استحضرت ذكريات المراهقة الأولى في سنّ الثالثة عشر· ذكريات الكتب الكثيرة التي طالعتها (···) لست أدري لماذا شعرت، بدايات مراهقتي الأولى الهشّة، غير الواعية بهشاشتها، أنّي مختلفة عن قريناتي الفرنسيات اللواتي أخالطهن بالإقامة الداخلية للمدرسة؟ أشعر أنّي مختلفة خصوصا عن زميلتي في الغرفة والمدعوة جاكلين؟ كلّ مساء، خلال الأيام الأولى من الدخول المدرسي، لا تتوقف جاكلين، المشبّعة بحيوية اكتسبتها على طول أيام العطلة الصيفية التي تقضيها على شاطئ البحر، عن سرد قصصها العاطفية العابرة·ئ تلك القصص التي تنعتها بعبارة ''المغازلات''· لم أكن أتجرأ يوما على مساءلتها بتقديم تفاصيل أكثر إيضاحا عن مغامراتها· كنت استمع إلى قصصها، في ظلمة مرقد الإقامة المدرسية، وأنا أميل برأسي على سريرها المحاذي إلى سريري بمشاعر الدهشة أكثر من مشاعر الغبطة· كنت أصغي بخشوع إلى جاكلين وهي تتصفح بعض ذكرياتها قائلة: يأخذك الشاب بين ذراعيه· تزحف أصابعه ببطء مرتفعة صوب مسقط الكتفين· يلصق شفتيه على أذنك ويهمس بصوت عذب: ''قبلة···قبلة واحدة!'' ··· وإذا كنا وحدنا، يأخذني ويحضنني ويقبلني··· و بعد؟ هكذا انتفضت بالقول· ليس لأني شعرت بصدمة إزاء انفعالية جاكلين· ولكن فقط تعبيرا عن تحفظي أمام سلوكياتها التي لم أكن أفكر يوما في انتهاج سبيلها· تنهدت جاكلين ثم أضافت بنبرة تعلوهائ أحاسيس النوستالجيا: بعدها··· يقبلني مطوّلا··· لم أكن استطيع إعادة سرد هذه القصة على أمي ولا على أبي· فعندنا، في البيت،ئكلمة ''شرف'' تعلو كل المحادثات المنضوية تحت راية هذا النوع من المواضيع· لحسن الحظ أن والدي غير موجود في مرقد الإقامة الداخلية للمدرسة· لا يمكنه الاستماع إلى قصص جاكلين و لا يستطيع نهرها· في النهاية، لا أخفي حقيقة أني أحببت، في بدايات مراهقتي، الاستماع إلى مكاشفات جاكلين· بدا لي تحررها جرأة· خرقا للمعتاد· ومغامرة حقيقية· كنت سأجعل من تلك الزميلة بطلة رواية غربية· بطلة إحدى الروايات التي تأتينا من ''هناك''· * * * الملعب هناك وأنا وحدي· وحدي في الشمس· أرتدي تبانا و أحيانا تنورة قصيرة· أقفز، أركض و أمرح· تنبسط على هذا الملعب حريتي· جسدا وروحا· كشلال متدفق وغير مرئي· يقع هذا الملعب الرياضي الخاص بكرة السلة داخل المدرسة، في إحدى الساحتين أو الثلاث ساحات المكوّنة للمؤسسة· بعدما تنقضي المداومة، في حدود الرابعة بعد الزوال، بينما يغادر التلاميذ المنخرطين في النظام الخارجي أو شبه الداخلي، راجلين أو راكبين دراجات هوائية أو مرفقين بأوليائهم في سيارات، يصير هذا الفضاء المغلق تحت تصرف التلاميذ المحسوبين على النظام الداخلي· يصير هذا الملعب، بين الساعتين الرابعة والخامسة بعد الزوال، مكسبي الأهم· هناك أركض و أتخيل أني أراوغ لاعبات من الفريق الخصم (···)·ئ * * * الحفلة هذا هو الفستان الذي ابحث عنه! الظهر و الكتفين مكشوفين! أبدت أمي اندهاشا و اكتشفت فجأة تغيّر بعض ميولي الشخصية· بكل تأكيد! هذا الموديل ذو الظهر والكتفين المكشوفين! و لما لا؟ حفل الزفاف لن تحضره سوى النساء ··· ثم إنه من نوع الكاراكو··· قبل أن تضيف أمي بإصرار: عديني!··عديني أنك لن تلبسي هذا الفستان خارجا ··· في الشارع··فوالدك ؟!! لم تكن أمي تعلم أني، منذ وقت قصير، صرت أحب الرقص وحيدة بين أربعة جدران· أرقص وفق أنماط موسيقية مختلفة· أؤدي رقصا ارتجاليا (···) توجهنا في اليوم الموالي إلى الخيّاطة· بعدما أخذت القياسات ذات خميس، عدنا الخميس الموالي و حصلت أخيرا على الفستان (···) كنا في منتصف شهر جوان (···) بلغتنا أنباء ثلاثة أو ربما أربعة حفلات زفاف بين الأهل و الأقارب، إضافة إلى حفلين أو ثلاث حفلات ختان (···) قررت ألا أذهب سوى إلى حفل واحد (···) حفل أين سأرتدي ذلك الفستان (···) قررت وأنا أرتدي ذلك الفستانئأنّ أقف وسط حلقة المدعوات ولا ألقي بالا إلى المتطفلات اللواتي لا يجلسن مثل النسوة ويتسمرن خلف الباب ويراقبن من تحت حجابهن زينة النسوة· جواهرهن· أداء الجوقة الموسيقي وتصرفات العروس (···) تلك النسوة الجاسوسات اللواتي سيلمحنني أرتدي ذلك الفستان الأسود المرصع بأزهار حمراء وأخرى بنفسجية وأنا أرتجل رقصة بطيئة قبل أن تبدأ، تدريجيا، حركاتها في التسارع متابعة تسارع ريتم الموسيقى (···) بدأت فعلا الرقص ببطء كطائر الطاووس ثم، شيئا فشيئا، شرعت في أداء حركات متفاعلة: كتفاي ترتجان وذراعي مرتعشة· أكاد أتمدد على الأرض حتى برز نتوء ثديي الصغيرين(···) بعدما بلغني بعض التعب جراء تلك الرقصة الأولى أمام جمهور مكوّن أساسا من نساء قريبات، جلست قرب مجموعة فتيات مفتخرات بأدائي وسألتني إحدى القريبات قائلة: هل ترقصين في إقامة المدرسة أيضا؟ * * * أولى الحماقات أصغيت إليه وهو يتقدم إليّ بطلب مبتعدا عني حوالي ثلاث خطوات (···) رغم أني أدركت فحوى الطلب إلا أني طلبت منه أن يعيد إسماعي الطلب نفسه والكلام ذاته· شعرت بحاجة إلى الاستماع إليه· ليس تلذذا ولكن رغبة في التعرف أكثر عن صوته (···) مجت في أحلام غواية ذلك الشاب ''الصحراوي''· أنا التي سيظنني الآخرون ''مذنبة'' و مخطئة''· لم أكن، في الحقيقة، سوى ساذجة، حالمة بطريق الحب، الحب العابر، الحب الملعون، الحب الحالم، جرح القلب، عفن الرّوح (···) أعاد صياغة كلامه بصوت منخفض مبينا عن خشية من إمكانية تلقي رد رافض: هل استطيع···أن أدعوك إلى الخروج معي في نزهة؟ رفعت رأسي وصوبت نظراتي تجاهه (استغل تلك الفرصة للدنو مني خطوة)· أشرت إليه ''بنعم'' بتحريك الأجفان بصمت· لم ابتسم حتى· كانت تلك الواقعة أول مرة أجد فيها نفسي وجها لوجه مع شاب ذكر· فكرت، بداخلي، أننا سنسكن معا وأننا سنمتلك الليل وسنمتلك الصمت· أجبته: و لما لا؟ قبل أن أرفع بصري صوب منيرة ولا صوب الأخريات وجدت نفسي رفقة شاب نتجه صوب بوابة الساحة المشرعة وأتخطى العتبة مرفقة بفارس أحلامي· * * * بقيت دائما أذكر تلك النزهة التي قادتنا عبر الشارع الرئيس من المدينة والمؤدي إلى محطة القطار· سلكنا نفس الطريق التي كنت أسلكها صغيرة في سني الحادية عشر والثانية عشر في المسير إلى محطة الحافلات (···) أنا المراهقة البالغة آنذاك خمسة عشر سنة كنت أسير بجانب علي بثقة شابة غربية· ما إن غادرنا المدرسة حتى نسينا الأخريات· شعرت بفخر وأنا أسير إلى جانب شاب ذكر (···) شعرت لحظة أنني قبلت العرض بغية رفع التحدي أمام الأخريات إلا أن الحقيقة تفيد أنني قبلت العرض بسبب امتلائي رغبة في التوجه بعيدا···(···) بعد صمت قصير بدأت الحوارية· لم أكن أود أن أشعره أنّي خائفة· لم أكن كذلك حقا· مع علي، تحررت من كل حرج·ئلم يكن أخا ولم يكن ابن عم إلا أني تمنيت لو كان قريبا· لما وصلنا إلى محطة القطار ظللنا نمشي مبتعدين· كان الليل قد بدا للتو يخيم على المدينة· بقينا نتحدث عن كثير من المواضيع التافهة· لم أعد أذكر تحديدا المواضيع التي تحدثنا عنها آنذاك· أستحضر فقط ذكرى الثقة المتبادلة التي قامت بيننا (···) اضطررنا في النهاية إلى العودة مشيا إلى عتبة المدرسة· أذكر أننا لما عدنا إلى المدرسة لم نجد في المكان أحدا· كان الجميع قد انصرف إلى أشغاله· ظلت البوابة نصف مشرعة ولم نكن نلمح ضوءا سوى في بعض حجرات المرقد المتواجدة على مستوى الطابق الأرضي· لم أكن بتاتا أشعر بمرور الوقت· توّجب عليّ، خلال ذلك اليوم الحار من العام 1591، أن أقول ''إلى اللقاء'' لرفيقي علي· لم أمد إليه يدي لمصافحته· ولم أقترب منه حتى· خشيت أن تكون عيونٌ في المرقد تحرس تحركاتنا وهمساتنا· وبينما كنت أنوي الصعود إلى الأعلى أمسكني من معصمي وخاطبني: - امنحيني، على الأقل، قبلة···!! سحبت يدي بقوة· تلقيت كلمة ''قبلة'' كما أتلقى عبارة ''شتم''· وجدت نفسي أركض بسرعة صوب غرفتي (···) أذكر أني نمت تلك الليلة وقلبي يكتظ بمشاعر الندم·ئ * * * أذكر أني، في حدود سن الأربعين، ركبت الطائرة متجهة من الجزائر العاصمة إلى باريس· لمحت لحظة الصعود امرأة في مثل سني· امرأة أعرفها تدعى نادية بادلتها التحية وسألتها عن أحوالها· بينما كنت أجلس على مقعدي في الطائرة، لمحت بمعية نادية، شابة جذابة· قلت في نفسي أنها أجمل فتاة تركب على متن تلك الطائرة· انغمست، خلال ساعتي الرحلة، في المطالعة· فجأة، وقفت تلك الفتاة التي أشرت إليها منذ قليل أمامي وقالت: أود أن أصارحك بشيء سيدتي··! ترددت قليلا ثم أضافت: رفيقتك نادية أخبرتني من تكونين· أود أن أخبرك أن والديئوالمقيم في الصحراء والذي يشتغل حاليا كطبيب والذي عرفك سنوات المدرسة لا يزال يتحدث عنك··· رنت كلمةئ''الصحراء''ئبقوة في رأسي ··· عادت كلمةئ''الصحراوي'' بقوة من أعماق الذاكرة· دنوت منها وهمست في أذنها: - قولي لأبيك ولأمك أيضا أنّي أجدك الفتاة الأكثر جمالا على متن هذه الطائرة·