بات الحديث عن ظاهرة التجاوزات المسجلة في إعداد قوائم المترشحين للانتخابات المحلية الولائية والبلدية المقرر إجراؤها في ال 29 من نوفمبر القادم بالجزائر محل جدل لدى العديد من الأوساط، إذ تطرح أسئلة ملحة عن انعكاسات هذه الظاهرة سلبيا في المستقبل على الممارسة الحزبية والحياة السياسية ككل في الجزائر، وكذا الإفرازات التي يمكن أن تتسبب فيها على مسألة اختيار رجالات ونساء لقيادة البلد خلال المرحلة القادمة في جميع الميادين وتأثيرات ذلك على مسارات التنمية الشاملة وعلى التحول الديمقراطي وعلى السلوكات الاجتماعية للمواطن وعلى رجل السياسة، حيث أصبح همّ البعض هو الوصول إلى هذا المنصب الانتخابي أو ذاك بأية وسيلة خصوصا عبر التآمر على خيرة الرجال والنساء الذين عركتهم التجارب وخاضوا في جميع المجالات وجلب أناس بواسطة المال الفاسد دون مراعاة أدنى المقاييس لا في الماضي النضالي ولا في التجربة والكفاءة ولا في مراعاة الأخلاق التي تشكل عنصرا أساسيا لجلب الناخب وعدم إحجامه عن العزوف، وهي ظاهرة باتت في توسع وازدياد، بل إنها تحوّلت إلى مصدر قلق للساهرين على العمليات الانتخابية، لكون أن العزوف يمس بمصداقية الانتخاب كيفما كان شكله.. وبرزت مجموعة من الملاحظات تتلخص في أن هناك تذمرا كبيرا يسود العديد من المواطنين في مختلف الولايات من جراء عدم مراعاة أبسط شروح الترشيح وخاصة بشأن عدد من الأسماء المقترحة للترشح، وكذا بعض التصرفات اللاأخلاقية التي رافقت العملية سواء من قبل بعض المترشحين أو من طرف المقصين معا. في نهاية عام 1982 عقد الصحفيون الجزائريون مؤتمرهم الثالث وانتخبوا قيادة جديدة. كان الحديث وقتها ساخنا بشأن الانعكاسات السلبية لتطبيقات المادة 120 من القانون الأساسي لجبهة التحرير الوطني على رجالات ونساء الصحافة الذين رفض بعضهم أن تكون المسؤوليات في الإتحاد تقتصر على المناضلين الجبهويين فقط . وفي أعقاب اختتام ذلك المؤتمر الذي ترأست شخصيا جلساته ذات النقاش الحاد والساخن خرج الإتحاد بقيادة شبانية في معظمها، ولا أجد حرجا إن قلت الآن إن بعض من أصبحوا أعضاء في أمانة الإتحاد حينها لم يكونوا أهلا لذلك، وتم إقصاء الجيل المخضرم والقديم من قيادة الإتحاد نتيجة الصندوق. وكان من بين الذين خرجوا من أمانة الإتحاد حراث بن جدو الصحفي بالتلفزيون وقتها الذي كان ساخطا على نتيجة الانتخاب وربما أيضا على قيادة الحزب التي تكون قد ساهمت بشكل أو بآخر على التجديد الكلي للإتحاد. وبعد فترة وجيزة أنصفت الدولة الزميل حراث، إذ تم تعيينه مديرا للتلفزيون، فجاءنا إلى مقر الإتحاد وكنا في جلسة عمل حيث راح يتحدث معنا وكأنه يستفزنا بروحه الخفيفة قائلا: “يا الشباب: لتسقط انتخب يُنتخب ولتحي عَين يُعين ?!!". وكانت كلماته تلك تحمل رسالة تعبر عن عدم رضاه على عمليات الترشيح والانتخاب التي كثيرا ما تخذل أسماء كبيرة، وقد تأتي بمن لم يكن يستحق هذه الثقة أو تلك، وكانت الرسالة الثانية أنه إذا خذله الصندوق، فإن التعيين من قبل مؤسسات الدولة لم يخذله، ذلك أن التعيين له شروطه ومقاييسه التي تسهر عليها مختلف مؤسسات الدولة ورجالاتها التي من المفترض أن تراعي الدقة في اختيار الأنسب لهذا المنصب أو ذاك، وألا يقع اختيارها على أشخاص متربصين أو فاشلين في دراستهم مثلما لاحظنا ذلك في فترات سابقة وفي مهنتهم وحتى في حياتهم العائلية، وقد يكون بعضهم مشكوكا في مداركه العقلية مثلما راحت بعض وسائل الإعلام في إحدى الدول العربية المشرقية تشكك في الحالة الصحية والعقلية لأحد الرؤساء العرب الذين جلبهم الربيع العربي المستورد. في ذلك المؤتمر ظن أقطاب التيار اليساري أنهم سيكتسحون قيادة الإتحاد، لكن نتائج الصندوق كانت عكس توقعاتهم، فقد فشلوا فشلا ذريعا أثناء تحكيم الصندوق ولم يتمكنوا من تمرير أي عضو لا في اللجنة المديرة ولا في الأمانة التنفيذية للإتحاد بالرغم من قوة تأثيرهم في قطاعات الإعلام والثقافة والتربية ونقابات البريد والموانئ، وكذا في بعض المؤسسات الاقتصادية في تلك الفترة. جرت فعاليات ذلك المؤتمر في القاعة الكبرى لقصر الأمم بنادي الصنوبر قبالة البحر الأبيض المتوسط ووسط فيلات كانت تخصص في تلك الفترة في أغلبها لضيوف الجزائر. وكان من أشهر المؤتمرات التي وقعت بتلك القاعة مؤتمر القمة الرابع لحركة عدم الانحياز الذي جرى برئاسة الرئيس الراحل هواري بومدين في الأسبوع الأول من سبتمبر عام 1973 بحضور متميز لعدد من قادة حركة عدم الانحياز من بينهم الزعيم الكوبي فيدال كاسترو والأمير نوردوم سيهانوك المطاح به آنذاك من طرف الخمير الحمر في كمبوديا الذي كان يجوب العالم للحصول على دعم دولي لاسترجاع إمارته الضائعة، والزعيم اليوغسلافي الراحل بروز تيتو والعقيد الليبي المغتال معمر القذافي... وغيرهم من قادة حركة عدم الانحياز. ما أردت قوله بعد هذا القوس، أنه إذا وقع انحراف في الحياة الحزبية والسياسية من خلال حسابات السياسة واقتراحات الأحزاب وإفرازات الصندوق لأسماء قد لا تستحق حتى حق الترشيح لملء الفراغ بها أو لتوضع في ذيل قائمة هذا الحزب أو ذاك فإن مسألة المعايير في التعيين في أي منصب من مناصب الدولة داخل البلد وخارجه لا يجب أن تشوبها شائبة في معرفة الرجال والنساء، خاصة أن الحديث كان يدور همسا وعلنا عن تجارب سابقة جلبت مسؤولين تولوا مناصب هامة في شتى القطاعات، حيث كانت الأحاديث المشككة في كفاءتهم قد جاءت من طرف بعض الكفاءات النزيهة العاملة معهم، وكانت عملية تعيينهم قد وصلت إلى حد الطعن في قدرتهم على التسيير ومحل تساؤلات كبيرة سواء تعلق الأمر بتجربتهم حيث لم يكن لبعضهم سابق معرفة بالقطاع الذي تولوه أو بكفاءتهم ومستواهم أو حتى بطريقة تسييرهم لمختلف القطاعات التي سيروها، ولا أريد أن أضيف شيئا لما أعرفه في هذا المجال حتى لا أدخل تحت طائلة القانون أو بدعوى القذف. ثم إن الدولة بإمكانياتها الضخمة تمتلك إمكانيات هائلة للتقييم، كما أنها تحوز مؤسسات قادرة على أن تذهب للعمق في التحري والبحث والتدقيق في مختلف الملفات، وأن تميز بين ما يصلها من معلومات قد تحمل طابع الانتقام والتقييم اللاموضوعي المبني على حسابات شخصية أو حسابات تصب في مصلحة أشخاص بعينهم، وبين معلومات دقيقة تخضع للمهنية حتى لا تخطئ في حق الرجالات والنساء الذين تمسهم عملية التقييم هذه. إن مسألة تقييم الرجالات والنساء هي من أصعب المسائل وأعقدها، فقد يظلم هؤلاء أو أولئك إطارا ساميا كفؤا لمجرد وشاية كاذبة حتى يُرغم على الاستقالة أو الإقالة والتهميش، وقد يعلي بعضهم شأن شخص تافه لا يحسن إلا فنيات القوادة والتزلف فيصبح صاحب شأن عظيم عبر المنصب وليس عبر شخصه التافه. ولذلك فإذا سقطت مقاييس التعيينات في التشخيص وفي التقييم السطحي وفي الولاءات للأشخاص مهما كان موقعهم، وإذا سقطت معايير التعيين في تفضيل عامل الثقة العمياء على الكفاءة والخبرة والنزاهة، فإن طرق التعيين ستأتي دون شك عرجاء، إذ قد تجلب رجالات ونساء عديمي الكفاءة وانتهازيين لا هم لهم إلا مصالحهم الخاصة بهدف الوصول إلى مناصب عليا تتعلق بمصائر الناس وتسيير الشأن العام ومال الأمة. وعندها تكون الكثير من الرهانات على الأشخاص مغلوطة من أساسها، فقد يكون من هو معك اليوم مجاهرا بالولاء لك وأنت في هرم أية مسؤولية من المنقلبين عليك إن لم يجد مصلحته فيك الخاصة غدا، أما الذي قد يعارضك في رأي أو فكرة ومن أجل موقف مبدئي اليوم فقد يكون غدا أشد الناس شراسة في الدفاع عنك سواء كنت في القمة أو كنت في السطح. من المتعارف عليه في مختلف الدول الديمقراطية أن الأحزاب السياسية ذات التجارب الكبيرة في السياسة، وكذا الجامعات العريقة تشكل المشتلة الحقيقية التي تزود مختلف مؤسسات الدول بخيرة الكفاءات، إذ تدفع ببعض الشخصيات والزعامات الفردية المتميزة للبروز، وكذا التمكين للأحزاب من التجذر الشعبي ومن ثمة الوصول إلى الحكم كي تسهر لاحقا على خدمة الدولة والإعداد للبرامج المستقبلية وفق عمليات استشراف علمي في شتى المجالات. ولكن الغريب في الأمر أن العديد من الأحزاب في الدول المتخلفة والمنغلقة التي تعم فيها الرشوة والفساد وتسود فيها الولاءات صارت مزرعة حقيقية، إن لم أقل مرتعا للرداءة والتآمر على الكفاءات التي إن مُكِّنت من شيء فقد تصبح مجرد مكلفة بإعداد تقارير الأحزاب، أما المسؤوليات فهي حكر على أناس يكادون يكونون منعدمي التكوين العالي أو المتخصص، بل إن تخصصهم المميز هو “الفكر التآمري" بكل ما يتميز به من خسة و دناءة و حيل للتموقع المغشوش. فإذا كانت الجامعة تعمد على التكوين الجيد للفرد والمجتمع، وقد تكون عاملا مساعدا في إبراز زعماء متميزين، فإن المفترض أن الأحزاب هي المدرسة المؤسسة والمشكلة للدفع بمناضليها البارزين لتبوء أعلى المراتب التي عادة ما تنتهي بتولي الأمانات العامة أو رئاسة هذا الحزب أو ذاك، ثم يدفع بالكفاءات للترشح لرئاسة الدولة أو الحكومة أو لمختلف الوزارات والمؤسسات الهامة الوطنية والدولية. وإنه إذا كان حال السياسة ومختلف الأحزاب الناشطة في الجزائر يظهر بجلاء بؤس السياسة عندنا، فهل يمكن القول إن الأحزاب السياسية عقمت على صنع رجالات من طراز جيل الحركة الوطنية ثم جيل ثورة أول نوفمبر العظيمة الذي بدأ في الزوال ليخلفه جيل باحث عن السلطة والثروة معا. وإذا كان هناك من يزايد على جيل الثورة بأنه إن لم يحقق شيئا للبلد فيكفيه فخرا أنه حقق الانتصار على المستعمر واستعاد الاستقلال الوطني وساهم في بناء الدولة الوطنية التي يعمل اليوم جيل لاكوست وتوابعه على تفكيك أسسها بكل الدسائس والمؤامرات والحيل. ولذلك، فإن أخوف ما أخافه اليوم وأنا أتأمل في وجوه عدد من المسؤولين الذين قذفت بهم الأقدار والولاءات أن تنحدر معايير التعيين في مختلف مؤسسات وأجهزة الدولة إلى نفس الحسابات والرهانات التي باتت تطبع حال السياسة البائس اليوم في الترشح والانتخاب من طرف بعض الأحزاب الناشطة في الساحة الوطنية التي أرغمت كثيرا من الكفاءات، وهي في قمة العطاء إلى التقاعد المبكر والإقصاء، حيث بات بعض الشبان المراهقين الحاملين لدكتوراه مزيفة يجاهرون أمام الناس بأنهم هم من حركوا مواطني هذه الجهة أو تلك وليركبوا بذلك موجة ربيعهم الفاسد، حيث أصبحوا مستشاري من ظنوا أنهم وصلوا سدرة المنتهى، وقد يكون هذا مقدمة لظاهرة نجد معها أن من يُعَين أو يرشَح لهذا المنصب أو ذاك هم اللاهثون الدائمون وراء المناصب، انتخابية كانت أو عن طريق التعيين وجلهم من أصحاب الرداءة والمؤامرة والمال الفاسد. كما أن من شأن ذلك أن يشكل خطرا كبيرا على تماسك وقوة وديمومة الدولة، مثلما كان الانحراف المسجل في حسابات قادة بعض الأحزاب خطرا على السياسة التي لم تعد للأسف سياسة في كثير من الأحزاب بعد أن شوهها الانتهازيون والمال الفاسد والاختيار السيئ في ترشيح أناس بات همّهم الوحيد هو الترشح والترشيح كوسيلة لاحقة للارتشاء والكسب السريع عن طريق الكرسي ولا شيء غير ذلك.