يعد ماريو بنيدتي، المولود سنة 1922 والمتوفى في مايو ,2009 أكثر الروائيين والشعراء الأوروجوانين تنويعا لأساليب الكتابة، فهو يلقب ب ''أبي الموضات''، رغم أنه ينكر هذا الوصف· من أشهر مؤلفاته، رائعة ''الهدنة''، ''اندامايوس''، ''عيد ميلاد''·· نفي إلى خارج الوطن لعدة أعوام، بسبب مواقفه من النظام الديكتاتوري، ولم يعد إلى بلده، إلا بعدما كُرِّس بها النظام الديمقراطي· أريد أن أتحدث عما يروج بخصوص قلة قراء شعرك، غير أنني لاحظت أن هناك العديد من القراء الذين يهتمون بإنتاجك؟ أكثر الكتابات التي لفتت انتباه القراء هي أشعاري، خاصة بالمكسيك، لقد قرأت هناك، أمام أكثر من ثلاثة آلاف شخص، ذهلت عندما لاحظت الإهتمام البالغ بما أقرأ، قبل حتى أن تتحول كلماتي إلى أغنيات، أعتقد أن تذوق الشعر بالمكسيك، متأصل ضارب بجذوره أكثر من أي منطقة في أمريكا اللاتينية، لهذا أسأل نفسي، هل كان الشعر أحد التقاليد الراسخة في أمريكا اللاتينية قبل اكتشافها· هل الثقافات التي كانت موجودة قبل اكتشاف القارة، كلها، لها علاقة وطيدة بالشعر؟ بكل تأكيد، غير أنني أقول أن شعرك يمتاز بميزة خاصة: البساطة والصدق، لا أعني بالبساطة، هاهنا، بمفهومنا السلبي· - أنا مهووس بالوضوح، لا أتضايق إذا ما وصفوا شعري بالبساطة، ما لفتت انتباهي بالمكسيك هو ذلك التجاذب الشديد، ليس مع شعري فحسب، بل حتى مع رواياتي، من قبل القراء، غير أن الصحافة والنُقاد انتقدوني كما لم ينتقدوا لاتينو أمريكي آخر· إلى ماذا توعز هجوم الصحافة عليك، بهذا الشكل الكبير؟ لا أدري، ربما بسبب مواقفي السياسية· من المؤسف أن ينتقدوني دون أدلة، بل راحو يقولون أن شعري لا يؤدي أي غرض، لم يعد صالحا، صدر لي أكثر من خمسين كتابا، لم أتطرق إلى المجال السياسي، سوى من خلال خمسة أو ستة أعمال فقط، أما الباقي فكله أدب محظ، رغم أن الطرح الاجتماعي موجود في جل الأعمال، هناك، طبعا، نزعة عندنا تهدف إلي إلصاق تهم كاتب سياسي بالكُتاب الملتزمين، بغية إقصائه طبعا، أما فيما يخصني، فإنني مهتم جدا بوجهة نظر القراء في المكسيك، الذين، ربما، لم يقرأوا ما جاء في الصحافة من آراء متضاربة أو أعملوا عقولهم لوحدهم· تربطني علاقات وطيدة بالكثير من المكسيكيين، وهذا لا يعني أنه ليس لي أعداء، أعتبر الأصدقاء والأعداد كالزاد الذي أحمله معي، أُبقي على الأصدقاء وأطرح الأعداء جانبا· هناك سؤال طرح عليك منذ 12 عاما، غير أنني أراه جديرا بالطرح مرة ثانية، كيف كانت عودة ماريو بنيدتي إلى الأورغواي؟ رجعت إلى بلدي، بعد أن عشت المنفى في العديد من بلدان العالم، في البداية، أقمت بالأرجنتين، ثم البيرو، فكوبا، وأخيرا، إستقريت بإسبانيا حيث مكثت، هناك، عشرة أعوام كاملة، كانت العودة، تجربة صعبة ومؤثرة، عدت سنة ,1985 كما هو شأن كل من جرب المنفى، حاولت أن أمنح بلدي ما أملكه في المنفى، تعلمت الكثير في المنفى، تعلمت من العلماء والمفكرين، تركيزهم وتخطيطهم للعودة حتى بعد مرور عدة أعوام، غير أني أقول أن إعادة الإندماج كانت صعبة كما هو الشأن بالأرجنتين لأن في كلا البلدين كان يوجد العديد من الأشخاص المؤهلين كالفنانين والمهنيين وأستاذة الجامعة، عاشوا، كلهم، في المنفى، أعتقد أن هناك تخوف ما من لدن الأشخاص الذين بقوا في البلاد، كان هؤلاء يخافون من أولئك الأكفاء الذين يعتزمون العودة· فيما يتعلق بالجماهير الشعبية، فقد كان استقبالهم لنا مختلفا، كان الفنانون والمطربون يُحْضَون بعطف كبير من قبل الشعب، لقد تأثرنا كثيرا بحب الجماهير لنا، فالمشكل كان بين أصحاب الإتجاه المشترك، أي بين الأساتذة الجامعيين والأساتذة الجامعيين الآخرين الآتين من المنفى، وبين كتاب الداخل والكتاب الذين عاشوا في المنفى، أظن أن هذه المشاكل ستزول مع مرور الوقت، كانت الأورغواري بلدا ديكتاتوريا، وتحول، الآن، إلى جزيرة ثقافية لم يكن أهل الأورغواي على دراية بعالم الكتب أو الغناء أو الفنون، لذا عملنا، نحن بالمهجر، على إدانة هذه الديكتاوترية التي تَحُول بين الشعب وبين الثقافة، بوجه عام، وثقافته بوجه خاص، لقد كنا ندين كل الممارسات كالملاحقات والتعذيب خلال اثني عشر عاما من الديكتاتورية، لم يكن الشعب على دراية بالتطورات الثقافية في العالم، لذا، كنا نقول أن المسؤول الأول عن هذا كله، هو الديكتاتورية، أعترف أن هؤلاء الأشخاص الذين حرموا من القنوات الإعلامية المعتادة لجأوا إلى مصادر سرية، لهذا استقبلوا الأشخاص المنفيين بحفارة شديدة· كيف ينظر ماريو بنيدتي إلى إسبانوأمريكا في نهاية القرن العشرين؟ أراها بأحسن حال، لكن ليس كما نتمنى بشكل عام، صحيح، لقد عاد العسكريون إلى ثكناتهم، غير أنهم لا يزالون يوصلون رسالاتهم مما يحدث في الأرجنتين، والأورغواري لا يختلف كثيرا عما يحدث في الشيلي، فالعسكريون لا يزالون موجودين في الحكم، لقد كان هؤلاء يدعون أنهم يحمون بلداننا من الإعتداءات الخارجية، غير أنهم، في حقيقة الأمر، لم يكونوا يقومون سوى بتعذيب الناس حتى يسمحوا بإدخال كل ما يأتي من الخارج، عندما قدمت أمريكا قروضا لبلداننا لم تكن تهدف إلى نشر الديمقراطية بقدر ما عملت على تقوية إنهاك تلك الأنظمة، كي تعود الديكتاتورية، بعض هؤلاء الحكام قاموا بتحويل الأموال إلى الخارج عوض استثمارها هنا، أتحدث عن بعض البلدان، ولست أقصد بلدي، الذي يستطيع أن يسدد ديونه الخارجية من أموال هؤلاء العسكريين الذين قاموا بتكديسها في البنوك الخارجية·نحن في أحسن حال، في بعض المجالات، مثلا إصدار عفو على هؤلاء العسكريين في الأرجنتين والأورغواي لا يزيد هؤلاء سوى قوة في الأورغواي، مثلا أصبح قانون معاقبة هؤلاء عبارة عن خطبة رنانة، كان يجب أن يجرى إستفتاء كي نسامح أولا، لكن انتصر التصويت الأصفر على الأخضر، والنتيجة المحصل عليها كانت سيئة، لقد حاز التصويت الأخضر على 60% مونتيفيديو، وعلى 43% في باقي البلاد، غير أنني أقول أن العسكريين يعلمون، الآن، أن 800 ألف من بين مليونين (02) لا يقبلون بمسامحتهم، أما الأرجنتينيين فلا يتجرأون على إجراء استفتاء· عودة إلى الأدب، كيف ينظر ماريو بنديتي إلى ''الموضات'' (les modes) الأدبية؟ لأنك أصبحت ''مودة'' من '' المودات'' لدى المكسيكيين، أعتقد أن وجهة النظر هاته، بخصوص أدبك، جاءت على حساب أعمالك؟ لست مسؤولا على هذا، فأنا كاتب لا تهمه المودات، كنت، دائما، أكتب ضد المودات، فعندما تصبح أحد أشكال الكتابة ''موضة'' رائجة، أكتب شيئا مغايرا، لقد مرت أعمالي بعدة محطات وبتمات مختلفة، غير أن هناك خيط يربط فيما بينها، كلها، إذا ما جاور ما أكتب ''الموضة''، فبها ونعمت، أما إذا لم يحدث، فإنني لا أقوم بتغير طريقة كتاباتي أو تماتي، فعندما اكتسح ''البوم'' BooM الساحة الأدبية، إتخذت مسلكا آخرا· وكما كانت تقول دائما، كان بنديتي ''مودة''، وأنا، الآن، أكتب ما يحلو لي أن أكتبه، أفرح كثيرا عندما يقوم القراء بمقارنة أعمالي بأعمال الآخرين، غير أنني لا أجبر نفسي على الكتابة التي تجعلني محل مقارنة بالآخرين رغم أن البعض في المكسيك أصبح يقول أن تألقي أصبح في أزمة، غير أنني لا أغير اتجاهي، فأنا أكتب ما أراه جديرا بالكتابة، فإذا لم يعجب هذا البعض، ليكن ذلك· قد يبدو سؤالي الأخير عبارة عن ''كليشي''، إلا أنني مضطر لطرحه، ماهي مهمة الشاعر؟ مهمة الشاعر هي إتمام موهبته، فكما أن الطيار يحب أن يتعلم فن الطيران إلى غاية أن يصبح موهوبا في هذا المجال، ولاعب البيسبول عليه أن يتعلم تقنيات البيسبول إلى أن يصير لاعبا محترفا موهوبا، فكذلك الشأن بالنسبة للشاعر، يجب عليه أن يتقن فن قرض الشعر إلى أن يصير موهوبا، كتبت الشعر وأنا لا أزال طفلا صغيرا، ولازلت أكتب إلى يومنا هذا، طبعا هناك عوامل أخرى تتدخل في عملية اكتمال الموهبة، إما على نحو جيد أو رديء، فإذا كان الجانب السياسي هو الذي يسير هذه الموهبة، فليس معنى هذا أنني أتعمد إدخال السياسة في الكتابة الشعرية عمدا، لأنني، في نهاية مطاف، لست سوى كاتب، رغم تلك السمات السياسية المميزة لأدبي، أقولها بصراحة، أنا كاتب أولا وأخيرا، لا أستطيع أن أسقط نظاما ديكتاتوريا عن طريق الشعر أو القصة أو المسرح، فهناك أشياء أخرى بإمكانها إسقاط الديكتاتوريات، غير أنني أقول، أن الشعر والقصة و المسرح يجعلون، كاتبا ما، يرى المشاكل بشكل دقيق، سواء أكان هذا المشكل مشكلا شخصيا، إجتماعيا أو سياسيا، فالكاتب المحظوظ هو الذي تجتمع لديه هذه العناصر في كتابته· كنت ذات يوم في ''فوادالاخارا''، إقترب مني أحد الشبان كي أوقع له·· قال لي: ''أريد أن أقول لك أنك كنت سببا في عدم إقبالي على الإنتحار''، أجبته بصدق: ''أنا على وشك أن أنتحر'' يعد مثل هذا الإعتراف، بالنسبة لي شيئا، أفضل من الجوائز التي حصلت عليها· أجرى الحوار فيكتور رونكِيو / ترجمة من الإسبانية: يوسف بوطاروق