تناولت مطلع الشهر الماضي مختلف وسائل الإعلام داخل وخارج الوطن تصريحا لمسؤول سياسي جزائري كبير ورئيس حزب دعا فيه الحكومة التركية بما معناه إلى الكف عن الحديث عن جرائم الإبادة التي ارتكبتها فرنسا في حق الشعب الجزائري، وقد كان لهذا التصريح وقع الصاعقة على الجزائريين لأنه يعني بكل بساطة تنكرا لتضحيات شهدائنا الأبرار وتمجيدا ضمنيا للاستعمار إن مجرد الاستهانة أو السكوت على جرائم فرنسا التي أبادت عشر الشعب الجزائري أثناء ثورة التحرير الوطني وحدها (1954 - 1962) هو في حد ذاته خيانة لعهد الشهداء وللوطن معا، ناهيك عن ملايين الأشخاص الذين أبادتهم خلال المقاومة التي استمرت من 1830 إلى 1954 • لذا، فإن هذا التصريح في مضمونه وتوقيته جدير بأن يرد عليه وأن يتابع أصله وفصله، من أين ينبع وأين يصب ومن تبناه ولماذا يروج له!!؟ قبل الإجابة على هذه الأسئلة يجب التنبيه إلى أنه من سخف الانتهازية والخبل السياسي أن يورط نفسه مسؤول سياسي كبير بهذا الحجم في جدل مع من أخذته الحمية لشهدائنا الأبرار الذين لو لم يكن فضل تضحياتهم لما تقلد أي زنيم كان منصبا رفيعا في الدولة الجزائرية، - فلقد بلغ السكين العظم- ومن حق كل جزائري حر أصيل أن يتساءل، لماذا كلما كانت الجزائر مشغولة بتضميد جراحها تباغتها غربان البين فتنكأ قراحها!؟ ••• فهل سيستقيم الظل والعود أعوج؟ ••• لا تظن أن صاحب هذا التصريح لا يعرف أصل وفصل ما صرح به، ولا نظنه لم يقرأ التاريخ ولم يقف على بشاعة جرائم إبادة البشر التي ارتكبتها فرنسا في حق إخوانه الجزائريين• فزعيمنا السياسي الكبير يعلم جيدا أن جرائم الحرب ضد الإنسانية التي ارتكبتها فرنسا في حق أسلافنا ليست افتراء عليها، لقد اعترف بها قادتها العسكريون أنفسهم مثل الدوق روفيقو الذي كان يقول لجنوده "إليّ بالرؤوس •••، هاتو لي الرؤوس •••سدّوا قنوات المياه المعطوبة بواسطة أول رأس تقع عليه أيديكم •••" ويقول الجنرال بيجو في وصيته المشهورة لجنوده "اخنقوهم بالدخان مثل الثعالب" ويقول ضابط فرنسي آخر هو النقيب روزيت:"كنا ننفذ الإعدام رميا بالرصاص في المدينة تحت نظر الجنرال كلوزيل الذي كان يأمرنا بإعدام كل محارب يلقى عليه القبض والسلاح في يده ويأمرنا بإحراق القرى بما فيها بكاملها (انظر كتاب فرسوا مسبيرو بعنوان سانت أرنو أو الشرف الضائع) هذا قليل من كثير مما فعلته أسماء كثيرة من قادة الجيش الفرنسي مثل بيرتوزان، فوارول، فالي، سانت ارنو، كافينياك•• الخ ••• بالتأكيد ليس هناك جزائري حر أصيل يمكن أن ينسى أو يتناسى جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الدولة الفرنسية يوم 8 ماي 1945، فجرائم القتل الجماعي والاغتصاب والتعذيب وإحراق القرى التي اتسمت بها فرنسا في الجزائر خلال المقاولة تواصلت بشاعتها بعنف أثناء ثورة التحرير الوطني المجيدة، ويؤكد ارتكاب هذه الجرائم الشنعاء قادة الجيش الفرنسي أنفسهم مثل بول أوساريس الذي يفخر بأنه قام شخصيا بقتل 24 من سجناء الحرب، كما يفخر بأنه أعطى الأوامر بقتل المئات من المشبوه فيهم دون محاكمة، وأنه أشرف شخصيا على قتل المحامي الشهيد علي بومنجل بالأبيار، هذا وقد كانت جرائم القتل الجماعي والاغتصاب والتعذيب التي ارتكبها موريس بابون، سالان، ماسيو، جوهو وبيجار وغيرهم لا تقل شناعة عن تلك التي ارتكبها بول أوساريس وباركها رؤساء فرنسا كلهم• إذ قال أحدهم على سبيل المثال لا الحصر: "ما دام هناك ديغول فلن يرفرف علم جبهة التحرير على الجزائر"•• فهذا الجنرال الذي يصفه الفرنسيون بأنه رمز الوطنية الفرنسية حاول بمشروع قسنطينة أن يخلق قوة ثالثة من الجزائريين موالية لفرنسا يمكن من خلالها القفز على جبهة التحرير الوطني وتجاوزها بإيجاد طابور من العملاء يتعاملون مع فرنسا على تجزئة الجزائر للاستحواذ على الصحراء والاحتفاظ بثرواتها البترولية، والمنجمية لكن هذا المشروع باء بالفشل• تلك هي الحقيقة التاريخية الثابتة التي تجنى عليها رؤساء فرنسا جميعهم كجاك شيراك مثلا بقوله: "أن فرنسا لم تعمل سوى الأعمال الجيدة في الجزائر " مع العلم أن كلمة الاستعمار في حد ذاتها تعني جريمة ضد الإنسانية في قاموس حقوق الإنسان• وللمفارقة الغريبة أصبحت جرائم إبادة البشر التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر تصب في حوض تمجيد الاستعمار وتكريس ثقافة النسيان التي عرفتها الجزائر في السنوات الأخيرة، إذ لم تعد هذه الجرائم تهز أحدا، بل الأخطر من ذلك فقد رأينا أسماء لشخصيات وطنية جزائرية تتحدث عن جرائم مماثلة ارتكبها نظام الحكم في الجزائر المستقلة لا تقل بشاعة عن تلك التي ارتكبتها فرنسا، يا لها من مقارنة غريبة !!!- يا موت زر فإن الحياة ذميمة - فقد نشرت جريدة "لاكروا المسيحية" في عددها الصادر يوم 25 جانفي 2001 وجهة نظر لمسؤول جزائري متقاعد تخرج من المدرسة العليا للبحرية الفرنسية وشغل مناصب قيادية حساسة في السبعينات قوله: " بعد تتبعي للجدل في فرنسا حول التعذيب الذي مارسه الجيش الفرنسي في الجزائر خلال حرب التحرير 1954 - 1962 قلت في نفسي لعل هذا يندرج في إطار الحوار الفرنسي - الفرنسي من جهة ومن جهة أخرى لعل هذا الحوار يستنهض ضمير الذين لهم ضمير لفتح حوار مماثل عندنا في الجزائر• فالجزائريون ليسوا بعيدين عن هذا الإتهام ••• وعلق على اعترافات بول أوساريس الذي يقر بأنه شخصيا قتل بيده 24 جزائريا من سجناء الحرب وأعطى الأوامر بقتل مئات من المشبوه فيهم دون محاكمة والذي ينتظر وهو يدلي بشهادته أن يتلقى التهاني والتقدير على أعماله الإجرامية، ويضيف ذلك المسؤول الجزائري السامي في تعليقه على اعترافات الجنرال الفرنسي ماسو بجرائمه التي ارتكبها في الجزائر فيقول عنه حسب جريدة "لاكروا" إنني أسامح هذا وذاك الجنرال عما ارتكباه من جرائم في الجزائر ••• وأما عن سكوت الدولة الجزائرية عن التعليق رسميا عن ماضي فرنسا الاستعماري في الجزائر وما تخلله من جرائم تعذيب وقتل جماعي وتشريد للأهالي وإقامة المحتشدات يقول ضابطنا السامي المتقاعد، حسنا فعلت الدولة الجزائرية عندما آثرت الصمت المطبق، لأن الدولة الجزائرية بعيدة كل البعد لتكون النموذج الذي يقتدى به، وتدعي الفضيلة ويدها ملطخة بدماء الجزائريين، فلا يمكن لها أن تنصب نفسها كشخص يعطي الدروس في حقوق الإنسان، لأن هناك جرائم مماثلة ارتكبتها ضد الشعب الجزائري في أحداث 5 أكتوبر 1988، كما أن هناك جزائريا آخر متقاعد شغل منصبا رفيعا لما سئل عن سبب صمت المسؤولين الجزائريين عن التعليق على الجدل الصاخب في فرنسا حول الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر خلال حرب التحرير فقال: "إنها قضية فرنسية - فرنسية لا تعنينا في شيء!!! ••••" يا للعجائب والغرائب! فعندما تصرح شخصيات وطنية مرموقة شغلت أو ما زالت تشغل المسؤوليات العليا في الدولة الجزائرية بمثل هذا الحديث، فالأمر غريب وخطير جدا لأنه دعوة للجزائريين إلى طي صفحة الماضي الاستعماري في الجزائر بتركته الإجرامية التي مازالت آثارها تتفاعل يوميا• والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، لماذا جاءت دعوة هذا المسؤول السياسي الكبير للحكومة التركية إلى الكف عن الحديث عن الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في حق الشعب الجزائري وفي هذا التوقيت بالذات وما يحمله من تفاعلات مجهولة العواقب؟ هل هذه الدعوى هي مجرد استفزاز لمنظمة المجاهدين التي كانت وما زالت تطالب فرنسا بالاعتذار عن جرائمها التي ارتكبتها في الجزائر؟ أم هي دعوى لإثارة القلائل في الشارع الجزائري؟ أم هي ليست هذه أو تلك، إنما هي مجرد موقف لإرضاء فرنسا في تدشين حملته الانتخابية للرئاسيات المقبلة؟ وفي جميع الاحتمالات نعم إنه لا يحق لأي كان أن يتاجر بدماء الجزائريين•