أمهات يكافحن لإعداد قفة السجن إنهن أمهات يدفعن ثمن أخطاء و جرائم ارتكبها أبناؤهن من أعصابهن و صحتهن و كرامتهن و أموالهن و أمومتهن الجريحة و أعيادهن ،فتهدر منهن أياما و شهورا و أعواما من أعمارهن، في انتظار الافراج عن فلذات أكباد يقبعون خلف القضبان. و في خضم الانتظار و الحزن و الحسرة و وجع الفراق تضيع منهن حتى فرحة العيد و طعمه الممتع، إذ يقضينه في تحضير ما لذ و طاب من مأكولات لملء ما تبقى من فراغ في القفف البلاستيكية التي سيحملنها في أول زيارة "عيدية"لهؤلاء الأبناء بالمؤسسات العقابية التي يقضون بها فترة عقوبتهم و تكون غالبا بولايات مجاورة. الكثير من أمهات المساجين اللائي التقينا بهن رهينات المحبسين: أمومتهن و فقرهن،فاضطررن لتخصيص المبالغ التي جمعنها من زكاة الفطر و مساعدات المحسنين لشراء بعض مكونات القفف التي يتطلب ملؤها حوالى 5000 دج تقريبا ناهيك عن مصاريف السفر،فالمؤسسات العقابية بعيدة عن مقرات إقامتهن و تقع بولايات أخرى. قالت إحداهن و هي عجوز في ال 68 من العمر، سبقت عبراتها عباراتها :"منذ قضت المحكمة بسجن ابني البالغ من العمر 27عاما، قبل أربع سنوات، و أنا أعيش في دوامة من المشاكل و الأحزان تتضاعف في الأعياد عندما أرى جميع قريباتي و جاراتي وسط أبنائهن في بيوتهن يرفلن في السعادة و الراحة و أنا وحيدة بهذه الغرفة البائسة مع كنتي التي لا حول لها و لا قوة و ابنيها الصغيرين اليتيمين رغم أن والدهما ابني البكر على قيد الحياة.لو كانت أحوالنا المادية حسنة لهانت الكثير من الأمور.فأنا أعول أربعة رقاب و أحاول جمع بعض مكونات القفة التي أحملها له في مواعيد الزيارة من راتبي الهزيل من العمل في البيوت.و لأن مصاريف رمضان أثقلت كاهلي لم أتمكن من شراء إلا بعض علب التونة و البسكويت و "نيسكافي"و مسحوق العصائر الاصطناعية و الحليب، كما ترين . الباقي تساعدني في تحضيره جاراتي فقد قدمن لي زكاة العيد و بعض المساعدات لأتمكن من حمل القفة إلى سجن سكيكدة في اليوم الثالث من العيد و أراه بعد شهرين من الغياب.لدي ابن آخر متزوج لكنه تخلى عني و قاطع أخيه منذ محاكمته .إنني أعيش أصعب ما يمكن أن تعانيه أم من أنواع الحرمان و المعاناة في أرذل العمر خاصة و أنني مصابة بالسكري و ارتفاع الضغط الدموي و لم أعد أتحمل عناء السفر و العمل. وكم أخشى أن أموت قبل الافراج عن ابني بعد حوالى سنة. لقد غرر به رفاق السوء". السجائر للاستهلاك و المقايضة و لمعاناة أم محمد ذات ال 63 عاما أبعاد أعمق ، فابنها البالغ من العمر 40عاما قضى أجمل فترات مراهقته و شبابه خلف القضبان كلما قضى عقوبة تورط في جنحة أو جريمة أخرى و عاد إلى الزنزانة ليدفع و معه أمه ثمن ما اقترفت يداه. قالت لنا بنبرة حزينة لا أثر فيها لفرحة العيد في أول أيامه:"قضيت سنوات طويلة من عمري التعيس و أنا أتنقل من سجن إلى آخر لأزور ابني.لقد بدأ رحلته مع الانحراف في سن مبكرة، كان في ال 14 تقريبا عندما سرق لأول مرة و أدخل إلى مؤسسة رعاية الأحداث و لم يقمع و لم يردع و يتعظ و لم يتأثر بدموعي و توسلاتي.إنه ضحية تفكك أسري و مشاكل اجتماعية كثيرة جعلته هشا ضعيفا ينساق خلف كل مجرم يغريه بالمال.و جدت نفسي أدفع معه لوحدي ثمن أخطائه في حين تنكر له والده و اخوته و كل أقاربنا.تصوروا لقد قضيت حوالى عشر سنوات بين سجون مختلف الولايات أنفق كل ما أجمعه من نقود من عملي في مطعم و مساعدات المحسنين و زكاتهم لملء قفف أحملها له في مواعيد الزيارة أو أرسل له بعض الملابس و اللوازم في طرود بريدية أو ما تيسر من مال في حوالات بريدية. ربما لا تعلمون بأن محتويات هذه القفف تتغير حسب تعليمات إدارات السجون و هذه التعليمات تتغير حسب مستجدات أخطاء أو خطايا أقارب المساجين.لقد كنا نحمل مختلف الأطباق بالمرق العادي و كذا الحلويات مثل "المقروظ" و "البراج"و "الكسرة" لكن البعض سامحهم الله استغلوا هذه المأكولات و غيرها لتسريب المخدرات و الأقراص المهلوسة فأصبحت محظورة للأسف الشديد.و كلما بدأت تحضير القفة التي اشترطت إدارة السجن بأن تكون بلاستيكية من النوع القديم الذي اختفى منذ سنوات من السوق،هيمنت علي الحيرة و أبدأ دائما بشراء خرطوشة السجائر ليس لأن ابني مدخن فقط، بل لأنه شرح لي بأنها أغلى مكونات القفة مهما كانت، فالعلبة الواحدة يمكن أن يستعملها السجين لمقايضة أي شيء يحتاج إليه سواء حذاء أو قميص أو كيس مسحوق حليب...مع سجين آخر.لقد تمكنت من اقتناء خرطوشة إلى جانب كميات من الزيتون و التمر و التونة و لوازم تحضير بعض الأطباق الجافة مثل شرائح سمك مجمد و دجاجة و بعض الخضر. العيد بالنسبة لي تركيز في تدبير مكونات القفة التي أرهقت كاهلي و استنزفت صحتي و جهدي فأنا مصابة بالعديد من الأمراض المزمنة في مقدمتها القلب و لا أتحمل السفر خاصة في هذه الحرارة و لم أجد آذانا صاغية لنقل ابني إلى سجن قريب من مكان سكني." قفة للسجين و زملائه في الزنزانة قالت لنا أم أخرى في العقد السابع من عمرها وهي تبكي بحرقة:"في الأعياد يتضاعف ألمي لأن ابني الذي لا يتجاوز عمره 23 عاما، خلف القضبان رغم أنني متأكدة من براءته. انه ضحية شهادة زور و ظروف أسرية قاهرة.تمنيت أن يستفيد من العفو الرئاسي الأخير، لكن دون جدوى و هاهو يقضي عام آخر و عيد جديد بعيد عني و عن إخوته.ليت إدارة السجن تنفذ على الأقل ذلك القرار الذي سمعنا و قرأنا عنه قبل شهور في الصحف، و يقضي بالسماح لنا بالاتصال هاتفيا و لو تحت المراقبة الشديدة بأبنائنا، لتهنئتهم بالعيد و الاطمئنان على صحتهم قبل أن نزورهم في سجن بولاية أخرى.لقد اضطررت لبيع خاتم ذهبي لأتمكن من شراء سروال لابني و لوازم قفته التي "تبتلع" الكثير من النقود و تمتليء بصعوبة خاصة في المناسبات و توفير مصاريف النقل... جرت العادة بأن تتكفل كل أم تزور ابنها على الأقل مرة في الشهر بتوفير مأكولات تكفي له و لزملائه بالزنزانة بالتناوب مع باقي الأمهات.و بالتالي تكلفني قفة العيد أكثر من 5000 دج.لقد ساعدتني جاراتي في شراء بعض اللوازم لأنهن يعلمن بأنني لا أكاد أوفر اللقمة لي و لبناتي من منحة زوجي المتوفي و كرست يومي العيد في الطبخ و التحضير و الدعاء له بالفرج و التوبة النصوح.و أنا الآن أفكر في متاعب التنقل في هذا الطقس الحار جدا إلى عنابة فصحتي ليست على ما يرام و للسن أحكامه،و كم أخشى أن أموت في احدى الرحلات و معي القفة و لا أحد بعدي سيفكر في زيارته." قفة دون حلويات العيد و أسرت إلينا أم سالم 58 عاما ، بأنها تخصص مبلغا من المصروف اليومي الذي يقدمه لها زوجها المتقاعد لشراء بعض مكونات قفة ابنها السجين التي تحملها له عادة مرة في الشهر و تخفيها في محل البقال المجاور إلى أن يحين موعد الزيارة الدورية.عندئذ تخترع سيناريو مناسب لزوجها لتتمكن من التغيب من البيت طيلة يوم السفر إلى المؤسسة العقابية بسكيكدة،فقد منعها من زيارة ابنهما منذ سجن قبل ثلاث سنوات و تبرأ منه ومن جريمته.و في العيد تتضاعف معاناتها...و تستيقظ أوجاعها و جراحها و تقول بهذا الخصوص بتأثر شديد:"مهما فعل ابني يبقى فلذة كبدي و قرة عيني و لا يمكنني أن أنساه أو أتبرأ منه كوالده الذي يعتبره وصمة عار.لقد بدأت تحضير القفة التي سأحملها له بمناسبة العيد في الصباح. طبخت له طبق جلبانة مجففة من المرق و دجاجة محمرة لأنه يحبهما لكنني لن أتمكن من تزيين القفة بالبقلاوة و القطايف و "المقروظ "رغم أنه يحبها كثيرا، لأن هذه الحلويات محظورة في السجن. كلما رأيتها في صينية لا أتمالك نفسي من شدة البكاء.فقفف المساجين تخضع لشروط و معايير في مقدمتها الوزن و المكونات المحددة ناهيك عن متاعب اقتنائها ماديا و معنويا و كذا نقلها في الحر و القر إنني أدعو الله ليلا نهارا لكي يطلق سراح ابني الشاب الذي لا يتجاوز ال28 عاما و يعفو عنه و ينجيه من هذه المحنة التي سقط بين مخالبها بسبب طيش الشباب و رفاق السوء و قسوة والده و عدم تفهمه له .و يرأف بي ،فقد تعبت كثيرا و مرضت و ذبحتني أمومتي من الوريد إلى الوريد.فأنا لم أتصور أن يأتي اليوم الذي أدخل السجن بولاية أخرى دون علم زوجي و إخوتي و معارفي بسبب أمومتي.ارحموا عزيز قوم ذل." فالعيد ليس له دائما طعم الفرح بالنسبة لشرائح كثيرة من المحرومين.و ما بالك إذا تعلق الأمر بأمهات المساجين المتحسرات .