السؤال أعلاه قد يفيد بأن خطاب الرئيس لم يفكك الألغام المزروعة أو أن هناك من ينفخ في الجمر لإشعال نار تأتي على الأخضر واليابس، أما الدليل- حسب ما هو متداول- فهو أن الخطاب، بعد مرور أسبوع، لم ينجح في بعث حركية سياسية، تسهم في تفكيك تلك الألغام وفي إطفاء الجمر الملتهب تحت الرماد. لقد سبق لأحد الرؤساء العرب أن خطب في شعبه، وكان الاتفاق على أن ذلك الرئيس لو واصل صمته لكان ذلك أفضل، فماذا لو واصل الرئيس بوتفليقة صمته أو أنه تكلم ولم يقل شيئا، بالتأكيد سيقال حينها ليته صمت أو ليته استمر في صمته، لكن الرئيس تكلم وأبى إلا أن يقول ما يراه مفيدا، ومن الطبيعي أن تتمايز المواقف، فهناك المرتاحون وهناك الساخطون. الراضون يرون أن الخطاب تعامل مع الإصلاحات كاستحقاق شرعي، لم يتجاهل نبض الشارع ولم يصم أذنيه عما تنادي به الساحة السياسية وما تطرحه شخصيات وطنية من رؤى وأفكار، ويضيفون بأن الرئيس لم يراهن على عنصر الوقت، لأنه يؤمن أن عنصر الوقت لم يعد في صالح الجزائر. المعارضون- هكذا يقولون- لم يجدوا في الخطاب ما يلبي مطالبهم وقد كانوا يتمنون أن يطول صمت الرئيس أو أن يكون خطابه فارغ المحتوى وبلا مضمون أو أن يكون الجديد فيه هو القديم المكرر، وهذا حتى يجعلوا منه الوقود لتأجيج الاحتجاجات والدخول بالبلاد في مأزق أزمة متجددة. تتشبث المعارضة بدعوتها إلى حل البرلمان وإنشاء مجلس تأسيسي، وتتساءل عن طبيعة النظام السياسي الذي يليق بالجزائر، البرلماني أم الرئاسي أو ما بينهما، هنا ينبغي التذكير في البداية بأن الجزائر قد عرفت المجلس التأسيسي في بداية الاستقلال، أما حول النظام السياسي، فإنه لا أفضلية لنظام على نظام آخر من الناحية السياسية، بل إن النظم الثلاثة هي اجتهادات بها بعض المزايا وبعض العيوب، كما أن العبرة ليست بالنصوص فقط، بل بتطبيقها والالتزام بها، إذ بالرغم من تباين النظم السياسية في كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، فإن كلا منها يعمل بصورة جيدة. إذن النظام السياسي الأفضل هو الذي يختاره الشعب وقد يكون النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي هو الأكثر ملاءمة في الجزائر حاليا، لكن النظام البرلماني المستقر هو الأفضل. لقد كان خطاب الرئيس متفتحا على كل القوى السياسية والاجتماعية التي دعاها بمختلف مكوناتها إلى المشاركة في جميع مراحل الإعداد والتفكير، وقد آن الأوان لكي تنظم الأحزاب نفسها وتعبر عن رأيها حتى تقنع المواطنين بوجاهة ما تطرحه من برامج وأفكار، ذلك أن الانتخابات وحدها، حتى لو كانت حرة ونزيهة، لا تؤسس لنظام ديمقراطي حقيقي، دون أحزاب لها حضور على الساحة ومجتمع مدني قوي ووسائل إعلام حرة، وشيوع ثقافة حاضنة لقيم الديمقراطية. إننا نتوفر على مساحة معتبرة في ممارسة حرية التعبير على مستوى الصحافة المكتوبة، ويجب أن تتسع هذه المساحة في كل الاتجاهات، من التلفزيون الذي ينبغي أن يتغير في الجوهر إلى التحضير لفتح السمعي البصري. يوجد لدينا ثلاثون حزبا، وينبغي أن تصبح هذه الأحزاب، القائمة والتي ستوجد، فضاءات حقيقية للتعبير الحر وتوليد الأفكار والتنافس في خدمة الشعب وفي ممارسة الديمقراطية، إذ لا يجب تطبيق الديمقراطية عن طريق تعدد الأحزاب وإغفالها داخل هذه الأحزاب. وقد يقول قائل، بأننا نتوفر على بحبوحة مالية وأن المنجزات المحققة في مختلف القطاعات ماثلة للعيان، لكننا لا نبالغ إذا قلنا بأن هناك تحديات خطيرة تواجه السلم الاجتماعي ولا بد من مواجهتها بشجاعة، وهذا يقتضي إشراك الناس في الشأن العام وقول الحقيقة إلى الشعب، بعيدا عن الخداع والكذب. لكل ذلك، يجب تعزيز خطة الإصلاح التي أعلنها الرئيس بضمانات التنفيذ وفي أقرب الآجال، بما يضمن التجاوب مع نبض الشارع في الوقت الملائم وبالجرعات المطلوبة، ولا مجال للمراوغة أو محاولة الالتفاف على مطالب الناس، خاصة وأن التجارب المحيطة بنا تؤكد كيف أن مستوى الشارع قد تجاوز كل القرارات لأنها جاءت متأخرة ولم تعد قادرة على امتصاص الغضب. كل المؤشرات تؤكد بأن الشروط الموضوعية ناضجة للقيام بإصلاح في العمق، يحقق التغيير السلمي وبأقل التكاليف إذا ما توفرت إرادة سياسية فعلية، وإما فإن البلاد مقبلة على تغيير من نوع آخر سيكون مكلفا بكل تأكيد. إن دراسة تاريخ الأزمات السياسية في العالم تكشف حاجة الشعوب في اللحظات الحاسمة إلى قيادات ذات إرادة استثنائية وقدرات متميزة، لتكون في الموعد، وقد جاء خطاب الرئيس ليؤكد الإرادة والإصرار على المضي قدما في تطبيق خارطة الطريق التي حددها رئيس الجمهورية، وفق أجندة زمنية مضبوطة ، إذ أن الإصلاح أمر لا مفر منه ولا بديل عنه، والنقائص والأخطاء لم تعد تتحمل الإرجاء ولا التأجيل. وإذا كان السؤال المطروح هو: من يطفئ النار، فإن السؤال الملح هو: ماذا سيكتب التاريخ عن بوتفليقة وماذا سيدون في صفحاته عن سنوات حكمه؟.. إن الشعب وحده هو الذي يمنح شهادة التقدير لرئيسه، مما يعني أن المسؤولية ثقيلة وهي تقتضي المضي في الإصلاحات دون تأجيل أو تباطؤ أو ترقيع• إن الرئيس يتحمل المسؤولية التاريخية كاملة عن مرحلة حكمه، وحتما فإن التاريخ يهتم بالنقلات النوعية والقرارات المفصلية في تاريخ الشعوب. "الحرية بلا خبز جوع والحرية بلا خبز مجاعة.."