- تجربة المنفى في عهد بومدين كانت عصيبة على حياة أسرتنا الصغيرة - ترجم غضبه من النظام بالكتابة والدراسة نُقل المجاهد أحمد مهساس، ظهيرة البارحة، من بيته بنادي الصنوبر إلى مثواه الأخير بمقبرة العالية، سار إليها أفراد عائلته وبعض المجاهدين وأصدقائه أيضا. في بيت المرحوم “عمي علي" جلست “الجزائر نيوز" معزية أهل الفقيد، وتحدثت إلى ابنته “ياسمين" التي قالت إن والدها ظل لآخر دقيقة مستقيما وحازما، وأنها تشعر بالراحة لأنه توفي دون ألم، وسلم روحه لله وهو نائم قرير العين. كان جثمان أحمد مهساس، مسجى بغرفة استقبال بيته الهادئ بإقامة الدولة، مغطى بالراية الوطنية. تزاحم المعزون رجالا ونساء، أغلبهم من عائلة مهساس الكبيرة، التي وجدت في هذه المناسبة الأليمة، فرصة للالتقاء والحديث عن محاسن “عمي أحمد" كما كانوا ينادونه. كان الرجل بالنسبة لهم متواضعا لدرجة أنهم لم يشعروا يوما بتقلده لمناصب حساسة في الدولة الجزائرية، ولا لكونه من كبار المسؤولين الثوريين. كل الأعين إذن أدمعت لوداع هذا المجاهد والمثقف والمفكر والمناضل والسياسي. كانت الساعة الحادية عشرة والنصف، ووفود المعزين تصل تباعا إلى المنزل البحري، عند الباب وجدنا “بن يوسف" الشاب الوفي الذي رافق علي مهساس طيلة حياته، متكفلا بتنقلاته بين المحاضرات واللقاءات، وإلى آخر دقيقة التزم بن يوسف شهامة وكرم الجزائري، وأكد لنا أنه لن يترك أرملة مهساس ولا ابنته. إلا أننا لم نشاهد وجوها رسمية في المحفل الجنائزي، لولا مكالمة الرئيس الأسبق اليمين زروال لبن يوسف يعزي العائلة، وتأكيدات بروتوكولية من رئاسة الحكومة، تقول إن الوزراء سيحضرون مباشرة إلى العالية. لم يبق على موعد حمل الجثمان إلا نصف ساعة، قضيناها نتمعن في بعض الكتب المتراصة على مكتبة سي مهساس، عناوين متنوعة أغلبها باللغة الفرنسية، منها: “المعجم الدستوري"، رحلة ابن بطوطة، 1984 لجورج اورويل، جبهة التحرير الوطني وثائق وتاريخ، إضافة إلى كتاب عن البيروقراطية الإدارية. هي بعض ما كان يغذي به الراحل فكره ومعارفه. ياسمين: توفي مكرما وعالج غضبه من النظام بالكتابة لم تذرف الكثير من الدموع، رغم ملامح التعب والحزن عليها، ابنته الوحيدة وقفت تستقبل كل وافد إليها، وبدل البكاء كانت تبتسم لنا، وتقول “أنتم أيضا عرفتم والدي كثيرا، وكنتم قريبون منه". وأكدت نجلة الفقيد ل “الجزائر نيوز" قائلة: “أنا مرتاحة حيال الطريقة التي رحل بها أبي، لم يتألم كثيرا، يومين على الأكثر من الغيبوبة، ثم رحل وهو نائم بهدوء كعادته لا يحدث الضوضاء حوله"، وتضيف: “أعتقد أن هذه الطريقة من الرحيل يتمناها كل واحد منا، أن نرحل بهدوء ودون معاناة كبيرة، أظن أن والدي استحق هذا الكرم من الله". تعلمت “ياسمين" من والدها الكثير من الأشياء، أولها الإيمان في الغد: “رغم كل الصعوبات التي واجهت أبي، كان دائما يقول إن الأمل في الأجيال الصاعدة، وأن الثورة التي كبرت تدريجيا، لم تكن اختراعا سريعا، بل تكونت مع مرور الوقت وتراكم التجارب الإنسانية، لهذا كان يدعوني إلى قراءة الواقع الجزائري بشكل متفائل"، وهي النبرة التي أفضت عليها “ياسمين" ووالدتها، وهما يتلقيان التعازي. وعن خصاله أضافت نجلة المرحوم: “كان يؤمن بأن الثورة الجزائرية هي نموذج عالمي لجميع الشعوب، وأنها ثورة خاصة لا تشبه غيرها". وتتذكر تفصيلا آخر: “لم يعش والدي حياة مزهرة طول الوقت، بل مارس كل المهن الصغيرة الممكنة ليعيل نفسه وعائلته، بدءا ببيع التبغ وأشياء أخرى، لكنه ظل منفتحا على الغد". تجربة المنفى التي قضاها محساس في فرنسا، بعد خلافه مع هواري بومدين، تقول عنها ياسمين: “كان منفى صعبا، عشنا كأسرة صغيرة من ثلاثة أفراد، وحيدين، كان المعارض الدائم، لكني لم اسمعه يوما يشتم الجزائر أو مسؤوليها، كان يعيش بمثل أعلى هو أن تصبح البلد أفضل مما هي عليه... مع أن منفاه طال أكثر مما كان يتوقع"، أي طيلة حكم بومدين. أشادت ياسمين مهساس بالقدرة الفكرية لوالدها، وقالت إنه في عز المنفى بفرنسا قرر أن يترجم غضبه إلى كتابة: “كان يقول لي إنه سيعبر عن غضبه بالكتابة، وأنه سيتناول موضوع الحركة الثورية بشكل أكاديمي وجامعي، ولهذا قدم رسالة دكتوراه حول الثورة الجزائرية، وكان أستاذه جاك بيرك، وناقشها أمام لجنة مرموقة برئاسة جورج بلوندي وآخرين".