حقا يمكن القول بأن تشريعيات العاشر من ماي المقبل لن تكون كسابقاتها كما قال جل المسؤولين الحزبيين، ومعهم الملاحظين والمهتمين بأول انتخابات تشريعية في ظل الإصلاحات السياسية وتداعيات الربيع العربي، وذلك بالنظر إلى الروح التي دبت في الجسم الحزبي والسياسي والمجتمعي، بعد ذلك الجمود والعقم الذي كاد يطبق على آخر الآمال في التغيير والإصلاح• م شريفي الفسيفساء الحزبية المتوقعة يمكن أن يوصف هذا الزخم الانتخابي والتكتلات الحزبية بالفوضى الخلاقة، لأنه استطاع أن يحرك كل الجزائر بما في ذلك المواطن الذي بات منشغلا بالشأن الانتخابي، حتى لو كان من قبيل التكهن بالنتائج أو حب الفضول. هذه الديناميكية التي ولدها الأمل في ميلاد أول انتخابات تعددية حرة ونزيهة تمكن المواطن من اختيار نوابه دون أن يفرضوا عليه فرضا، مرشحة للمزيد من الحرارة السياسية والفكرية، لأن مهمة إنجازها تبدو صعبة في ظل الاهتمامين المحلي والدولي بها. هذه المعطيات هي التي جعلت كل الأحزاب، بما في ذلك القوية وذات التجربة والخبرة، تلجأ إلى استراتيجية غير معهودة من قبل• الأحزاب الكبرى تسعى منذ فترة إلى إعادة ترتيب البيت الداخلي والقضاء على كل أسباب الفرقة والاختلافات التي يمكن أن تؤثر على مستقبلها، وذلك بهدف دخول هذا الرهان موحدة القوائم والأهداف والمصالح، وهذا بالضبط ما قام به حزب جبهة التحرير الوطني، الذي تمكن من إحلال الوئام بين صفوفه وأبعاد كل محاولة لتفتيت الوعاء الانتخابي للحزب. العنصر الثاني في هذا المسعى التحضير يتركز حول معايير اختيار قوائم المترشحين، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون خارج دائرة مقاييس الكفاءة. ولأن الأفلان يملك ما يكفيه من خبرة ونفوذ وطواقم وكوادر، فإنه الحزب الوحيد الذي لا يعول كثيرا على التحالفات لأنه لا يحتاج إليها قبل الانتخابات، وهناك الفئة الثانية من الأحزاب التي تسعى بكل إمكانياتها إلى تشكيل وتكتلات تمكنها من تحقيق نتائج مقبولة، أو على الأقل حفظ ماء الوجه، وقد بدا هذا جليا مع »التكتل الأخضر« الذي شكلته حركة حمس والنهضة والإصلاح، التي تأمل أن ينضم إليها جاب الله لأنها متخوفة جدا من حدوث »فياسكو« حقيقي لها قد يجهز على وجودها، وهو أمر متوقع جدا بالنظر إلى موقعها الراهن والتميز بالضعف وعدم الانتشار الجماهيري• أما الفئة الثالثة ممثلة بحزبي الأفافاس وحزب العمال، فإنها ستبقى حسب جل التكهنات والتحليلات، في مستوى النتائج المحققة خلال الاستحقاقات السابقة، أي أنها، لن تحدث المفاجأة التي يمكن أن تقلب الأوضاع• الفئة الأخيرة هي فئة الأحزاب الصغرى والجديدة والمناسباتية، هذه الأحزاب سيفقد الكثير منها آخر ريشة، في حين لا يمكن الباقي سوى جزءا من ديكور سياسي لسد الحاجة. هذه هي تقريبا الفسيفساء الحزبية المتوقعة في جل إتمام العملية الانتخابية بكل نزاهة وشفافية، وفي حال عدم حدوث عزوف انتخابي من طرف المواطن، الذي لا يبدو مقتنعا بالرغم من اهتمامه الملحوظ بجملة الضمانات المقدمة لغاية الساعة. الملاحظ من خلال تصريحات المسؤولين الحزبيين الذين كتفوا من تجمعاتهم وتنقلاتهم ومهرجاناتهم الاستباقية، أن هناك تركيزا واضحا على الشكل الانتخابي، وهذا يتجلى من خلال الخطاب الانتخابي الذي يبرز بوضوح الإجراءات الشكلية، مثل نوعية القوائم والنموذج الحكومي المتوقع ومسألة التحالفات وطبيعتها، وما إلى ذلك من تفاصيل تجاهلت محتوى البرنامج السياسي الكفيل بالاستجابة إلى مطالب الشارع الذي لا يهمه من سيفوز ولا كيف، بقدر ما يهمه أن يرى برلمانا ديمقراطيا مسؤولا، يمارس سلطته التشريعية والرقابية، ويقضي على تلك الصورة الكاريكاتورية التي شكلها في خياله على النواب بعد تجارب وعهدات أساءت كثيرا لهذه الوظيفة. الملاحظة الثانية هي أن الأحزاب الوطنية، الكبيرة والصغيرة، مقتنعة بأن جسامه المهمة تجعل من المستحيل على أي تشكيلة سياسية تحمل مسؤولية الاضطلاع بذلك الدور بمفردها، لهذا ستكون التحالفات حاضرة بعد الانتخابات، مما قد يعيد إنتاج نماذج معهودة مثل التحالف الرئيسي أو غيره. في هذا الإطار، أوضح الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، عبد العزيز بلخادم، بأن الجبهة ستدخل في تحالف حال حصولها على الأغلبية البرلمانية، على أن تشكل الحكومة من هذا التحالف، وأضاف بلخادم بأنه سيستقيل ومعه المكتب السياسي في حال فشله في الفوز بالتشريعيات المقبلة. هذه اللغة الجديدة اعتبرها الملاحظون تعبيرا عن ثقة بلخادم في الفوز بالاستحقاقات المقبلة، خاصة وأن الحزب تعود على مثل هذه الهزات، وكان أعضاء قيادته في كل مرة يفضلون وحدة الحزب على المصالح الخاصة، وهذا ما جعله يصمد خلال كل الاستحقاقات السابقة. غير أن الرهان هذه المرة أصعب فهو لم يعد يتعلق بالصمود ووحدة الصف فحسب، بل بالقدرة على طرح البدائل المناسبة للشارع، المكون أساسا من الشباب الذي لم يعد يثق في أغلبية المسؤولين والنواب السابقين• هذه المعطيات تفرض على الأفالان البحث عن أسماء جديدة وشابة لترأس القوائم الانتخابية، لأنه من غير المعقول أن تعود نفس الأسماء لتقترح على شباب الفيسبوك المتأثر برياح الثورات العربية، والطامح إلى حدوث تغيير جذري في البرلمان والحكومة وكل مؤسسات الدولة. الأفلان وقدسية الثوابت اللهث الانتخابي هذا أثر على المحتوى ومقاربة البرامج، مما جعل رجل الشارع يسيء الظن بالعملية برمتها، لأن لا أحد يصدق أن كل هذا التهافت من أجل تصدر القوائم الانتخابية، هو من أجل خدمة المواطن والدفاع عن مصالحه. في هذا الخضم لم نسمع إلا القليل من الكلام السياسي من طرف جل الأحزاب، بما في ذلك الأحزاب الإسلامية التي تطمح إلى تحقيق نتائج معتبرة، مثل حزب جاب الله، فلم نستمع مثلا كلاما عن السياسة الاقتصادية التي ينوي هذا الحزب أو غيره تطبيقها في حال حصوله على الأغلبية، وبالتالي المشاركة في الحكومة، ولم نسمع كلاما عن الطريقة التي يعتزمون تسيير النظام الاقتصادي بها، وموضوع المرأة والتعليم والصحة وغيرها، ولا بشأن المواضيع والقضايا الدولية، مثل العلاقة مع أمريكا وفرنسا. وحده الأفلان يتطرق في كل مرة إلى الإرث القيمي التي يشكل عمقه الإيديولوجي، خاصة موضوع العلاقة مع فرنسا وماضيها الاستعماري، لذا لم يفوت الأمين العام للأفلان الفرصة مؤخرا لإعادة تجديد نفس مواقف الحزب إزاء السياسة الفرنسية، خاصة تصريحات ساركوزي الأخيرة التي تجرد فيها من كل مستلزمات اللياقة وحتى الحنكة. بلخادم قال ردا على ساركوزي: »سواء رضي الرئيس الفرنسي أم لم يرض، سيأتي يوم تقدم فيه الدولة الفرنسية اعتذارها للشعب الجزائري عن الجرائم التي ارتكبتها في حق الجزائر«. هذا الموقف معروف، وقد سمعناه مرارا، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل سيتبنى حزب جبهة التحرير الوطني أساليب جديدة في التعامل مع فرنسا في الجانب الخاص بموضوع الذاكرة، أم أنه سيبقى رهينة القرار السلطوي وما يعرف ب»مبررات الدولة« أو مصالح الدولة؟ وهل ينوي الأفلان في حال فوزه بالأغلبية في البرلمان تمرير القانون المجرم للاستعمار؟ وهل ستمارس الحكومة الأفلانية سياسية أكثر حرصا على مصالح الجزائر مع فرنسا؟ هذه هي الأسئلة التي تهم المواطن الذي لم يعد يكتفي بالوعود الانتخابية أو الشعارات الجوفاء التي تطلق في المناسبات دون أن يكون لها تأثير على جوهر المصالح الفرنسية في الجزائر، والتي تزداد في كل سنة، بل أيناها تتوسع باتساع العداء الفرنسي الرسمي للجزائر، مع تطرق ساركوزي الذي ذهب أبعد من كل رؤساء فرنسا في تحدي الجزائر وإهانة تاريخها وحقوقها، من خلال قانون العار وتمجيد الحركى والأقدام السوداء ورفض مسألة الاعتذار برمتها؟ إن الإصلاحات والتغيير المطلوبين لن يكون لهما أي معنى إذا ما استمرت الأحزاب الجزائرية والسلطة عموما في القيام بنفس الأدوار، مثل تشكيل برلمان »ما يهش ما ينش«، يستهلك لملايير من أموال الشعب دون القيام بأي دور رقابي أو تشريعي يصب في خانة تعميق الممارسة الديمقراطية الحقة، كما أن الأحزاب مطالبة هذه المرة، بما في ذلك " الأفلان" ، بالتخلي عن الأساليب القديمة القائمة على التوازنات السياسية والحسابات السياسوية، لصالح مشروع يرقي الأداء السياسي ويساهم في تطهير الساحة من كل رموز الرداءة والفساد والتخلف، التي شكلت واجهة الجزائر لعقود. إن الرهان الحقيقي الذي ينبغي أن يرفعه حزب جبهة التحرير، ليس الاكتفاء بمجرد الفوز بالمرتبة الأولى، لأن القضية ليست قضية سباق أو تحدي أو مراهنة، بل الرهان الحقيقي هو الإسهام في نقل الجزائر من مرحلة السلبية السياسية إلى عهد الانفتاح والتعددية وإطلاق الكفاءات، بالتالي دخول التاريخ من بابه الواسع، تماما مثلما فعلت الجبهة خلال الحركة الوطنية عندما اختارت عقيدة الجهاد على منطق المقايضة بالمبادئ.