ما يجري في غزة الآن، من عدوان إسرائيلي يتحكم فيه صراع قوى إقليمية تضع فتح وحماس في الواجهة وفق طرحين، أحدهما يريد السلام مع إسرائيل وفق الأجندة الغربيةالأمريكية، والآخر يتطلع في محاولة لإيجاد تسوية تضمن جزءً من الحقوق العربية الفلسطينية بما يتماشى مع منطق الممانعة والمقاومة• لا غرابة أن يصمد سكان غزة أمام آلة الدمار الإسرائيلية ويقاومونها وفق هذا المنطق، فالمواطن العربي في غزة ورث مقاومة المحتل ودحره• فحالة صموده الآن تعيد إلى الذاكرة بطولة اللواء التابع للجيش العثماني الذي كان مؤلفا من ثلاثة آلاف جندي فلسطيني، والذي وقف الند للند عام 1917 في وجه فرقتين اثنتين من الجيش البريطاني، مدججة بالعتاد والذخيرة، كانت تعتزم دخول مدينة غزة، وأرغمهما على التراجع نحو العريش في مصر بعد أن كبدهما خسائر فادحة• بعد هذه الحادثة، كانت غزة جزء من فلسطين خلال فترة الاحتلال البريطاني، ودخلت ضمن الدولة الفلسطينية رسميا في قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، الذي أصدرته الأممالمتحدة العام 1947• وبعدما قامت القوات المصرية بدخول المدينة في العام 1948 خلال الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، وقعت إسرائيل هدنة مع مصر في العام 1949 ، تقضي باحتفاظ مصر بغزة• لكن بعد ذلك تم احتلالها من قبل إسرائيل، مع سيناء، أثناء العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956• وبعد الضغط الدولي انسحب الإسرائيليون من غزة، ليحتلوها مرة ثانية في حرب الستة أيام في العام 1967• حلم أوسلو وأجيال الانتفاضة شكل قطاع غزة على مدى 27 عاما، طيلة فترة احتلاله الممتدة بين سنتي 1967 و1994، هاجسا كبيرا للإسرائيليين من الناحية الأمنية، حيث كانت المقاومة ضد الاحتلال تنطلق منه، وهذا ما دفع الإسرائيليين إلى محاولات عزل القطاع وتحديد حركة سكانه، فتم تضييق الخناق على العمال الذين يخرجون من غزة إلى المدن الفلسطينيةالمحتلة طلبا للشغل، الأمر الذي أفرز أزمة اقتصادية كبيرة كون القطاع لا يتوفر على المصادر التي تمكنه من الاكتفاء الذاتي، فتفاقمت المشاكل الاجتماعية واستشرت البطالة وتدنت القدرة الشرائية• في ظل هذه الأجواء نشأت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة، في العام 1987 حيث يوجد مؤسسها الشيخ أحمد ياسين، وقد فجرت الحركة الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) في نفس العام الذي تأسست فيه، وكان احتضان غزة لحماس وللمقاومة، مع المتاعب الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها القطاع من الأسباب التي أدت بالدولة العبرية للتخلص منها، حيث قدمتها في العام 1994 للسلطة الفلسطينية تطبيقا لاتفاقيات أوسلو الذي تم التوقيع عليها في العام 1993 بين الإسرائيليين والفلسطينيين• قطاع غزة الذي تبلغ مساحته 400 كم2 ويضم مليونا ونصف مليون نسمة، وتولت السلطة الفلسطينية إدارته إثر اتفاقيات أوسلو وتم الإعلان في 12 سبتمبر 2005 عن إنهاء الحكم العسكري والانسحاب الإسرائيلي منه• وحاليا يشكل القطاع، مع الضفة الغربية، نواة الدولة الفلسطينية الموعودة التي تتفاوض السلطة الفلسطينية على إقامتها منذ أوسلو، أي منذ ما يزيد عن 15 عاما• ظلم الأشقاء ولعنة الحصار العدوان الذي تشنه إسرائيل الآن على غزة ليس الأول، ففي بداية العام الجاري ولمدة خمسة أيام، شنت هجوما على غزة بمبرر أن المقاومة توجه صواريخ "القسام" نحو الإسرائيليين انطلاقا من أراضيها، لكن المعادلة غير متكافئة؛ فإذا كانت الصواريخ الفلسطينية تقتل إسرائيليا واحدا، أو اثنين أو ثلاثة، وتصيب بعض الأفراد بجراح، فإن الطائرات الإسرائيلية قتلت أكثر من مائة فلسطيني ثلثهم من الأطفال والرضع في ذلك الهجوم، وقتلت حاليا ما يقارب 400 شخص وجرحت أكثر 1700 آخرين، بعد انتهاء هدنة دامت ستة أشهر عانى خلالها سكان غزة ويلات الحصار في أبشع صوره• وتجري هذه الاعتداءات في ظل وضع عالمي منحاز لإسرائيل، ووضع عربي متخاذل يتسم بالتواطؤ والخيانات، موازاة مع انقسام في الصف الفلسطيني؛ فالتشنج على أشده بين فتح وحماس، وقد بلغ الأمر بينهما حد المواجهات المسلحة، فحماس لم تهضم كون رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أقال حكومة إسماعيل هنية، أحد قياداتها البارزين، وقد باشرت منذ جوان في العام الماضي 2007 عملية السيطرة على مؤسسات السلطة في غزة، في شكل ترى أنه رد اعتبار لها، في الوقت الذي تعتبر فتح هذا الفعل انقلابا على السلطة• وجاءت فكرة محمود عباس لإقالة حكومة حماس واستبدالها بحكومة فياض لتصريف الشؤون، التي يشكل أغلبيتها أعضاء من فتح، بعد الحصار الذي ضربته إسرائيل على سكان مناطق الحكم الذاتي وصل إلى حد عدم تلقي موظفي المؤسسات الحكومية رواتبهم لمدة قاربت العام• والآن يضرب حصار على القطاع، ويمنع الإسرائيليون على مواطنيه الكهرباء والوقود وبنزين السيارات انتقاما من حركة حماس• وموازاة مع هذا فإن مواقف معظم الأنظمة العربية لم تكن بنفس مستوى الصمود والتحدي والمقاومة التي يقوم بها الفلسطينيون في غزة، فحتى الوساطة لم تكن جدية بالدرجة المناسبة، حيث لم توصل محاولات التسوية، التي جرت بوساطات مصرية ويمنية بين الطرفين المتنازعين، فتح وحماس، إلى أي نتيجة، نظرا لعدم التوصل إلى اتفاق حول مظاهر السيادة، وكأن السلطة الفلسطينية تملك السيادة في الوقت الذي تتحكم إسرائيل في كل الأمور•• من المعابر إلى المطارات إلى الموانئ الموجودة في مناطق السلطة! فالانتخابات البرلمانية التي جرت منذ عامين وأوصلت حماس إلى الحكومة، بعد أن تحصلت على أغلبية المقاعد في المجلس التشريعي، كانت لعنة عليها، حيث تمت مواجهتها داخليا من قبل الفصائل الفلسطينية، خاصة فتح، وخارجيا تمت مواجهتها من قبل المجتمع الدولي الذي يعتبرها حركة إرهابية ويطالبها بإسقاط بند مقاومة الاحتلال الإسرائيلي من ميثاقها، والاعتراف بإسرائيل، وعدم إطلاق الصواريخ، بينما لم يطالب هذا المجتمع الدولي إسرائيل بالوفاء بأبسط التزاماتها الدولية؛ فالانحياز واضح، لكن منطق المستعمر القوي يلقى صمتا من الحكام العرب الذين لا يريدون أن تقوم قائمة لحماس، خشية أن تقوى شوكة حركات الإخوان الموجودة في الدول العربية من جهة، وأن ترجح الكفة لصالح أطراف الممانعة التي تتحالف معها حماس، مثل إيران وسوريا وحزب الله من جهة أخرى• وهذا ما لم ترض به مصر والسعودية ودول مشرقية أخرى• [email protected]