كان الوزير الأسبق عبد الرحمان بلعياط يصفق لبلخادم بحرارة منقطعة النظير، حينما نزل الأخير ليضع في الصندوق عبارة “أجدد الثقة في نفسي". كان بلعياط قبل الأمس يجلس خلال انعقاد دورة اللجنة المركزية السادسة بيننا نحن الصحفيين، يحدثنا بتفاؤل كيف سيُلحقون الهزيمة بخصومهم، ولكن ما هي إلا سويعات حتى غيّرت الهزيمة موقعها والتصقت ببلخادم وبلعياط نفسه. لقد حصل ما حذر منه أنصار بلخادم بموافقته على حسم الصراع مع خصومه بالصندوق. اليوم السبت، هو اليوم الثالث الذي يعدُّ فيه عبد العزيز بلخادم من الأمناء العامين السابقين لجبهة التحرير الوطني، بعد دورة لجنة مركزية سادسة شبهها بعض المتتبعين بالأحداث التي عرفتها الجبهة في 2004 حينما انقسمت بين موالين لبن فليس ومناوئين للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، إلا أن الاختلاف هذه المرة كان حول رجل واحد بين متحالفين معه وبين مخاصمين له. تنظيم الدورة كان تنظيم دولة وليس تنظيم حزب لم يكن التنظيم الذي شهدته الدورة الأخيرة للجنة المركزية تنظيما عاديا، بل كان تنظيما يوحي بأن جبهة التحرير الوطني تبقى الوعاء الوحيد والأوحد الذي تستقر أو تتزعزع له كل مؤسسات الدولة وأركانها. لقد كان انتشار أفراد مصالح وأجهزة الأمن على اختلافها، المسألة الأكثر لفتا للنظر بفندق الرياض، إذ لم يكن أي وجود لعلامات الفوضى والانحراف مثلما عرفتها دورة جوان، كما تم تطويق منطقة سيدي فرج برمتها، ولم يُترك أي مجال لأنصار أي جهة من جهتي الصراع، حتى بالاقتراب من محيط الفندق المحتضن للدورة. وكان الصحفيون يستلمون شارات دخولهم من فندق بعيد عن فندق الرياض، (نزل المرسى) في أجواء تنظيمية رفيعة كذلك، وخصصت إدارة الجبهة حافلة كانت تنقل الإعلاميين ذهابا وإيابا من مقر استلام الشارات. وكان قبل دخول أية دفعة من الإعلاميين إلى فندق الرياض، يستوقف حاجز من الدرك الوطني لمراقبة ومطابقة قوائم الإعلاميين المنتدبين لتغطية أشغال الدورة. لقد أظهرت هذه الصرامة حرصا غير مسبوق لمصالح الأمن في توفير أجواء الشفافية والتنظيم المحكم. أعضاء اللجنة المركزية بدورهم كانوا يستلمون شاراتهم عند مدخل فندق الرياض، حيث كانوا يصلون تباعا، مثنى وثلاثا ورباعا، بتشكيلات توحي أن التحالفات وحرب الكواليس كانت حامية. قررت أمانة الإعلام لجبهة التحرير الوطني إدخال أعضاء اللجنة المركزية أولا إلى القاعة، وبعدهم المصورين والتقنيين من مختلف القنوات التلفزيونية والإذاعية والصحف، على أن يلتحق الصحفيون كآخر لمسة في تنظيم أشغال الدورة، لقد استمرت هذه العملية منذ سابعة صباح ذلك الخميس إلى غاية العاشرة والنصف. لم يلج أحد من المعنيين بالدورة سواء من المكلفين بالتغطية أو أعضاء اللجنة المركزية إلا وخضع للمرور عبر “السكانير" للتأكد من أنه لا يحمل شيئا ممنوعا، مما صنع طابورين طويلين، لكنهما سريعين في الحركة. ولم يشهد التحاق أعضاء اللجنة المركزية أي حزازات، بل أكثر من ذلك صنع مناضلو الأفلان صورا رفيعة المستوى في الاحترام المتبادل، إذ كان يسلم بعضهم على الآخر رغم اختلافهم في المواقع بين مناوئ لبلخادم ومناصر له، وقبل ذلك كان الصحفيون يتصيدون تصريحاتهم واحدا تلوى الآخر، خاصة أولئك الذين برزوا بقوة طيلة فترة الأزمة التي مرت بها الأفلان، مثل عبد القادر حجار وعبد الرحمان بلعياط وعبد الرشيد بوكرزارة، وصالح قوجيل وعبد الكريم عبادة.. وتنافس ممثلو وسائل الاعلام في الاستئثار بتصريحاتهم، لتحقيق السبق.. لقد اشتركوا جميعا في التصريح القائل “إنها دورة فاصلة ستُظهر من كان على صواب ومن كان على خطأ".. كان يبدو الجميع مقتنعا بالصندوق ومرتاحا له كإجراء لإخراج جبهة التحرير من أزمة تدوم منذ مارس 2009 تاريخ انعقاد المؤتمر التاسع. ولكن ما عدا الخصوم الواضحين لبلخادم وأنصاره، كان من اللافت عدم رغبة كثير من أعضاء اللجنة المركزية في الافصاح عن المربع الذي سيضعون أمامه العلامة (أجدد الثقة/ لا أجدد الثقة)، في غياب تام للهادي خالدي ومحمد الصغير قارة اللذين لم يبادرا حتى بالقدوم إلى فندق الرياض بعد أن تأكدا بشكل كبير أن الشفافية ستكون الفيصل الوحيد في صراعهما ضد بلخادم. اجتماع بلخادم السري وحرب استبدال المواقع لم يكن معروفا ولا محددا متى ستبدأ أشغال الدورة. لقد وصل بلخادم إلى الرياض على متن سيارة مرسيدس سوداء “مظلمة" بالداخل ولم يكن من المعهود رؤيته على متنها. لقد عرفنا أنه هو بعدما توقف موكبه غير بعيد عن أعين الصحافة، أمام مدخل الشخصيات السامية إلى قاعة المؤتمرات بفندق الرياض. لقد دخل بلخادم في اجتماع سري تسرّب منه أنه يلتقي أعضاء من اللجنة المركزية للتفاوض حول تشكيلة مكتب تسيير الدورة، بالرغم من أن ورقة الطريق كانت محضّرة أبدى المكتب السياسي لجبهة التحرير قبيل انعقاد اللجنة المركزية إرادة صلبة في عدم التراجع عنها، وهي أن تشكيل مكتب الصندوق من محضرين قضائيين وليس أعضاء من اللجنة المركزية. هل حدث أمر لكي يتغير موقف بلخادم؟؟ نتيجة الاجتماع تقول بصحة ذلك.. لقد خرج بلخادم بعد ساعة ونصف من لقائه ثلاثة أعضاء، بينهم السيد مجاهد وبومهدي لكي يقوم بلخادم بإعلان مكتب من أربعة أعضاء اثنان لكل من طرفي الصراع، الطاهر خاوة وأحمد حنوفة ممثلان لأفلان بلخادم، وأحمد شاكر ومصطفى بوعلاق ممثلان للمعارضة. كانت خلال مدة الاجتماع حرب الكواليس على أشدها، إذ حاول كل عضو من اللجنة المركزية حشد ما أمكنه في ربع الساعة الأخير أصواتا لصف خندقه، إذ شهدنا اجتماعات مصغرة يتحدث أصحابها بأصوات خافتة. لم تشهد دورات اللجنة المركزية السابقة أكثر من 12 غيابا، وهي مشاركة قياسية وغير مسبوقة في تاريخ الدورات. وكان عدد المصوتين 318 منهم 12 بالوكالة. داخل القاعة وقبيل البدء، تواصلت التكتلات والاجتماعات المصغرة، إذ تمركز أنصار بلخادم في الصفوف الأمامية، أما خصومه اختاروا المؤخرة، فجلس عمار تو بين المناضلين على الجهة اليمنى وانعزل جمال ولد عباس بين الأماميين ودخل رشيد حراوبية مرفوقا بالطيب لوح واختاروا آخر صف في القاعة ليجلسوا جنبا إلى جنب وجلس حبة العقبي أمين عام رئاسة الجمهورية والوزيران رشيد بن عيسى وعبد القادر مساهل وسط القاعة، بينما بقي عدد من أعضاء اللجنة المركزية بين داخل وخارج من القاعة، إلى غاية الشروع في التصويت في حدود منتصف النهار والنصف حسب رقم كل واحد ورد على شارة أعضاء اللجنة المركزية. لما تقدم بلخادم للتصويت نازلا من المنصة، ظهر للعيان أنه سيسقط. فلم تنهض وتصفق له سوى الصفوف الأربعة أو الخمسة الأولى، بينما بقي الآخرون جالسين من دون تصفيق، إلا أن هذا المشهد اعتبره بعض أعضاء اللجنة المركزية حينها أنه ليس مشهدا مرجعيا لمعرفة ما إذا كان بلخادم سيسقط أم لا “إن الاقتراع السري من أنواع الاقتراعات التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها" يقول أحدهم، ليضيف الوزير الأسبق المحسوب على بلخادم، وهو عبد الرحمان بلعياط “بإمكاني أن أمنح لك أسماءنا واحدا واحدا ومن سيصوت لنا وضدنا. إننا نملك 220 صوت وسنجمعها كلية". قبل ذلك كان وزير البريد وتكنولوجيات الاعلام والاتصال قد صرح ل “الجزائر نيوز" أنه لم يكن يوما ضد عبد العزيز بلخادم وأن توقيعه قد تم استغلاله “بالرغم من أنني وقعت فقط ضد تصرفات بعض النواب المنافية للعمل الحزبي داخل المجلس الشعبي الوطني" ما يعني أن بن حمادي ينفي أن يكون من مجموعة وزراء الأفلان الثمانية المعلنين لتمردهم عن بلخادم، أما رشيد بن عيسى وعبد القادر مساهل اللذان تداولت أسماؤهما، على كونهما على أثر زميلهما بن حمادي، فأكدا ل “الجزائر نيوز" عكس ذلك مصرحين بأنهما وقعا على لائحة الوزراء لسحب الثقة دون أن يتراجعا، وأضاف مصدر آخر بأن بن حمادي كان موقعا لسحب الثقة من بلخادم لكنه تراجع بشكل مفاجئ وغير مفهوم الخلفيات". انتهت عملية التصويت في غضون أربع أو خمس ساعات، وكانت الرابعة عصرا ميقاتا لإعلان النتيجة التاريخية التي عصفت بالأمين العام، بفارق أربعة أصوات عن أصوات المعارضة (160 مقابل 156) دون احتساب صوتين.