الحدث العالمي هو اليوم كرويّ بامتياز، إذ العالم بأسره مشغول بتلك الكرة التي تتقاذفها أقدام اللاعبين، حتى إذا ما سقطت في شِباك الخصم، التهبت المشاعر وقفز الجمهور من أمكنته تعبيراً عن فرحه، هذا عند الفريق الرابح. أما الخاسر فإنه يغرق في مقعده من فرط الخيبة والإحباط. فما السرّ في هذه اللعبة ذات المفاعيل العجيبة؟ هل هي سحر أم وهم أم عبث؟ أياً تكن التأويلات، فإن قطاع الرياضة أصبح قطاعاً مزدهراً من قطاعات الحياة، بصناعته وأدواته واستثماراته وثرواته ونجومه. ولذا، فإنّ أهله يساهمون في صناعة العالم الراهن. وبالمقارنة بين قطاع الثقافة وقطاع الكرة، نجد أن هذا الأخير هو الأكثر جاذبية وفاعلية، وأن أهله يمارسون حضورهم وسط المشهد، أكثر بكثير من الكتّاب والفنانين والمفكرين. وهذه واحدة من وقائع العصر الكبرى التي لم يعد يجدي تجاهلها. من هنا تستقطب مجريات لعبة كرة القدم، طوال شهر، وسائل الإعلام، وتلقى الاهتمام من جانب القادة والساسة بوصفها شأناً حيوياً يدلّ على القوة والنجاح وتحقيق السبق في مجال التنافس. وما زلت أذكر كيف أن الرئيس الفرنسي السابق «جاك شيراك» كاد يرقص طرباً، بعد الفوز بالمونديال عام 1998، في حين كان القادة والزعماء، من قبل، يرقصون إذا ربحوا المعارك، كما فعل هتلر عندما اجتاحت جيوشه الحدود الفرنسية في بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939. وإذا كان هذا شأن الرؤساء، فالجمهور يأخذه الحماس أي مأخذ. ففي حال الفوز تعمّ الفرحة في البلد المعني، وتخرج الناس إلى الشوارع للاحتفاء بالنبأ العظيم. وبالعكس، ففي حال الخسران المبين يسيطر الوجوم والإحباط، كما لو أن الأمر يتعلّق بخسارة حرب فعلية. هذا ما يحدث عند بلوغ المونديال نهايته. ولا يختلف الأمر كثيراً عندما تجري اللعبة على مستوى إقليم أو قارة. وقد سألت صديقي، وكانت عاصمة بلده قد نزلت عن بكرة أبيها للاحتفال بفوز منتخبهم الوطني، هل كان يحدث ذلك لو كان الأمر يتعلق بفوز كاتب بجائزة نوبل؟ فأجابني، قد لا يحدث ذلك حتى لو كان الأمر يتعلق بتحرير فلسطين. وهكذا نحن إزاء تحوّل كبير في ما يستأثر باهتمام الناس ويستحوذ على عقولهم من المعاني والقيَم والرموز والنماذج، في هذا العصر المعولم، عصر الشاشة والصورة والكرة. وأنا من هواة عالم الكرة، ولكن ميلي هو لكرة المضرب، التي أتابع مبارياتها، وصرت ملمّاً بأصنافها وقواعدها ودوراتها وبطولاتها. أما كرة القدم، فإنني لا أشاهد مبارياتها إلا في المونديال. وما يلفتني في عالم الكرة، عموماً، هو جملة أمور بدلالاتها وعبرها.. الأول؛ يخصّ نقّاد الكرة، وأعني بهم الذين يعلقون على مجريات اللعبة وسط الحلبة، فيما هم يحللون أساليب اللاعبين ويقيمون أداءهم. فالبارز في هذا المجال هو ثقافة المعلِّق وسرعة بديهته ولغته الحديثة والمتقنة، إذ الواحد منهم يستخدم معجماً غنياً يتقاطع مع المعجم الذي يستخدمه نقاّد الأدب أو المحلّلون الاستراتيجيون. من هنا نجد المعلِّق يقول عندما ينجح لاعب في ردّ ضربة كان يُعتقد أنها لا تردّ: «يا للذكاء»، «يا للتفكير العالي».. بمعنى أن إدارة الكرة تحتاج إلى التفكير الحي والخلاّق الذي يجعل اللاعب قادراً، وهو في ساحة المواجهة، على أن يغيّر إيقاعه أو حتى أسلوبه، لكي يفاجئ خصمه والجمهور بما لم يكن متوقعاً من الضربات التي تستدعي الإعجاب والتصفيق. من الأمثلة أيضاً على حداثة الفكر لدى نقّاد الكرة، أنهم يستخدمون مفردة «القراءة» في تقييم ما يجري. كأن يقول المعلِّق عندما يوفّق اللاعب في ضربته «إنه يقرأ الكرة»، أو يقول عندما يخفق بأنه «لم يحسن القراءة». ومفهوم القراءة يجسّد فهماً للواقع، يتخطّى مفاهيم مثل الواقع الموضوعي أو الحقيقة المطلقة والنهائية، كما ينظّر بعض الفلاسفة والمثقفين. فبحسب مفهوم القراءة يُرى إلى الواقع من خلال حراكه وصيرورته، بقدر ما يجري التعامل معه بحكم إمكاناته الغنية واحتمالاته المفتوحة والمتعددة. وهكذا لكل شيء وجهه الآخر، ولكل ظاهرة التباساتها ولكل قانون خروقه، عند من يحسن التعاطي مع الأحداث بلغة الابتكار، أي بخلق وقائع غير متوقعة أو غير منتظرة. هذا ما حدث مؤخراً في دورة رولان غاروس الكبرى لكرة المضرب. فأنا كنت مع الخبراء والجمهور، أعتقد أن الأسترالية ستوسور هي التي ستفوز، كونها أطاحت قبل الوصول إلى الدورة النهائية بثلاث لاعبات من الصنف الأول. ولكن الإيطالية سكيوفاني خالفت التوقعات وفاجأت الجميع، لكي تحقق السبق وتفوز بتصميمها وذكائها وممارستها اللعب بأسلوب يصعب التنبؤ به، مما جعلها تحقق إنجازاً، بل معجزة. وكلمة إنجاز لا تُستخدم هنا اعتباطاً، فاللاعب الذي ينجح في تسديد ضربة أو في الفوز ببطولة، لا ينال ذلك بالصدفة، بل بالمراس والدُربة والخبرة الطويلة، بالإضافة إلى الذكاء والمهارة والحيوية. أما المعجزة فإنها تعني أن يأتي الواحد بما لم يكن يستطيعه، متفوقاً على من كان يسبقه، بقدرته على خلق الوقائع التي تخرق الشروط وتغيّر قواعد اللعب. أمر أخير يلفت النظر في ألعاب الكرة ويستحّق أن يكون محلاً للدرس والاعتبار، وهو أن مجتمع الكرة يقدّم نموذجاً ناجحاً في إدارة الشؤون، بطريقة سلمية، ديمقراطية، بالخضوع للقواعد والأنظمة الخاصة بكل لعبة. قد يحدث عنف، ولكنّه استثناء، وليس القاعدة. ومن الشواهد أن اللاعب الفائز يحيي خصمه ويثني على جدارته، كما أن الخاسر يهنئ الفائز ويعترف بأحقيته، بل إن بعض اللاعبين يحيي خصمه، أثناء اللعب، على تسديدة منه يراها خارقة. نحن إزاء مجتمع تقوم العلاقات بين أفراده أو فرقه الوطنية، على مبدأ الاعتراف المتبادل، وعلى إدارة التنوع وفقاً لقاعدة التعدد، كما يتجسّد ذلك في مؤسسة «الفيفا» وأخواتها في بقية الألعاب. إنها تعددية الأقطاب التي يمارسها أهل الكرة قبل زعماء الدول، كما يعترف بعض الخبراء الاستراتيجيين. وفي هذا مثال حي على استخدام القوة الناعمة والهادئة. بهذا المعنى، يعدّ مجتمع الكرة أفضل من مجتمع السّاسة والمثقفين، حيث يسود الاستبعاد والعنف الماديّ والرمزيّ، خاصة من جانب أصحاب العقائد والإيديولوجيات الاصطفائية والشمولية. بقلم : علي حرب كاتب ومفكر لبناني