ولد مولود معمري في قرية تاوريرت ميمون عام 1917، نفس القرية التي رأى فيها المفكر والفيلسوف محمد أركون النور، يقول أركون في إحدى شهاداته “كان الكاتب المعروف مولود معمري قد صوّر بشكل رائع قرية تاوريرت ميمون في روايته الجميلة (الهضبة المنسية) وهي قريته كما قريتي، كانت هذه الرواية تعتبر حدثا بكل ما للكلمة من معنى، كانت أولا حدثا أدبيا نظرا لجمالها الفني ولكن أكثر من ذلك، كانت أهميتها تعود إلى مضمونها. نقول ذلك بخاصة أن مناضلي حركة التحرير الوطني استغلوها لصالح قراءة معينة هي القراءة الإيديولوجية التي تغذي نضالهم السياسي الهادف إلى التحرر من الاستعمار. لا ريب أنها كانت تحتوي على هذا المعنى، لكنها كانت تحتوي على معنى آخر أيضا، معنى يخص التحرير الداخلي الممنوع". هذا التحرير الداخلي الممنوع، هو الذي سيقذف بكاتب وباحث هادئ في مجال الأنثروبولوجيا ومجال الإبداع الأمازيغي يصبح مصدرا لفتيل انتفاضة الهوية الأمازيغية في أفريل 80، بعد أن منع من إلقاء محاضرة في جامعة تيزي وزو والتي سميت اليوم ويا للمفارقة باسمه، تتعلق بكتابه عن الأشعار القبائلية الذي لم يكن مر وقت طويل على صدوره بباريس... يقول الباحث والجامعي المناضل في سبيل القضية الأمازيغية أنه ذات 10 مارس من العام 1980، كان رفقة الروائي مولود معمري على متن سيارة هذا الأخير بيجو 204، وسائق الكراب (CRAPE) أولعيد، وما أن وصلوا ذراع بن خدة، كيلومترات قبل تيزي وزو، حتى تم إيقافهم من قبل الشرطة التي قادتهم مباشرة إلى مقر ولاية تيزي وزو، ويضيف سالم شاكر في شهادته بأنه بقي رفقة السائق أولعيد على متن السيارة، بينما كان الوالي في استقبال الروائي مولود معمري بحيث أفهمه أنه لابد أن يلغي محاضرته التي كان من المفروض أن يلقيها أمام طلبة جامعة تيزي وزو، ولم يكن والي ولاية تيزي وزو آنذاك، سوى أصيل منطقة حميد سيدي السعيد، والذي يقول بدوره إنه لم يكن موجودا بمقر الولاية لأنه كان في لقاء مع مسؤول الحزب الأول آنذاك محمد الصالح يحياوي بالعاصمة وكان من التقى مولود معمري، هو رئيس الديوان.. عندما خرج مولود معمري من اللقاء تم الاتفاق على أن يتجه رفقة سالم شاكر إلى الجامعة ليكون الطلبة على بيّنة من الأمر وفي شهادته يقول والي الولاية تيزي وزو آنذاك حميد سيدي السعيد، أن أحد مسؤولي الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية وهو من الطلبة هو من اتصل بالسلطات المحلية وأخبرهم أن نشطاء الحركة الثقافية الأمازيغية سوف يتظاهرون مباشرة بعد انتهاء مولود معمري من محاضرته حول الشعر القبائلي القديم، وعلى هذا الأساس تم اتخاذ قرار منع مولود معمري من إلقاء محاضرته والذي عاد بعد أن كان الطلبة على علم إلى العاصمة دون حادثة تذكر.. لكن في الغد سرى خبر المنع مثل النار في الهشيم، لتنطلق حركة الربيع الأمازيغي عبر المظاهرات والإضرابات التي اتسعت رقعتها من تيزي وزو إلى بجاية إلى الجزائر العاصمة وهذا بالرغم من حملات الاعتقال التي مست عشرات الطلبة وتلاميذ الثانويات والنشطاء النقابيين والمناضلين الحزبيين.. لم يكن مر على الشاذلي بن جديد في الحكم أكثر من سنة ونصف وكانت أحداث تيزي وزو، الامتحان الأول والأكبر لبداية عهدته.. أعطيت الأوامر للهجوم على الحي الجامعي حسناوة، وعلى الحي الجامعي تيزي وزو، امدوحة وذلك من قبل القوات الخاصة لمكافحة الشغب، ولقد لعب الشاذلي آنذاك ورقة خطيرة وهي جلب قوات الأمن من الشرق والغرب الجزائري وهذا ما أجج روح العنف والانتقام والكراهية، مما روج بعد ذلك أن القبائل قاموا بحرق الراية الوطنية وإخراج رايتهم الصفراء الداعية إلى الانفصال وحرق المصاحف وقد راجت هذه الإشاعة المنظمة من طرف مصالح الشاذلي بن جديد في كل البلاد.. بحيث تم تصوير الطلبة المنتفضين والمطالبين بحق الأمازيغية كثقافة لكن أيضا كحريات للتواجد ضمن المشهد الثقافي والهوياتي الوطني كعملاء ومدعومين من الخارج.. وأساسا نم قبل فرنسا التي لا زالت تحنّ إلى الجزائر كملحقة استعمارية. وبتاريخ 20 مارس 1980، تنشر جريدة المجاهد، لسان حال السلطة مقالا ناريا من إمضاء رئيس تحريرها المقرب من الدائرة الأولى للشاذلي بن جديد، كمال بلقاسم، تحت عنوان “من يعطون الدروس" ويقصد به الكاتب مولود معمري الذي تحول بقلم كمال بلقاسم من ضحية الى جلاد، حيث يقول “في الوقت الذي تقوم القيادة السياسية بالإصغاء إلى الجماهير من حيث التكفل بمشاكلهم وذلك من أجل حلها بشكل شامل وعادل، فإن شعبنا ليس في حاجة إلى أولئك الذين يريدون إعطاءنا دروسا خاصة إذا ما كان هؤلاء لم يمنحوا ولاشيء لا لشعبهم ولا للثورة في الوقت الذي كان منتظر منهم القيام بذلك كدليل على استعدادهم للتضحية وحبهم للوطن.. إن اللغة العربية هي اللغة الوطنية ولقد حان الوقت لأن تسترد مكانتها في جميع القطاعات.. وعلينا أن ندرك أن كل من يريد فرض أي شيء ضد إرادة الشعب، يكون مصيره الفشل".. شعر الكاتب مولود معمري بالاعتداء على ضميره وشرفه ونزاهته الفكرية والسياسية، وحاول أن يرد لكن الجريدة الحكومية رفضت حق الرد، وهذا ما اضطر الكاتب مولود معمري أن ينشر رده على أعمدة صحيفة باريسية لوماتان وذلك بتاريخ 11 أفريل 1980 ويشير معمري في مقاله إلى أن مسؤول الجريدة كمال بلقاسم تناسى أن يقدم لقرائها الاحتجاجات التي قام بها الطلبة في جامعة تيزي وزو إثر منع السلطات الكاتب من تقديم محاضرته، كما نفى الكاتب أن يكون من كتاب جريدة ليكودالجي الكولونيالية، مضيفا أن الشعر القبائلي هو جزء من هذه الثقافة التعددية التي تحدث عنها رئيس التحرير على مستوى الخطاب، لكن كشف العكس على مستوى الممارسة. لقد كان الربيع الأمازيغي بمثابة التحدي الكبير لسلطة الشاذلي بن جديد والذي برغم المناورات من أجل احتواء الاحتجاج الأمازيغي كشفت عن وجه متسلط، ديكتاتوري وعنفي، لقد استعمل التعذيب ضد الطلبة في محافظات الشرطة وفي ثكنات الاستخبارات العسكرية. كما وُظفت صحافة الحكومة والحزب الواحد بشكل سيء لتوجيه تهم باطلة لهؤلاء الناشطين الذين طرحوا مسألة الثقافة الأمازيغية والتعددية الثقافية والسياسية ومسألة الحريات وحقوق الإنسان.. لقد تعثرت ليبرالية الشاذلي في أول جولة لها أمام التحدي الأمازيغي، وقدم عدد من الناشطين وعددهم 24 إلى محكمة المدية وهي محكمة أمن الدولة وبالرغم من تراجع حكومة الشاذلي بن جديد، وإطلاق سراح المعتقلين بعد امتداد واستمرار الاحتجاجات الشعبية بمنطقة القبائل، لكن أيضا ارتفاع الأصوات بالخارج المطالبة عبر الصحف الكبرى مثل لوموند، وليبراسيون بإطلاق سراح المعتقلين إلا أن حكم الشاذلي لم يكشف عن نيته في إحداث قطيعة مع الممارسات السابقة تجاه منطقة القبائل، وهذا خلال فترة أحمد بن بلة الذي أطلق صيحته الشهيرة بأننا عرب عرب، عرب والقمع الذي سلط على منطقة القبائل منذ أن رفع حزب آيت أحمد السلاح، وهذا ما جعل الكولونيل هواري بومدين يبقى لوقت طويل مرتابا من منطقة القبائل إلى أن زارها عام 1967. إن الورقة الأساسية التي وظفها الشاذلي بن جديد لوأد الربيع الأمازيغي هي ورقة التعريب أو ما كان يسمى في ذلك الحين بجماعة صوت التعريب؟؟. نحن في سبتمبر 1979 تمكن مجموعة من الطلبة وهم خليط من الأفافاس والمجموعة الشيوعية الثورية كانت تشكل أحد روافد الحركة الثقافية البربرية بالحي الجامعي ببن عكنون بالعاصمة أعلنوا إضرابا وتمردا على إدارة مطعم الحي الجامعي ببن عكنون واستولوا على إدارة المطعم وهذا ما جعل هذه الحركة تتوافق مع النوى المستقلة داخل المراكز والأحياء الجامعية، ومن بين هذه الوجوه الناشطة يمكن ذكر مصطفى باشا وصالح بوكريف وقاضي احسان، لكن سرعان ما سعت وزارة الداخلية التي كان على رأسها بوعلام بن حمودة والرجل الفولاذي والقوي على رأس جهاز الشرطة الهادي لخذيري وذلك بالتعاون مع وزير التعليم والبحث العلمي آنذاك عبد الحق برارحي إلى استعمال صوت مضاد تمثل في مجموعة صوت التعريب التي كانت لديها ميولات قريبة من حزب البعث العراقي ومن القذافي ومن القوميين الناصريين العرب، وعلى الصعيد الإيديولوجي والثقافي كان النواة الصلبة لهذا التيار محافظة وأقرب إلى اليمين.. واشتغلت هذه المجموعة مباشرة بالتعاون مع وزير الداخلية آنذاك بوعلام بن حمودة وعبد القادر حجار، الذي كان مسؤولا عن مكتب التعريب بوزارة الداخلية ومع الكوادر القيادية في حزب جبهة التحرير الوطني وتمثلت خطتها الأساسية كرد على مجموعة ابن عكنون وتيارها الثقافي الأمازيغي بإضراب شامل وغير محدود في الجامعة وذلك من أجل التطبيق الفوري للعربية في الإدارة.. وبالفعل راحت رقعة الأحزاب تتسع برعاية الداخلية في كل المعاهد الجامعية بالعاصمة، بحيث توقف الطلبة في معهد بن عكنون ومعهد العلوم السياسية ومعهد العلوم الاجتماعية ومعهد الفلسفة وعلم النفس لتنتقل شرارة الإضراب إلى جامعة السانية بوهران وإلى قسنطينة ولقد تشكلت هيئة وطنية تنسيقية للإضراب ومن بين الوجوه التي كانت على رأس هذه الحركة، يمكن ذكر محمد خيراني والصادق بخوش ومختار مزراق ومنصور بلرنب وعبد الرزاق صاغور وخليفة بوراس وباديس قدادرة ونور الدين نموشي، وكان لهذه النواة إيديولوجيتها من بينهم عبد الله شريط وعثمان سعدي وأحمد نعمان ولقد أطلقت سلطة الشاذلي بن جديد يد ما كان يطلق عليهم بالبعثيين في المراكز والأحياء الجامعية، بحيث شكلوا كتائب مسلحة بالسلاح الأبيض خاصة في الحي الجامعي ببن عكنون وكانت هذه الكتائب تقوم بمحاكمة العناصر المنتمية للحركة الثقافية البربرية والمتعاطفة معها وكانت تسمى محاكمتها بالمحاكمات الشعبية على أساس أن هذه العناصر معادية لعروبة الجزائر وللغة العربية وللإسلام.. وكل ذلك كان يتم برعاية ومرأى مسؤولي حزب جبهة التحرير الوطني ورجال المدير العام لجهاز البوليس الهادي لخذيري وبعد أن يتم جلد هؤلاء “الخونة" في نظر جماعة صوت التعريب كانوا يسلمون إلى رجال الشرطة السريين الذين ينتمون إلى جهاز الهادي لخذيري.. وهذا ما أدى بالكثير من الطلبة القبايل إلى الهروب من الحي الجامعي ببن عكنون الذي سيطر عليه البعثيون إلى الحي الجامعي بالعناصر... كان ذلك من العام 1980 إلى غاية العام 1981، ولقد وظف الطلبة المنضوون تحت راية البعثيين في مظاهرة مضادة داخل أسوار الجامعة المركزية لإجهاض تظاهرة أنصار الحركة الثقافية الأمازيغية، ومناداة هؤلاء الشاذلي بن جديد ألا يعفو عن هؤلاء “الخونة" وطالبوا الرئيس الشاذلي بن جديد بتنفيذ حكم الإعدام.. هكذا سعى الشاذلي بن جديد إلى أن يخلق قوة مضادة لحركة الربيع الأمازيغي، وامتطت هذه القوة المضادة حصان الدفاع عن الوطن، وعن العروبة والإسلام.. وهذا ما فتح الجسور بين هذا التيار العروبي المحافظ وبين التيار الإسلامي الذي سيتعاظم تأثيره داخل المراكز الجامعية ليتحول إلى قوة جارفة في الأحياء الشعبية وفي مراكز المدن الكبرى.. قام نظام الشاذلي بلعبة مزدوجة من أجل تطويق حرب الهوية التي اندلعت في جامعة تيزي وزو في بداية الأمر، تمثلت من جهة في غض النظر لنشطاء الحركة الثقافية القيام بلقائهم التاريخي في قرية ياكوران بمنطقة القبائل للخروج بأرضية تكفيرية في المسألة الثقافية الأمازيغية لكن من جهة ثانية طرحت السلطة تصورا حول المسألة الثقافية ضمن أطر جبهة التحرير الوطني ووفق التوجيهات العامة للميثاق الوطني الذي أسقط ورقة الأمازيغية في نصه الأساسي.. وقد بدا أن الشاذلي عمل على تمييع القضية التي كانت أساسا تطرح مسألة الحريات والتعددية والديمقراطية، ومسألة تنوع مكونات الهوية الوطنية.. فشجع كتائب صوت التعريب على القيام بنشاطات تطوعية، تهدف إلى تعريب الوثائق بالإدارات المركزية المحلية، وهكذا حازت كوادر هذه الحركة على مواقع نفوذ في منطقة القبائل أساسا من خلال حصولها على مناصب عليا داخل الولاية أو داخل جهاز الحزب.. ولقد استمرت هذه الخطة إلى ما بعد فترة الشاذلي بن جديد، ثم سرعان ما تواصلت خطة الشاذلي بن جديد في إفراغ الحركة الثقافية البربرية من كل مضمون ثوري، خاصة بعد الفترة التي قضاها عدد من نشطائها في السجون في محاكمات 1985.. لقد انقسمت الحركة على نفسها داخل السجون.. وما إن وجدت الجزائر نفسها في أحداث أكتوبر 88 في مفترق الطرق، حتى تمكنت أجهزة الشاذلي الأمنية والدوائر المقربة منه في تلك الفترة من مقايضة زعماء الحركة أو بعضهم لتأسيس حزب سياسي يكون بديلا عن الحركة الثقافية البربرية كقوة رمزية معبئة وفي الوقت ذاته بديلا عن حزب جبهة القوى الإشتراكية وعن أيت أحمد كرمز تاريخي نفسه.. وهكذا قبل الدكتور سعيد سعدي الذي كان يحظى في تلك الفترة بصدقية كبيرة هذا الدور، وتم التفاوض مع الرجل المقرب من الشاذلي الجنرال العربي بلخير، ووزير الداخلية أبو بكر بلقايد.. وكان ميلاد حزب سعيد سعدي التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، بداية نهاية المغامرة للحركة الثقافية البربرية وبداية النهاية لمنطقة القبائل باعتبارها القلعة التاريخية والرمزية للإحتجاجات والحريات.. لقد تمكن الشاذلي بن جديد من ضرب الحركة الثقافية الأمازيغية على رجليها ليجدها بوتفليقة سنوات من بعد.. منهكة ومستعدة على أن يركبها من يعطيها بعض الفتات وهذا ما حدث عندما أعلنت جزائر بوتفليقة اعترافها باللغة الأمازيغية كلغة وطنية... تطالعون في الحلقة الرابعة أصوات الاحتجاج..