الجزائر وبعد قرابة خمسين سنة من الاستقلال لا تزال لم تستقر على بر في كافة الميادين حتى تلك التي لم يشكل الحسم فيها أزمة ولم يتطلب جهدا كبيرا ولم يستغرق وقتا طويلا في العديد من الدول التي عرفت نفس التجربة الجزائرية، وعلى رأسها مسألة الهوية بصفة عامة والمنظومة التربوية بصفة خاصة. الجزائر لحد الآن مازالت تعاني من أزمة هوية قاتلة وقودها صراع مقيت بين قوى وطنية مقهورة وأقلية فرانكوفونية قاهرة فاعلة.. يحسم في كل مرة ولو مؤقتا لصالح قوى المسخ رغم مقاومة القوى الوطنية وتمتعها بمساندة الأغلبية..! *مناهج الطمس والتجهيل فالمغرب وتونس الأقرب إلى الجزائر جغرافيا وثقافيا وحتى ارتباطا بالمستعمر حسمتا قضية الهوية منذ زمن حتى لا أقول لم تطرح لديهما، فلا أحد في المغرب وتونس يشكك في العمق العربي الإسلامي للمجتمع وإن تفتحت المدرسة هناك على اللغة الفرنسية بشكل مبالغ فيه، إلا أن ذلك لم يطغ على البعد العربي ولم يطمسه بل انكب على خدمته وبلورته بشكل يقوي شعور التونسي والمغربي بانتمائهما العربي الإسلامي ولا يفكران فيما يطرح عندنا من بعد متوسطي أو أوروبي، شوش على الجميع وأدخل المدرسة في متاهات أثرت على توجهها وعلى مستوى أدائها ومستوى متخرجيها.. المغرب وتونس تفكران الآن في كيفية الانتقال إلى تحسين الأداء التربوي ورفع عدد المتفوقين، والجزائر مع الأسف لا تزال في مرحلة الشكليات والوسائل، تدنى مستوى مشاكلها التربوية ومصاعبها فلم تعد تتعلق حتى بلغة التدريس التي لا تعد مشكلة في الحقيقة لولا ما يدبر من وراء ذلك في المخابر إياها، بل تقهقرت إلى لون المآزر، وكثافة الدروس والحجم الساعي والعطلة الأسبوعية وما إلى ذلك من الشكليات التي شغلت الجميع عن الاهتمام بالجوهر بالمناهج والمضامين. ينتقدون الفشل ويتمسكون بالفاشل ذلك لأن ما يحدث في الجزائر لم يحدث في أي دولة أخرى ولم تعرفه أي تجربة من التجارب لا الحديثة ولا القديمة. إن الإصرار الحاصل في الجزائر على المضي في الخطأ والانفراد بتسيير قطاع حيوي يعني كل الجزائريين أكثر من أي قطاع آخر بما فيه المأكل والمشرب والملبس، والتمسك بشخص واحد على رأس القطاع مدة أطول رغم تعاقب الحكومات والرؤساء، يرهن مستقبل أمة ويحد من تطلعاتها نحو الرقي والازدهار وصناعة الأفكار والرجال. ظاهرة بقاء بن بوزيد على رأس التربية رغم حصاد الفشل والعجز، ظاهرة غريبة وليس لها ما يبررها بكل المقاييس، خاصة أن الجميع بمن فيهم المتمسكون به يجمعون على فشله وعجزه على تسيير القطاع وإخراجه من عنق الزجاجة بل حتى هو يعترف بذلك ويؤكد أنه لا علاقة له بما يحدث بحجة أنه مفروض عليه وأنه العبد المأمور، ومع ذلك فالكل سعيد بما يحدث ولا أحد تجرأ على التصرف السليم في مثل هذه المواقف بالإقالة أو الاستقالة. حق تقرير المصير التربوي لقد أثبتت كل التجارب من المدرسة الابتدائية إلى مدرسة الزيغ مرورا بالمدرسة الأساسية، أنه لا خلاص للمنظومة التربوية في الجزائر إلا بإخراجها من سوق السياسة وإنقاذها من مغامرات الانفراد، وإعادتها للشعب ليقرر مصيره التربوي بنفسه لأن تقرير المصير التربوي لا يقل أهمية وحيوية من تقرير المصير السياسي. الجزائر وإن أتيح لها أن تقرر مصيرها السياسي بواسطة أبنائها فإنها حُرمت من طرف بعض أبنائها من أن تنعم بتقرير المصير التربوي. المدرسة في الجزائر ستظل مخبرا يتخذ من أبنائها مخلوقات للتجارب يشوه هويتهم ويطمس شخصيتهم، ويظللهم ويشتت جهودهم ويبطل مفعول عبقرياتهم ويحكم عليهم بالفشل والبلادة والتخلف والتأخر المستديم.. وقد آن الأوان ليتغير الوضع فقد تأخرنا كثيرا في حين تقدم الكثير وأصبح البون شاسعا ليس بيننا وبين العالم المتقدم بل بيننا وبين العالم المتخلف فقد صرنا أكثر تخلفا في الميدان الذي من المفروض أن يصنع التقدم، الميدان الذي ينتج العقول ويصنع الرجال الذين يتحملون عبء نهضة الأمة.. لقد آن للمدرسة أن تعود إلى الشعب ليقرر مصيره ويختار المضمون التربوي والبيداغوجي لأبنائه ومن حقه أن يختار ليفرض هويته وانتماءه الحضاري، ومن ثم يتحمل مسؤوليته. فالشعب ليس قاصرا ولم يكن في أي يوم من الأيام كذلك حتى تفرض عليه المناهج والخيارات التربوية، كما تفرض قائمة الأدوات المدرسية على تلاميذ الأقسام الابتدائية... فالشعب يبقى هو الحلقة المفقودة في مختلف التجارب وعندما يعاد له الاعتبار يمكن للجزائريين أن يحلموا بالخروج من أزمة الهوية المفروضة عليهم، ويختاروا مضمون المنظومة التربوية التي يريدونها لأبنائهم..