هذا حديث ما كنت لأكتبه لولا إعلان لشركة جوية مشرقية كبيرة بثته في إحدى الفضائيات، مضمونه إشهار عن تسهيلات إلكترونية تجعل المسافرين قادرين على حجز أماكنهم بالإنترنت، وتمكنهم من شراء التذكرة بل ومن اختيار أماكن جلوسهم. وانفجرت ضاحكا حتى ظن من حولي أن رمضان "هردْني"، بسبب التناقض الذي كنت عشته قبل أيام قليلة مع نفس الشركة. كان من المقرر أن أشارك يوم الجمعة الأسبق في لقاء لمؤسسة الفكر العربي تحتضنه مدينة جدة برئاسة أمير مكة الأمير خالد الفيصل وبدعوة كريمة منه، وتم حجز تذكرة السفر على ما يسمى درجة رجال الأعمال، وقام بالحجز في جدة مكتب سن هوليدي تورز (SUN HOLIDAY TOURS) على الرحلة 342 التي تغادر الجزائر بعد منتصف ليلة الخميس 12 أغسطس بنصف ساعة. وكعادتي عند كل سفر تقدمت مع مرافقي إلى مكتب الشركة في المطار قبل الإقلاع بنحو ساعتين، وفوجئت بموظف التسجيل يبلغني بأن الحجز تم إلغائه، وأنه أعطي مكاني لآخر، وبرر ذلك بأن فرع الشركة في جدة باع عددا زائدا من المقاعد، وقال بأنه سيعطيني مقعدا في الدرجة الاقتصادية ومنبها بأن المقاعد ليست مرقمة (Free setting). كان المكان حولي خاليا، وهو ما يعني أن من أعطي له مقعدي وصل قبل الوقت المحدد للتسجيل، وهو أمر غير مألوف، أو أنه سيصل بعد إغلاق مكتب التسجيل، وهو أمر يثير الريبة، وأحسست أن في القضية رشوة تحتمل أمرين، أولهما أن الرشوة أعطيت لممثل الشركة الذي أعطى المكان للراكب الراشي، لصداقة أو لمصلحة ما، أو أن إعطاء مقعدي المحجوز سلفا كان رشوة أعطتها الشركة لمسافر معين ينتمي لتيار معين لهدف معين، ولأنه لم يكن يتمتع بحجز مؤكد، فقد أعطي له مكاني لأنني لا أحمل جنسية الدولة مالكة الطائرة. ولم يكن من مستواي أن أدخل في جدل فارغ مع عبد مأمور، ووجدت أن من الأنسب أن أتصل هاتفيا بسفير الدولة التي تملك الشركة، وهو ديبلوماسي فاضل وصديق عزيز، وأبلغني السفير بأنه سيتصل بمدير المحطة ليفهم خلفيات ما حدث، ثم طلبني ليقول لي بأن الأمر قد تم حله وبأنني سأجد المدير في انتظاري، لكن المدير قال لي بأنه لا يملك من الأمر شيئا، وجدد عرض مقعد في الدرجة الثانية، بينما قال أحد مساعديه أنهم على استعداد لدفع فرق الثمن بين الدرجتين. ورفضت كل ذلك قائلا بأن القضية قضية مبدأ، وما تقوم به الشركة الكبيرة هو أمر مخجل، وقررت أن أمتنع عن السفر نهائيا. وفكرت في البداية أن أسجل شكوى لدى إدارة مطار الجزائر، وهو ما أكد لي مسؤول أمني كبير اتصلت به أنه من حقي تماما، لكنني تراجعت بسرعة إذ تخيلت ما الذي يمكن حدوثه إذا تسرب الأمر لصحافة معينة قد تنتهزه العناصر المعادية للإسلام وللمسلمين، وبرزت أمام ناظري صورة السفير الصديق وتخيلت مدى الحرج الذي يمكن أن يحس به. وعدت إلى منزلي على الفور، متجاهلا كل النداءات الهاتفية التي جاءتني من ممثل الشركة في الجزائر، حتى بعد أن اعترف بوجود خطأ وقال لي أنه على استعداد لكي يزيح راكبا ويعطيني مكانه، وما كنت لأقبل عرضا كهذا. ولأن الهيئة التي قامت بحجز التذكرة في جدة هي مؤسسة الفكر العربي، فقد رأيت أن ما حدث إهانة لها واستهانة برئيسها، وهو رجل من أفضل الرجال، وابن ملك راحل من أفضل ملوك العرب والمسلمين، وهو الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله، ووضعت أمامي احتمال وجود تقصير من موظف في جدة، فأرسلت رسالة إلكترونية للأمين العام للمؤسسة أبلغه عدم تمكني من السفر، وكنت أتصور أنني سأتلقى ردا في حدود 24 ساعة على الأكثر، لكن الدكتور سليمان كان مشغولا، على ما يبدو، بضمان الرعاية لنوعية معينة من المشاركين في اللقاء، وعلى وجه التحديد من رجال الأعمال الأثرياء. وفهمت لماذا لم تنجح المؤسسة في انتزاع موقع مؤثر على الساحة الفكرية الدولية طوال عشر سنوات من إنشائها، وظلت قيمتها مرتبطة بالقيمة المتميزة لرئيسها الكبير، فالمشرفين التنفيذيين لم يكونوا في مستوى الهدف الكبير للمؤسسة، ووضعوا مصيرها بين أيدي موظفين مرتزقة عيونهم مركزة على الإثرياء بقدر تجاهلها للمثقفين، وهو ما كنت حذرت منه منذ سنوات، وكنت أتصور أن تغيير الأمين العام للمؤسسة سيأتي ببعض التحسن، لكن دار لقمان ظلت على حالها، وهو ما يذكرنا بالنجاح الذي حققته مؤسسة البابطين للإبداع الشعري. وانتظرت أسبوعا كاملا لعل مسؤولي الشركة يبعثون باعتذار عن الخطأ، ثم قررت، قرفا، نسيان الأمر برمته، لكن إعلان الشركة أثارني، وذكرني بالمثل الشعبي القائل : "ياللي مزوق من بره..."، فما حدث، وبغض النظر عن أي اعتبارات شخصية، لم يحدث من كل الشركات التي تعاملتُ معها، بما في ذلك شركات تنتمي للعالم الثالث المتخلف. وأمر مخجل أن تكون واحدة من أهم الشركات الجوية وأغناها أسوأ في تعاملها من شركة طيران زمبابوي، فالقضية ليست شراء عشرات الطائرات الضخمة واستخدام المئات من الطيارين والمضيفين والمضيفات من كل بلدان العالم، ولكن أساسا احترام الراكب أيا كانت جنسيته، وضمان تمتعه بكل حقوقه التي تمنحه إياها تذكرة مدفوعة الثمن. ولن أتنازل عن حقوقي. * - بعد نحو شهر من انتقال الأستاذ عبد الله شريط إلى الرفيق الأعلى يغادرنا إلى الأبد واحد من أبرز رموز الأدب الجزائري، هو المرحوم الطاهر وطار. كان عمي الطاهر نسيج وحده في الأدب الجزائري، حيث كان أهم من عرفتهم الساحة الأدبية من الروائيين المبدعين باللغة العربية، وتجاوز جل الروائيين باللغة الفرنسية، وكانت له جولات متميزة في مجالا الصراع اللغوي الذي عرفته البلاد، وإن كانت تصرفاته اتسمت بنوع من التعقيد الناشئ عن موقفه من الرئيس الراحل هواري بو مدين، والذي برز بشكل واضح بعد وفاة الرئيس، ولعله كان من بقايا الفترة التي عمل فيها موظفا في الحزب الواحد مكلفا بالرقابة، وهو ما كان عبئا نفسيا كبير على أديب بالغ الحساسية مثل الطاهر وطار، حيث كان التناقض كبيرا بين اتجاهاته اليسارية وصفته الأدبية وبين طبيعة المهمة التي كان مكلفا بها. ولعل مروره بالإذاعة الوطنية كان من إنجازات الأخ مولود حمروش، لكن "الجاحظية" ظلت دائما أبرز إنجازات وطار، الذي اختلفت كثيرا معه، لكنني أشهد أنه كان دائما عفيفا في ملاحظاته وتعليقاته، وظل دائما، فيما رُوي، يحمل لي الكثير من المحبة والتقدير، وإن أخذ عليّ عواطفي تجاه الرئيس بو مدين، وهو أمر أعتز به. رحم الله عمّي الطاهر، فغيابه ثلمة في صف العربية يعلم الله متى ترتق. * - الأديب والصديق العزيز د. رياض نعسان آغا، وزير الثقافة السوري، كتب يقول: عرفت الطاهر وطار منذ سبعينيات القرن الماضي، كانت الأسماء الجزائرية تزداد ألقاً حين تصل إلى دمشق، فللجزائر هيبة الثورة وقداسة الدم، وللجزائريين نكهة الشهداء الذين تراهم المخيلة قوافل نور تضيء وجه الكون، وكنا نشعر بغصة لأن محمد ديب كتب ثلاثية رائعة عن الجزائر باللغة الفرنسية لأنه لا يعرف العربية، وكذلك فعل مالك حداد وكاتب ياسين، ورغم معرفتنا بأن الكتابة بالفرنسية أتاحت لروايات الجزائريين شهرة مدوية ووفرت فرص تعاطف أوربية وعالمية مع الثورة، ولكن ليس بوسعنا أن نمنح صفة "رواية عربية" لما يكتب بالفرنسية حتى لو كان الكاتب عربياً، وإلا أصبح بوسعنا أن نعتبر مسرحية "مهاجر بريسبان" لجورج شحادة مثلاً، مسرحية عربية، والمهم أن شعورنا بالحرج بدأ يتلاشى مع ظهور الطاهر وطار، مؤسس الرواية الجزائرية باللغة العربية (..). وأجبت رياض قائلا : عواطفك الكريمة تسبقنا جميعا، وما تفضلتَ به هو ما نشعرُ به هنا لأن وطار انتقم لنا، إن صح التعبير، من عنجهية الحرف الفرنسي وتسلطه وتعاليه. * - كان محمد لعقاب محقا عندما أكد العمق الثقافي الضحل للعديد من "الكتبة" بالفرنسية، الذين لا يقرءون حتى كل ما يكتب بالفرنسية، ولم يبرز أحد منهم بعمل متميز، لأنهم نتاج مرحلة ارتبطت بانهيار نظام مجتمع معين لفائدة طبقة طفيلية جديدة، قادت لمرحلة مضطربة سيطرت عليها تعقيدات الإرهاب الإجرامي ومواجهته، وكثير منهم من جماعة "التيلي كوماند" الهاتفي، ومعظمهم غرباء عن الواقع الثقافي في الجزائر العميقة، معقدون من الثقافة العربية لمجرد أنهم يجهلونها، وقد كشفتهم أحداث كثيرة ارتبطت بالثقافة العربية، ومنها تظاهرة "الجزائر عاصمة للثقافة العربية"، التي تجاهلها معظمهم حتى بإعطاء خبر محدود عن فعالياتها، وعشته شخصيا حين جرى تعتيم خبيث على اختياري في الكويت الشخصية الثقافية العربية للعام 2001، ثم حين تلقيت في مطلع هذا العام جائزة الصحافة العربية من أمير دبي شخصيا، بجانب التعتيم على ما يكتب باللغة الوطنية، وهو تعتيم أساسه الجهل الانطوائي الذي يرتبط بالتعالي ويتسم بكراهية الآخر، وهكذا انزلقنا من مرحلة الفرانكوفونية الانعزالية إلى مرحلة الفرانكوفيلية الإقصائية، مما ينذر بشرخ فكري رهيب قد يتطور إلى ما هو أسوأ من ذلك، تماما كما يحدث في بلجيكا. والمسؤولية الأولى تتحملها الطبقة السياسية، سلطة ومعارضة. * - خلال قفزاتي بين برامج رمضان في الفضائيات شاهدت في قناة "الحياة" جانبا من برنامج "لقاء مستحيل" الذي قدمته "وفاء عامر" عن "جميلة بو حيرد" ، وأثبت ثانية أن الأشقاء قادرون على السمو إذا أرادوا ذلك، ولم يكن هناك من يدفع نحو غير ذلك، فتحية للقناة وللفنانة. والنزاهة ثمن الاحترام.