الدكتاتور سقط و الدكتاتورية لم تسقط بعد أخشى صعود التيارات الإسلامية والثورة لم تبدأ بعد أبو بكر العيادي كاتب تونسي مهاجر من مواليد 1949 بجندوبة، يقيم في باريس منذ 1988. عمل بالتدريس والصحافة الثقافية والإنتاج الإذاعي. كتب القصة والرواية والمقال والدراسة والترجمة والمسلسل الإذاعي وأدب الأطفال، ووضع بالفرنسية قصصا مستوحاة من التراث العربي القديم والتراث الشعبي التونسي. من بعض المجاميع القصصية: «حقائب التّرحال» عام 2009. «دهاليز الزمن الممتد» عام 1986، «حكاية شعلة» عام 2000، «حكايات آخر الليل» عام1992. «الضّفة الأخرى» عام 2001. ومن بعض مؤلفاته الروائية: «الرجل العاري» عن دار الجنوب بتونس عام 2009، «آخر الرعية» عن دار لارماتان بباريس 2002، «مسارب التيه» عن أندلسيات بتونس 2001، «لابس الليل» عن دار سحر بتونس 2000. «زمن الدنّوس» بتونس 2011. حاورته/ نوّارة لحرش في هذا الحوار يتحدث الكاتب أبوبكر العيادي عن الثورة التونسية وعن الأجواء التي عاشها وقتها وعن تطلعاته وتوجساته منها، كما يتحدث عن الأدب واستثماره في الثورة. وعن القصة التي يكتبها ويحبها بنفس الكثافة التي يحب ويكتب بها الرواية، كما يتحدث عن روايته الجديدة «ورقات من دفتر الخوف» التي تستلهم من الثورة. كيف عشت يوميات الثورة التونسية، وكيف واكبتها؟ أبو بكر العيادي: عشت الأحداث منذ اندلاعها كما يعيشها مواطن مهاجر، بعيد عن أهله وناسه، لا يعلم مما يجري غير ما تتناقله وسائل الاتصال الحديثة، أو ما تجيء به مكالمات تكاد تكون يوميّة، للوقوف على حقيقة ما يجري. كنت، وأنا أدلي بدلوي على صفحة فيس بوك بمقالات وتعاليق تدين القمع والطغيان وتحضّ على العصيان المدنيّ، موزعا بين الأمل والخوف. الأمل في التحرر من ربقة الإستبداد نهائيا، لإقامة دولة ديمقراطية ينعم فيها الفرد بمواطنة حق يرفضها النظام الجائر، فقد ظلت تونس خاضعة للحكم الفردي المطلق منذ ما سمي بدولة الإستقلال والسيادة. والخوف من أن تدور على المتظاهرين الدوائر، فيقابَلوا بما اعتاد الطاغية أن يلقاهم به من قمع بالرصاص الحي منذ الإضراب العام لاتحاد الشغل في 26 جانفي/ يناير 1978 إلى أحداث الحوض المنجمي في العام 2008، مرورا بأحداث قفصة عام 1980 وانتفاضة الخبز في مطلع العام 1984. كنت غائبا عن الوطن بجسدي، حاضرا بوجداني، أتابع ما يحدث أولا بأول حتى ساعات الفجر الأولى، وبي شوق كبير إلى عبور المتوسط للالتحاق بالمتظاهرين. كيف توقعت أن تنتهي؟ أبو بكر العيادي: بصراحة، كنت أتوقع أن تغرق في حمام من الدم، وحصيلة ثقيلة من القتلى يوارون التراب بلا شواهد أو في مقابر جماعية كما حدث في قفصة عام 1980، وحصيلة أكبر من الجرحى يساقون إلى سجون لا يعرف زبانيتها الرحمة ولا ينفذ منها حتى الذبان الذكر مثل سجن برج الرومي شمالي البلاد. تلك طريقة بن علي في معالجة المسائل الأمنية حتى قبل أن يعتلي السلطة، فقد أقام مجده على القتل والإغتيالات والتجسس والزجّ بالمواطنين الأبرياء خلف القضبان بغير دليل في أغلب الأحيان سوى وشايات من ميليشيات حزبه الحاكم أو أعوانه من بوليس أمن الدولة وحتى من المواطن العادي الذي حوله نظام «العهد الجديد» و»التحول المبارك» إلى مخبر يتجسس على جيرانه وأصحابه وقيل حتى على إخوته. وإذا قدّر أن انتشرت بعض ريح تفسد عليه اطمئنانه، فأبواق دعايته جاهزة (والإعلام التونسي في عهده إعلام مأجور، ينطق بما يريده الطّاغية وجماعته أن ينطق، ويزيد على ذلك أحيانا عملا بالمثل التونسي «زيادة الخير ما فيها ندامة»)، كي تصور الأمر كمجرد ضرب على أيدي شرذمة عابثة تهدّد أمن البلاد واستقرارها. وهو ما يفسر سكوت الغرب، فرنسا بخاصة، لأنه يعرف أن بن علي لن يعدم حيلة ولا وسيلة في كسر الشغب وإخماد الإحتجاج وإعادة الوضع إلى سالف عهده. وذلك يخدم مصالحه في المقام الأول. وكيف تستحضر أوقاتها الآن؟ أبو بكر العيادي: كنت أحسبها ثورة غير مسبوقة في التاريخ، ثورة بلا قيادة ولا برنامج ولا مجلس ثوري، تآلف الشعب بكل فئاته في دفعها إلى غايتها المأمولة: دحر طاغية غشوم واجتثاث عصابة مافيوزية فاسدة. ثورة من أجل الكرامة أثارت إعجاب العالم وتصدرت العناوين الكبرى لوسائل الإعلام في شتى الأصقاع... فإذا تفردها هو نقطة ضعفها التي وجدت فيها قوى الرّدّة ثغرة مثل ثغرة الدفرسوار في حرب أكتوبر نفذت منها بسهولة للالتفاف عليها وإجهاضها من مطالبها الأساسية: حل البوليس السياسي، تطهير القضاء والإعلام، وخصوصا محاسبة القتلة والمفسدين. حينما أستعيد تلك الأيام والليالي الطافحة باللهب والدم والصراخ، أكاد لا أصدق أن ذلك حصل في تونس، البلد الوديع، وأن الشباب الذين وصمناهم في كتاباتنا بالميوعة والإنحلال والتفسّخ والإستلاب لقّنونا درسا تاريخيا في الإباء وعزة النفس لا يُمحى أبدا مهما كانت النتائج التي ستسفر عنها الأيام والأعوام القادمة. سجلات حافلة ببطولات لا تُحصى عددا نسج خيوطها أناس غمر لا يميزهم سوى رفض الضيم والتوق إلى الحرية الحق والعيش الكريم. وهل الثورة حققت ما قامت من أجله أم أن الدرب مازال لبلوغه؟ أبو بكر العيادي: اليوم، وبعد مرور تسعة أشهر على اندلاع الثورة، نلاحظ أن الدكتاتور سقط ولم تسقط الدكتاتورية، فدولة الفساد لا تزال قائمة برموزها المتغلغلة في الحكومة وفي أجهزتها السيادية الثلاثة التي لا تصلح البلاد إلا بتطهيرها ونعني بها الأمن والقضاء والإعلام. والإجراءات التي تتخذها حكومة انتقالية يفترض أن تقنع بتصريف الأعمال تخالف ما يتطلع إليه الشعب بعد الثورة. حكومة لا تلبي إرادة الشعب بقدر ما ترضخ لمشيئة أعدائه من المفسدين والمستبدين الذين سرقوا خبزه وماءه وضيقوا عليه الخناق بشكل جعل البلاد تشتعل لأول قدحة. ما تحقق حتى الآن نجده في الخبر التالي الذي وجدته اليوم على بريدي الإلكتروني: «بلغ عدد الأحزاب السياسية المرخص في تكوينها منذ الثورة إلى اليوم 111 حزبا سياسيا، وقد تمّ رفض 162 مطلبا للترخيص في تكوين أحزاب لعدم استيفائها الشروط القانونية المنصوص عليها في القانون المؤرخ في 3 ماي 1988 المنظم للأحزاب السياسية علما أنه يتواصل درس 8 مطالب جديدة. أما بخصوص تكوين الجمعيات فقد تمّ منذ الثورة ترخيص 1366 مطلبا لتكوين جمعيات وأصبح العدد الجملي للجمعيات التي تم تكوينها بصفة قانونية 10932 جمعية. وبخصوص إصدار النشريات (صحف يومية وأسبوعية وشهرية ومجلات...)، فقد تمّ تسليم 187 وصل إعلام.». أحزاب لا وزن لها وصحف وقنوات تلفزية وإذاعية لأناس أغلبهم من مدّاحي بن علي وأنصاره، تقابلها بطالة مستفحلة وفوضى تجتاح البلاد واقتصاد يوشك على الانهيار وأمن استعاد هيبة قمعية يستعرضها على الشعب وكأن بن علي لم يرحل، قضاء يلاحق الشباب الثائر والمناضلين الشرفاء ويغض الطرف عن القتلة، متنفذون مورطون في قضايا ليس أقلها الرشوة والتكسب غير المشروع لا يسرحون ويمرحون في مأمن فحسب بل يمولون الأحزاب الكرتونية الجديدة للاستيلاء على السلطة في انتخابات يجري الإعداد لتزويرها من الآن وتقدم على أنها «انتخابات نزيهة»، وأحيانا يهرب من أدين منهم عبر الحدود الدولية على مرأى ومسمع من شرطة الحدود الدولية... أمام وضع كهذا، لا يصح أن نقول إن الثورة لم تحقق أهدافها، بل هي لم تبدأ أصلا، وويل للظالم من هبّة الشعب!. ما هي تطلعاتك وتوجساتك من هذه الثورة؟ أبو بكر العيادي: أتطلع إلى دولة مؤسسات وقانون، دولة ذات نظام ديمقراطي، برلمانيا كان أم رئاسيا، يكون فيه المسؤول في خدمة الشعب وليس سيدا له، يتولى مهمته عقب انتخابات نزيهة شفافة ويحاسب عن قراراته وأفعاله. نظام يفصل بين السلطات ويسن قوانين تعاقب الولاء للأشخاص والأحزاب والمال على حساب الوطن، وتدين المحسوبية والرشوة والتزلف. نظام يضع حرية التعبير وحقوق الإنسان في المقام الأعلى، فلا إبداع بغير حرية، ولا كرامة بغير تمتع الفرد بمواطنة كاملة، وبحقه في العيش الكريم والمساواة أمام العدالة. وأتوجس من صعود التيارات الإسلامية، ومن عزمها فرض نمط من الحياة لا يناسب العصر، ومزجها الدينيّ بالدنيويّ بشكل تفقد معه تونس كثيرا من مكاسبها كدولة نامية تسير على درب الحداثة، وتجعلها عرضة لخطرين: حرب أهلية طاحنة، وعزلة خانقة قد يفرضها علينا المجتمع الدولي، ونحن أحوج ما نكون إلى الانفتاح على الأمم الأخرى. ولماذا برأيك جرت الثورة التونسية بأقل الأضرار عكس الثورة المصرية أو اليمنية أو السورية أو الليبية؟ أبو بكر العيادي: لأن الجيش، وهذا يحدث في تونس لأول مرة في تاريخها الحديث، رفض تنفيذ أوامر بن علي، والحال أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، باستعمال القوة لقمع المتظاهرين، ولو استجاب لقُبرت في المهد وما غادرت بؤرة اندلاعها إطلاقا. وقد بات من الثابت اليوم، حسب مختلف التقارير والتحاليل والملاحظات العينية والشهادات وحتى على صفحات الفيس بوك، أن الجيش لم يرفض إطلاق النار حقنا لدماء الشعب، مثلما أشيع في البداية، وإنما لأنه طرف في انقلاب على بن علي وعصابته، تقف وراءه شخصيات متنفذة من البورقيبيين وبارونات المال الذين فقدوا امتيازاتهم زمن طغيان المخلوع وعائلته وحاكمة قرطاج وإخوتها. وهو ما يفسر تهريبهم جميعا وعدم التصدي لفرار أغلبهم. حتى من تم إيقافه منهم لم يلق ما يفترض أن يلقاه من محاسبة عن جرائم ليس أقلها التكسّب غير المشروع. ويقال إن ذلك جاء استجابة لما ارتضته لنا أمريكا لتجنيب البلاد الفوضى والانهيار وربما الحرب الأهلية، وهو السبب ذاته الذي جعل الرئيس المصري يعلن تنحيه بعد يوم واحد من خطاب رفض فيه التخلي عن السلطة مثلما رفض كل تدخل أجنبي. ما الذي يميز الثورة التونسية عن بقية الثورات العربية الحاصلة هذا العام؟ أبو بكر العيادي: هي حركة سلمية كسائر الثورات العربية، عدا ثورة 17 فبراير في ليبيا التي اضطر خلالها الثوار إلى حمل السلاح دفاعا عن النفس أولا، وصيانة لأنفسهم ثانيا من حرب إبادة أعلنها عليهم القدافي في خطاب صار مثار التندر والسخرية وموضوع أغنية (زنقة زنقة) تتصدر مواقع اليوتوب والفايس بوك والتويتر. الثورة في تونس استطاعت أن تحقق هدفا أسمى هو كسر حاجز الخوف الذي كبل الشعب سنين خلنا أنها بلا نهاية، وهدفا ثانيا هو خلع الطاغية وقطع يد العائلة المافيوزية عن نهب ثروات البلاد والتحكم في مقدراتها. ولكنها أخفقت في تحقيق الأهداف الأخرى لغياب قيادة تمثلها، مما فسح المجال أمام قوى الردة كي تلتف على مطالبها المشروعة. ومن المفارقة أن من قامت الثورة من أجل إسقاطهم ومحاسبتهم عن دورهم في دولة الفساد هم الذين يحكمون البلاد اليوم ويوجهون الانتخابات المقبلة الوجهة التي تخدم مصالحهم. ما يميزها عن الثورات الأخرى هو دور الجيش. الجيش في بلاد العرب هو الذي يملك الحل والربط، في تدخله بقاء الملك، وفي حياده زواله. وهو مصداق قول بطل رواية لي بعنوان «آخر الرعية» كانت محظورة زمن بن علي: «اخلعوا عن الملك جيشه وأسواره تروه عاريا!». كيف تستشرف مستقبل هذه الثورة ككاتب تونسي؟ أبو بكر العيادي: في اعتقادي أن الثورة لم تملك بعد من أسباب القوة ما يجعلها تفرض أجندتها، وما سمّي باللّجنة العليا لحماية أهداف الثورة تسبح ضد التيار، وتناقش مواضيع أبعد ما تكون عن مشاغل الشعب (كالهوية والتطبيع وموقع اللغة العربية والدين في المجتمع...) فهي لا تضم أي فرد من شباب الثورة، بل تتألف من مجموعة من المتحزبين الجدد والانتهازيين وحتى أزلام بن علي الذي كانوا يكيلون لشخصه المديح تلو المديح ويناشدونه بالخلود على سدة الحكم إلى أن يقبض عزرائيل روحه الدنسة. في اعتقادي أيضا أن قوى الردة أو ما عرف عندنا بحكومة الظل التي تعترف بأنها أوصلت بن علي إلى السلطة ونصبت رئيس الحكومة الانتقالية الحالية قد أحكمت قبضتها على مواقع السيادة والمؤسسات الكبرى وحتى التمثيليات الدبلوماسية والقنصلية في الخارج، وأن المجلس التأسيسي الذي سوف ينبثق عن انتخابات 23 أكتوبر القادم سيكون مقيّدا ينحصر دروه في المسائل التشريعية لا يتعداها، وأن الحكومة القادمة ورئيسها سوف يعيدان إنتاج المنظومة الإستبدادية بدعوى حفظ الأمن تارة، وخلق مناخ استقرار لاستقطاب المستثمرين تارة أخرى... وقد بدأنا نسمع هذه المعزوفة من حكومتنا المؤقتة العتيدة منذ بضعة أشهر. هذا الأمر لن يقبل به الشعب إطلاقا، فإن كان من فضل لهذه الثورة فهو تقويضها لجدار الخوف، ولا أتصور أن الشعب سيعود إلى خضوعه وخنوعه أبدا ولو بذل النفس والنفيس. وأخشى ما أخشاه أن تكون الثورة القادمة غير سلمية، لأن الجيش لن يقنع بالفرجة حين تزول أسباب امتناعه عن العنف، والشعب لن يقبل بأن تسرق منه ثورته مرتين. وهل بدأت تستلهم من هذه الثورة وتستثمرها أدبيا أم الوقت مبكر على هذا الاستلهام والاستثمار؟ أبو بكر العيادي: الأحداث الكبرى تحتاج في العادة إلى اختمار في الذهن أعواما طويلة قبل أن يصوغها الكاتب في أثر يستوفي شروط العمل الفني الجاد، يستخلص فيه دوافعها ونتائجها ويجلو منها أبعادها الإنسانية العميقة، ولكن ذلك لا يحول دون رصد التحولات المتسارعة ولو في شكل تسجيل للوقائع وإمساك بالزمن الهارب. في هذا الإطار أعددت رواية بعنوان «ورقات من دفتر الخوف» حاولت أن أصور فيها الخوف في أوجهه المتعددة، لا كثيمة فلسفية وإنما كمعاناة لفئات كثيرة فرضها طاغية يسوس بالقهر شعبه، لعلي أجد تفسيرا لسكوتنا طوال 23 عاما على ظلم رجل أمّيّ فاسق سارق، وأتلمس الطرائق التي توخاها والوسائل التي استند إليها لزرع الخوف في النفوس، لا يستثني من شعبه إلا من أسلم له القياد طوعا وقال إني مثلك من المفسدين. ولعل خير ما يعبر عما عاشته تونس في عهده بيتان للأفوه الأودي صدّرت بهما الكتاب: لا يصلح النّاسُ فوضى لا سَراة لَهم ولا سَراة إذا جُهّالُهم سادوا تُهدى الأمور بأهل الرّأي ما صلحت فإن تولّت فبالأشرار تنقادُ يبدو أن «ورقات من دفتر الخوف» جاءت بعد الثورة وليس قبلها، هذا يعني أنك بدأت تستلهم منها وتستثمر فيها؟ أبو بكر العيادي: انتهيت من كتابتها يوم 23 أوت/ أغسطس الماضي، وهذا لم أختره، وجاءت في 23 فصلا وهذا أيضا لم أخطّط له، فإذا الرقم في الحالين، من حيث لا أدري، يطابق أعوام حكم بن علي التي نهضت الرواية لتعريته. الثورة كانت قادحا لفكرتها، ولكنّ الرواية تعرض أكثر ما تعرض لعهد الجور والطغيان وحالة الخوف التي استبدت بفئات الشعب كافّة، حتى صار المواطن لا يأنس لمحدّثه ولو كان من المقربين، بل إن التونسي قبل الثورة صار حتى وهو في الخارج يقلّب النظر حوله يمنة ويسرة قبل أن يسرّ لمحدثه بكلام يمس الأسرة الحاكمة من قريب أو بعيد. «ورقات من دفتر الخوف» تصور ما عاشه مثقف تونسي مهاجر يواكب الثورة منذ اندلاعها حتى بدء اعتصام القصبة 1 لإسقاط مخلفات العهد البائد، وترتد به الذاكرة إلى الأسباب التي ألقت به في المنفى، وأساليب دولة الجور والفساد في تركيع المثقفين، لا بل واستمالتهم إلى حظيرته راهبين أو راغبين، بعد أن جعل الشعب كله في حال سراح شَرطي محكوما عليه سلفا ولا يعلم متى يعاد إلى الحبس، وأخضعه للمراقبة، يتجسس عليه إن بليل أو نهار تماما كالأخ الأكبر بطل جورج أورويل في روايته الشهيرة «1984»، فضلا عن إطلاقه بطانته وحاشيته تعثو في البلاد سلبا ونهبا بلا رقيب، وتفسد الحرث والنسل بلا حسيب. الثورة حدث هزّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها هزة تردّدت أصداؤها في شتى أنحاء العالم، واستشرت عدواها ليس في الوطن العربي وحده بل في أنحاء من العالم كثيرة، ولا أحسب أن الأدباء في تونس، روائيين وشعراء ومسرحيين وسينمائيين، سيتخلفون عن تناولها في القريب المنظور، كل على قدر طاقته الإبداعية وقدرته على مقاربة واقع مستجد لا يني يتحول. تكتب باللغتين العربية والفرنسية، هل كان سقف الحرية بالفرنسية دائما أعلى منه بالعربية؟ أبو بكر العيادي: لست من الفرنكفونيين، بل أنا كاتب عربيّ اللسان وما نشر لي بالفرنسية يدخل في إطار تعريف الغرب بثقافتنا العربية وتراثنا الشفوي بخاصة، ولا ألجأ إلى الفرنسية إلا لمحاورة الآخر حضاريا، سواء من خلال مؤلفات عن القص العربي القديم أو الحكايات والأساطير التونسية، أو محاضرات في الملتقيات والمنتديات. لأني أومن إيمانا راسخا بأن اللغة هوية، وبأنّ ما يكتب بلغة الآخر ليس من الأدب العربي في شيء، وإنما يضاف إلى آداب الأمم الأخرى. الحرية في الإبداع ليست حكرا على شعب دون آخر ولا على لغة دون أخرى، وإنما مردّ ذلك إلى الواقع العربي الذي يفرض رقابة على الإبداع برمته، يتعقب في تلافيفه ما لا يروق سدنة الأخلاق الحميدة تعقب بوليس أمن الدولة في أقطارنا العربية لكل شكل من أشكال المعارضة. فالعربية قادرة على رصد أدق الخلجات والتعبير عن كلّ ما تتوق إليه النفس البشرية من انعتاق من القيود في شتى أشكالها وإعلاء لقيم الحق والخير والعدل، لتنطلق إلى فضاءات العالم الرحبة انطلاقة الطير في الأجواء. ولكن الرقابة في أوجهها المختلفة، والرقابة الذاتية أخطرها، وسلطة المجتمع بعاداته ومعتقداته هما اللتان تحدّدان سقف الحرية أمام الكاتب العربي، فما يجوز لكاتب عربي يكتب بلسان أجنبي لدى ناشر أجنبي لا يجوز لكاتب عربي يكتب بلغة عربية وينشر إنتاجه في بلد عربي. أنا أكتب دون قيد، وللناشر أن ينشر أو لا ينشر وللرقابة دور الغربلة وفق مقاييس خاصة بها وحدها (لي حتى الآن كتابان محظوران: رواية نشرت بباريس، ومجموعة رفضت الصحف الوطنية والعربية نشرها ودفعت بهما إلى المطابع بعد الثورة). تكتب القصة والرواية بنفس الكثافة، كأنك لا تريد التفريط في القصة مثلما حدث مع أغلب الكتاب الذين هجروا القصة واستقروا في الرواية؟ أبو بكر العيادي: قد يعزى انصراف الكتاب العرب إلى الرواية وعزوفهم عن القصة إلى قناعة - خاطئة - بأن القصة دون الرواية أهمية، وأن القارئ في الشرق والغرب أكثر اهتماما بالجنس الروائي لاشتمال الرواية على كل الأجناس واستعراضها عالما يضج بالشخوص والأحداث والمعالم. والحقيقة أن القصة بشهادة من مارسوها فن صعب ذو شروط وسمات قلّ أن تتوافر في كتابات كثير ممن خاضوا غمارها. وهو ما يرغب البعض عنها، ويزهدهم فيها. أنا بدأت قاصا وبرغم انتقالي إلى كتابة الرواية ما زال هذا الجنس يستهويني لأنه يتسع لقضايا لا تسعها الرواية مهما فاض حجمها، بل إني أكتبها بالتوازي مع الجنس الروائي ولي من المجاميع (خمس مجموعات منشورة وسادسة في طريقها إلى النشر) قدر ما لي من الروايات، بل إني أكاد لا أدفع برواية إلى النشر إلا وسبقتها بإصدار مجموعة قصصية جديدة. القصة عندي إذن ليست استراحة محارب، بل هي جنس أدبي قائم الذات أخصص له من وقتي وجهدي قدر ما أخصصه للرواية، لأن القصة بتركيزها على حدث واحد، بزمنها الوجيز ولغتها المكثفة الموحية ووحدة انطباعها قادرة على النفاذ إلى صميم ما يروم الكاتب قوله دون بهرجة ولا فضفضة زائدة، فيما الرواية فضاء رحب متعدد الشخوص والأزمنة والأصوات وحتى الأساليب والخطابات، قد لا تصيب الهدف من الوهلة الأولى.