ترجع جلّ مقاصد الدين الإسلامي إلى مُرْتَكز أساسي ألا وهو الفطرة -في نظر العلامة الطاهر بن عاشور- فالمشي على اليدين مخالف لفطرة الجَسَدْ واستنتاجُ الأَسْبَابِ من غير مسبباتها مخالفٌ للفطرة العقلية وكذلك التطرفُ ومُجَانَبَةُ الاعتدِال سواء كان ذلك على المستوى الفردي أم الجماعي .. ويرى ابن عاشور أن حرية الفكر-على أهميتها-ليست شيئا يمكن أن يستقِّل بنفسه”لأن ما يجُول بالخاطر لا يُعرف إلا بواسطة القَول أو بما تُؤذِنُ به بعضُ الأعمال”. وذلك ما يجعل التحجير لا يتطرق إليها ما دامت طيَّ باطن الإنسان ووجدانه،وبناءً على ذلك فإن حرية الفكر عندَهُ قرينَةُ لِحُرية القول إذ الأخيرة هي مَجْلَى الأولَى ومظهرُها،فالفكر لا بد له من قَولٍ يفْصَحُ عنه وكلامٍ يُبينُه أو فِعْلٍ يُظهرُه وعمل يدلُ عليه،وإلاَّ بقيَ خواطر حبيسةً في نفس صاحبه لا سبيلَ لأحد إلى معرفته إلا علام الغيوب، وحرية القول كما فهمنا الشيخ ذات تعلق متين”بمعاشرة الناس، ومحاورتهم، والملاطفة بينهم، وممازحتهم، وهي حق فطري لأن النطق-وهو التعبير عما في الضمير باللغات-غريزة في الإنسان يعسر أو يتعذر إمساكه عنها”وهذا في ما يمثل في نظره الأصل الأصيل لكل أحد بمقتضاه “أن يقول ماشاء أن يقوله،ولا يمسكه عن ذلك إلاَّ وازع الدين بأن لا يقول كفراً أو منهياً عنه،أو وازعٌ من خلق بأن لا يقول قذعاً أو هذيانًا،أو وازعُ التَّبِعة على أذًى يلحق غيره بسبب مقاله”. في داخل الإطار الرحيب المضبوط بالاعتبارات الثلاثة –الدين،الخلق، المسؤولية- ينفسح المجال واسعاً لحرية الفكر والقول والتعبير ليشمل كل شأن في حياة الأمة في العلوم “والتفقه في الشريعة” والتدبير السياسي،وشؤون الحياة العادية” وليست حرية الفكر-كما يفهمها ابن عاشور-ذات اتجاه واحد،بمعنى أن يعرب المرء عن رأيه دون حاجز أو مانع أو خوف من أحد،وإنما يكتمل أمرها ويستقيم حالها بأن يكون الآخرون على استعداد لتلَّقي الرأي المخالف بالاحترام،ذلك أنه” من الأسباب في تقدم الأمة بعلومها وقبولها لمرتبة التنور وأهليتها للاختراع في معلوماتها أن تشب على احترام الآراء”بل إنه ليذهب أكثر من ذلك فيؤكد أن “الحجر على الرأي يكون منذراً بسوء مصير الأمة ودليلاً على أنها قد أوجست في نفسها خيفة من خلاف المخالفين وجدل المجادلين، وذلك يكون قَرِين أحد أمرين: إما ضعف في الأفكار وقصور عن إقامة الحق،وإما قيد الاستبداد الذي خالط نفوس أمة كان سقوطها أسرع من هويِّ الحجر”... إن ابن عاشور يبدو مفرَطَ الحساسية في كلامه على الحرية، شديدَ الحرص على ترسيخ معانيها وتعميق الشعور بقيمتها في عقول المسلمين وضمائرهم. وكفى قوة ووضوحاً في موقفه ازاءها أن جعلها في المقدمة من مقاصد الشريعة التي عليها مدار نصوصها وأحكامها،مثلما نظر إليها بوصفها أصلا من أصول نظام الاجتماع الإسلامي، فهي عنده في المبتدأ والمنتهى. ومعنى ذلك أن أي جهد لبناء نظام سياسي اجتماعي.. لا تكون الحريةُ من أُسُسِه وغاياتِه في الوقت نفسه سيكون جهداً استجابتُه لمقتضيات الإسلام منقوصة،وتحقيقُه لقيمه ومقاصده مخرُوم.. ولا ينفصل البحث في مسألة الحرية عند ابن عاشور عن الكلام على مفهوم الحق، ”لأن استعمال الحرية محُوطٌ بِسِياجٍ من الحُقُوق، وتحديد الحرية مرجعه إلى مراعاة الحقوق التي تدحض الانطلاق في استعمال المرء حريته كما يشاء”فإذا كانت الحرية شرط نمو قوى الإنسان وانطلاق مواهبه وازدهار مدنيته، فإن الحق هو شرط استقرار المجتمع وتوازنه واستمراره، إذ “حقوق الناس هي كيفيات انتفاعهم بما خلق الله في الأرض التي أوجدهم عليها” ولذلك كان “تعيين أصول الاستحقاق أعظَم أساسٍ وأثبته للتشريع في معاملات الأمة بعضها مع بعض”وإذاً فبيان”الحق وتعيين مستحقه من أهم أصول نظام الاجتماع في الإسلام ليكونوا على بينة من أمرهم فيما يأتون من الأفعال”.. والحق والعدل في نظره متصلان ومتلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر بل إن ماهية العدل عنده “تمكين صاحب الحق بحقه بيده أو بيد نائبه،وتعيينه له قولاً وفعلاً”والعدل شأنه شأن الحرية هو الآخر مستقرٌّ حُسْنُه في الفطرة الإنسانية.. وعلى هذا فإن”العدل يدخل في جميع المعاملات”وهو- كما سبق أن رأينا-”حسن في الفطرة لأنه كما يصد المعتدي عن اعتدائه،يصد غيره عن الاعتداء عليه”... من كتاب: مقاصد الشريعة الإسلامية: للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميسَاري، دار النفائس، الأردن، الطبعة الثانية، سنة 2001م، (هذا النص من دراسة المحقق ص130،بتصرف طفيف في محتواه).