان التي جاءت بالعقيد هواري بومدين رئيسا لما عرف بمجلس الثورة خلفا للرئيس بن بلة المطاح به في عملية تغيير لنظام الحكم وصفها بعضهم بانقلاب عسكري وسماها القائمون بها بالتصحيح الثوري ، فقد قال لي الأستاذ محمد الصالح الصديق عندما قرأ موضوعي حينها وطلب مني أن أقرأه بدوري أمام زملائي الطلبة عبارة حفظتها عن ظهر قلب: يا ولدي سيكون لك شأن في السياسة، ولم أكن وقتها أفقه شيئا لا في علوم السياسة ولا في السياسة أصلا . و كانت العلاقة الثانية مع الكتابة في نفس العام كذلك عندما كتبتُ أولَ وآخرَ قصة في حياتي وقمت ببثها بصوتي على أمواج القناة الأولى للإذاعة عبر برنامج جنة الأطفال الذي كان ينشطه الإذاعي المعروف زهير عبد اللطيف ، كان عنوان تلك القصة عائشة يَحْكي عن معاناة فتاة فقيرة تعيش وسط أسرة محافظة قررت مواصلة تعليمها رغم الظروف التي لم تكن تساعدها في ذلك . و كانت قصةُ العلاقة الثالثة مع الكتابة عام 1968 على ما أذكر عندما قمت باقتباس رواية بثتها لي الإذاعة الوطنية كذلك ، وكانت تلك تجربة مشجعة للغاية في عالم الكتابة ولم أكن وقتها قد أكملت العقد الثاني من عمري بعد. و لم تتوقف العلاقة مع الحرف والكتابة عند هذه المحطات فقط ،فقد نشرتُ الشعر في الشعب والمجاهد الأسبوعي بإشراف مباشر من طرف الأستاذ عبد القادر السائحي بدءً من عام 1969 ، ثم وجدتُني أصْغر محرر ابتداء من عام 1971 في أول مجلة كانت تصدرها الإذاعة والتلفزيون في عهد مديرها العام في فترة السبعينيات المرحوم عبد الرحمن شريط وهي مجلة الأثير، ولا أذيع سرا إذا ما قلت بأن مقالاتي المتواضعة كانت تجد التشجيع من قبل وزير الإعلام والثقافة وقتها الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الذي كان يَعْتبر مقالاتي كما روت لي ذلك زينب الميلي أحسن ما في المجلة ، ولم تتورع زينب وقتها من القول لي كيف بالدكتور طالب لا تعجبه في تلك المجلة سوى مقالات الطفل، وقد كانت تعنيني بذلك وكأنها تستصغرني ولا أقول تغار مني ، ومع ذلك لم تكن تلك العبارة منها وقد تعودنا على لسانها المنشاري تغيضني أو تؤثر في معنوياتي ، ذلك أننا تعودنا على ذلك منها ، كيف لا والرئيس بومدين نفسه قد قال لها ذات مرة مداعبا إياها :يا زينب قلّلي من حدّة لسانك حتى لا نُضطر لبتر جزء منه!!. ولا يجب ان أنسى مطلقا التشجيعات التي تلقيتها من طرف صديقي الراحل الأستاذ وطار عندما كان على رأس الشعب الثقافي حيث نشر لي أكثر من عمل وخاصة الروبورتاجات ذات الطابع الثقافي . أما عن علاقتي مع الكتابة السياسية خصوصا فإنها لم تبدأ إلا عام .1976 فقد لاحظت لدى تحولي لقسم الأخبار بالإذاعة عام ,1973 أي قبل عام من الانتهاء من دراستي الجامعية أن جل البرامج السياسية والاقتصادية خصوصا خلال تلك الفترة كانت تترجم من الفرنسية العربية. و لإيماني الشديد أن الترجمة ليست مجرد تغيير لشكل اللغة ولكنها فن وإبداع ، وأن الترجمة الحرفية قد تقتل النص إذا كانت ركيكة لا روح فيها ، فإنني كنت أنتقد تلك الظاهرة على الملإ بقاعة التحرير ، واغتاظ مسؤول الأخبار وقتها الصديق عبد العالي بورغدة شفاه الله من نقدي لتلك النصوص المترجمة التي كان بعضها باهتا بل وميتا لا روح فيه ولا فن ، وراح كمن يتحداني يعرض علي أهم برنامج سياسي وقتها لإنتاجه للإذاعة ،كان البرنامج يحمل عنوان من قضايا الساعة ،قبلت التحدي وأصبحت أكتب ذلك البرنامج أسبوعيا وأذيعه بصوتي كل يوم سبت ليعاد قبيل فجر كل أحد . وقد كان ذلك البرنامج فعلا نقطة فاصلة في حياتي واهتمامي لاحقا بالسياسة والكتابة في هذا المجال خصوصا،و بعد عامين حمل البرنامج عنوان قضية وتحليل حيث استمر إنتاجه حوالي عشرة أعوام . و لم تتوقف علاقتي مع الكتابة حتى بعد تعييني عام 1986 مديرا لمحطة التلفزة بورقلة حيث كنت أكتب في بعض الصحف العمومية وحتى المستقلة التي نشأت بعد قانون الإعلام الصادر في ,1990 مثلما كنت ألقي محاضرات ومداخلات في أكثر من جهة . و رغم اشتداد آلة الإرهاب في التسعينيات ضد أهل الفكر والفن والثقافة ورجالات ونساء الإعلام والصحافة ، فإن علاقتي مع الكتابة لم تفتر إذ تعززت عبر مجلة الشاشة الصغيرة الصادرة عن مؤسسة التلفزيون حيث كنت وراء إصدارها في فبراير 1995 وإلى غاية جوان 1997 تاريخ انتخابي نائبا في المجلس الشعبي الوطني . و منذ حلول الألفية الجديدة لم تعد علاقتي بالكتابة تقتصر على الصحف الجزائرية وحدها بل شملت عددا من الصحف العربية كذلك ، مثلما ظلت علاقتي بالعديد من الجامعات والمراكز والمؤسسات الثقافية وطيدة من خلال عشرات المداخلات والمحاضرات التي ألقيتها في أجزاء عديدة من الوطن. أما عن علاقتي مع الكتاب والتأليف فلها قصة خاصة . في خريف 2004 دعتني قناة الجزيرة في لقاء حوار ضمن برنامج الاتجاه المعاكس لفيصل قاسم. كنت حينها مكلفا بالدراسات والتلخيص بمصالح رئاسة الحكومة منتدبا لدى وزارة الجالية ، وكانت حلقة البرنامج تدور حول موضوع الصحراء الغربية ، حيث أن الضيف المغربي الذي جاء للدفاع عن طروحات النظام المغربي يدعى حسن عبد الخالق ، وكان يشغل وقتها منصب رئيس تحرير صحيفة العَلَم و نائبا في البرلمان المغربي. و قبل بدء البرنامج سألني منشط البرنامج إن كانت لدي مؤلفات ، فذكرت له أنني لم أُصْدر أي كتاب بعد رغم أن لدي مئات المقالات والمحاضرات التي يُمْكن طبعها في أكثر من كتاب ، وعندها راح المحاور المغربي لما سئل نفس السؤال يجيب بنوع من الغرور والتعالي وكأنه يفاخر عَليَّ بأن لديه كتابا ، وأنه ينوي طبع كتاب آخر . لما انتهت حلقة ذلك البرنامج اتصلت بأبنائي في الجزائر أن يشرعوا منذ تلك الأمسية في جمع مختلف مقالاتي ومحاضراتي لكي أصدرها في كتاب . لقد رحت أقارن بيني وبين ذلك البرلماني والصحفي المغربي ، وقلت في نفسي: إذا كان هذا الشخص حديث العهد على النيابة ورئاسة التحرير فإنني سبقته بعدة أعوام إلى رئاسة التحرير والكتابة مثلما سبقته إلى البرلمان ، فكيف يسبقني إلى التأليف ويتعالى بهذا الشكل المقرف أمامي !! في تلك اللحظات بالذات قررتُ التحدي ومواجهة أي خمول يحول بيني وبين التأليف . كانت البداية إصدار كتابين معا هما: تأملات في الثقافة والحياة: التجربة والحصاد و لصوص التاريخ ثم كانت بقية الكتب الأخرى. لقد ذكرتُ أثناء تقديم كتابي من أجلكم بقاعة الأطلس في 2009 أن الكتابة بالنسبة لي هي مسألة وجود ، وسيبقى الأمر كذلك . ربما لا أتفق مع صديقي الروائي الكبير واسيني الأعرج الذي يرى أنه لا شيء لنا في هذا الوطن سوى الكتابة ، لكنني مع ذلك أومن أن الكتابة هي المتنفس الأهم الذي يُشْعرنا بالوجود ويترك لنا الأمل عندما نشعر باليأس والقنوط تجاه كثير من الأشياء السلبية التي تحيط بنا وقد صارت كثيرة في هذا الزمن الذي كثر فيه الناس المغشوشون الذين تسربوا للصحافة ، وتسربوا للسياسة ، وللاقتصاد والمال العام وتسربوا لحياتنا العامة فملئوها رداءة وتعفنا ومؤامرة ، وإنني أخاف أن يتسربوا حتى لحياتنا الخاصة فيفسدون علينا حُبَنا للحياة وحبنا للأرض وحبنا للجمال والناس، مثلما أفسدوا على بعض الشباب حبهم للوطن وعشقهم للحياة الجميلة وللناس، إذ تحولوا إلى مجرد حراقة حيث يبتلعهم البحر ويلتهمهم الحوت.