هناك نظرية مشهورة في علم التحول الديمقراطي تقول: ''من يريد ماذا، أين، ومتى؟''· ولو أردنا أن ننزّل هذه النظرية على أرض الواقع العربي خلال العام المنصرم لقلنا: إن عشرات الملايين من العرب البسطاء، غير المسيسين، وغير المنظمين حزبياً، قد أرادوا الحرية والعيش بكرامة في أوطانهم وبأسرع وقت ممكن· ما تقدم يمثل تبسيطاً شديداً لما حدث دون ريب، لأن هناك مئات بل آلاف التفاصيل التي تراكمت خلال عشر سنوات، ثم انفجرت في الشارع العربي· وليس صحيحاً أنها كانت مفاجئة، لأن العديد من المخططين الإستراتيجيين توقعوها وتنبأوا بها، لكن المفاجئ فيها تمثل في عفويتها التامة التي حشرت الأحزاب ومجتمع النخبة في زاوية ضيقة جداً وفي أنها انطلقت من تونس وليس من مصر التي كان كثير من المراقبين يراهنون على انفجارها سياسياً في أية لحظة· أكثر ما يسترعي النظر في ربيع العرب ذلك الإستقطاب الحاد بين تفسيرين قطعيين لا مجال للجمع بينهما، تفسير يقول بأن الربيع العربي مثل لحظة تاريخية تجمعت فيها عوامل الإحباط العربي الداخلي مع إمكانيات التفهم الأجنبي الخارجي· وتفسير ثانٍ يقول الربيع العربي مثل مؤامرة أمريكية وأوروبية لإعادة استعمار الوطن العربي عبر التلويح بقمصان الديمقراطية والتغيير· وألحق أن كلا من التفسيرين يسقط من حساباته حقيقة (التخطيط)، فالتفسير الأول يشتط فعلاً حينما ينكر حقيقة الإستدارة اللامعة التي قامت بها مراكز صنع القرار في الغرب وأهّلتها للدخول على خط الربيع العربي والتأثير في مجرياته بل وإعادة التحكم في مساراته كما حدث في تونس ثم في مصر ثم في ليبيا ثم في اليمن· والتفسير الثاني يشتط كثيراً حينما ينكر حقيقة الدور الشعبي الخالص ويتشبث برواية المؤامرة المحكمة التي بلغت حد القدرة على تعبئة عشرات الملايين وتوجيههم في الشوارع· قد يتساءل متسائل: ما الفرق بين التخطيط والمؤامرة ما دام أن النتيجة واحدة؟ وللحق علينا أن نؤكد حقيقة أن هناك فرقاً كبيراً! فالتخطيط جهد بشري يمكن مواجهته والتغلب عليه بفعل بشري آخر مواز له· وبقطع النظر عما يمكن لهذا التخطيط أن يحقق من نتائج إلا أن آلية التفكير فيه تظل محكومة بحسابات واقعية ومنطقية وعقلانية· أما المؤامرة فهي فعل ظلامي تتداخل فيه عناصر الخيال مع الأسطورة والمبالغة، وتقتات من الأوهام عن الذات وعن الآخر، وتظل آلية التفكير فيها مشدودة لنمط الحسابات اللاعقلانية والخرافية· ومن البديهي القول بأن أخطر ما يمكن أن يترتب من خسائر حضارية جرّاء الإنشداد لنظرية المؤامرة يتمثل قطعاً في الإستغراق فيها والإعراض عن منطق التحليل والنقد والتركيب· مسألة أخرى تمثل جامعاً مشتركاً بين أنصار التفسيرين وتتجلى في استعجال إنجاز التغيير المطلوب، كما لو كان التحول إلى الديمقراطية يمثل تطبيقاً حرفياً للتعليمات الموجودة في الكتالوج الخاص بتشغيل جهاز التدفئة أو التبريد· مع أن كل المؤرخين والمفكرين والمحللين الإستراتيجيين يجمعون على أن التحول الديمقراطي الحقيقي لابد أن يتخلله صراعات وتناقضات يجب أن تجبر كل أطراف الصراع المشاركة فيه على الإحتكام إلى قواعد لعبة ما قد تكون ديمقراطية فعلاً وقد تكون فوضى عارمة تجعل من المرحلة السابقة على الديمقراطية الحل المناسب للجميع! فهل سيجتاز العرب مخاض الآلام الديمقراطي ويصلون الضفة المنشودة أم أنهم سيفضلون العودة إلى ضفة الاستبداد هرباً من الفوضى، تطبيقاً للقاعدة المشهورة: مستبد قوي خير من عادل ضعيف؟!