منظمة الصحة العالمية:الوضع في مستشفى كمال عدوان بغزة مأساوي    لبنان يجدد التزامه بالتنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي 1701    اكتشفوا أحدث الابتكارات في عدة مجالات.. اختتام "زيارة التميز التكنولوجي" في الصين لتعزيز مهارات 20 طالبا    المجمع العمومي لإنجاز السكك الحديدية : رفع تحدي إنجاز المشاريع الكبرى في آجالها    الرئيس الاول للمحكمة العليا: الجميع مطالب بالتصدي لكل ما من شأنه الاستهانة بقوانين الجمهورية    انخراط كل الوزارات والهيئات في تنفيذ برنامج تطوير الطاقات المتجددة    مخرجات اجتماع مجلس الوزراء : رئيس الجمهورية يريد تسريع تجسيد الوعود الانتخابية والتكفل بحاجيات المواطن    مستغانم.. فسخ أزيد من 20 عقد امتياز لاستغلال عقار صناعي    الاتحاد الدولي للصحفيين المتضامنين مع الشعب الصحراوي يدين اعتداء الاحتلال المغربي على الصحفي ميارة    دراجات/الاتحاد العربي: الاتحادية الجزائرية تفوز بدرع التفوق 2023    إبراز جهود الجزائر في مكافحة العنف ضد المرأة    بومرداس.. ترحيل 160 عائلة من قاطني الشاليهات إلى سكنات جديدة    المهرجان الثقافي الدولي للكتاب والأدب والشعر بورقلة: تسليط الضوء على أدب الطفل والتحديات الرقمية الراهنة    وفد طبي إيطالي في الجزائر لإجراء عمليات جراحية قلبية معقدة للاطفال    تواصل اجتماعات الدورة ال70 للجمعية البرلمانية لمنظمة حلف شمال الأطلسي بمونتريال    كأس الكونفدرالية الإفريقية: شباب قسنطينة يشد الرحال نحو تونس لمواجهة النادي الصفاقسي    مجلة "رسالة المسجد" تنجح في تحقيق معايير اعتماد معامل التأثير والاستشهادات المرجعية العربي    كرة اليد/بطولة افريقيا للأمم-2024 /سيدات: المنتخب الوطني بكينشاسا لإعادة الاعتبار للكرة النسوية    حرائق الغابات في سنة 2024 تسجل أحد أدنى المستويات منذ الاستقلال    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح السنة القضائية 2024-2025    ملتقى وطني حول التحول الرقمي في منظومة التكوين والبحث في قطاع التعليم العالي يوم ال27 نوفمبر بجامعة الجزائر 3    الدورة الخامسة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي : مشروع "غزة، من المسافة صفر" يفتك ثلاث جوائز    الحفل الاستذكاري لأميرة الطرب العربي : فنانون جزائريون يطربون الجمهور بأجمل ما غنّت وردة الجزائرية    عطاف يستقبل رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية لمجلس الشورى الإيراني    الجَزَائِر العَاشقة لأَرضِ فِلسَطِين المُباركَة    افتتاح الملتقى الدولي الثاني حول استخدام الذكاء الإصطناعي وتجسيد الرقمنة الإدارية بجامعة المسيلة    عين الدفلى: اطلاق حملة تحسيسية حول مخاطر الحمولة الزائدة لمركبات نقل البضائع    الوادي: انتقاء عشرة أعمال للمشاركة في المسابقة الوطنية الجامعية للتنشيط على الركح    "تسيير الارشيف في قطاع الصحة والتحول الرقمي" محور أشغال ملتقى بالجزائر العاصمة    الجامعة العربية تحذر من نوايا الاحتلال الصهيوني توسيع عدوانه في المنطقة    الابتلاء المفاجئ اختبار للصبر    وفاق سطيف يرتقي إلى المركز الخامس    الخضر أبطال إفريقيا    مطالب الرئيس تبون لإنصاف الفلسطينيين تتجسد في الميدان    تعزيز التعاون بين جيشي البلدين    "طوفان الأقصى" ساق الاحتلال إلى المحاكم الدولية    مازة يسجل سادس أهدافه مع هيرتا برلين    وداع تاريخي للراحل رشيد مخلوفي في سانت إيتيان    المنتخب الوطني العسكري يتوَّج بالذهب    ندوات لتقييم التحول الرقمي في قطاع التربية    وكالة جديدة للقرض الشعبي الجزائري بوهران    الجزائر أول قوة اقتصادية في إفريقيا نهاية 2030    بوريل يدعو من بيروت لوقف فوري للإطلاق النار    الرياضة جزء أساسي في علاج المرض    دورات تكوينية للاستفادة من تمويل "نازدا"    باكستان والجزائر تتألقان    تشكيليّو "جمعية الفنون الجميلة" أوّل الضيوف    قافلة الذاكرة تحطّ بولاية البليدة    هلاك شخص ومصابان في حادثي مرور    على درب الحياة بالحلو والمرّ    سقوط طفل من الطابق الرابع لعمارة        قرعة استثنائية للحج    حادث مرور خطير بأولاد عاشور    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين محبة الأدب وموت نجاة
نشر في الجزائر نيوز يوم 13 - 05 - 2013

تزفيتان تودوروف، التقيت به لأول مرة وكانت الأخيرة في عام 2001، كنت بباريس واتجهت إلى معهد العالم العربي لحضور ندوة تكريمية للمقاومة الاثنولوجية جيرمان تيون... وكان من بين مقدمي هذه المرأة التي أفنت حياتها في المقاومة ضد النازية وفي محبتها على طريقتها الخاصة للجزائريات والجزائريين، الكاتب الفيلسوف جان دانيال صديق ألبير كامو وأصيل مدينة البليدة وتودوروف... كان نص أو شهادة هذا الأخير عن جيرمان تيون التي كانت يومها تقترب من سن التسعين دافئا ومميزا وإنسانيا، كانت معرفته نابعة من القلب والوجدان، وهو المشتغل على الشكلانية وعلى فلسفة الأنوار.. كانت في فرنسيته لكنة جميلة وهادئة.. لم أكن قد قرأت له سوى نتف متناثرة وقتها، تمكنت من اختطاف وقت وجيز في محاورتها ذلك المساء.. اكتشفت التواضع في أبلغ شفافيته وجماليته.. وجدتني هذا الأسبوع أتجه إلى نصين، يتعلق الأول بوضعية الأدب عندما يضحى في حالة الخطر أو التهريب أثناء خضوعه إلى سلطة المؤولين المقدسة الذين يجردونه في ظل الهيمنة الإيديولوجية جسدا دونما روح، ويطردون النص الحقيقي من مجاله الحيوي الخصب.. يطرح السؤال المهم عن جدوى الأدب في حياتنا كأفراد بالدرجة الأولى، وكجماعة بالدرجة الثانية. يرى تودوروف أن الأدب يساعدنا على العيش لأنه يفتح أمامنا القدرة على مضاعفة الحياة بمعناها الواسع والرحب والمتعدد، يصبح الواقع مجرد مستوى أولي، بسيط ومحدود. ولكن بفضب الأدب يتحول هذا الواقع إلى أفق مفتوح على تخصيب الحياة التي نعيشها بمستويات أكثر غنى وثراء بكل ما تحمله من آمال وأحلام وكوابيبس وقنوط وتحديات ومغامرات، وبكل ما تمنحه إيانا من تقاسمها مع الآخرين، سواء أكان هؤلاء الآخرون أشخاصا خيالية ومثالية ونموذجية أو أشخاصا يمثلون الهامش والشتات المدمران للمركز ذي البعد النمطي والأحادي.. ويجرني سؤال جدوى الأدب إلى علاقتي الخاصة مع تلك النصوص الأدبية التي فتحت عيني عليها وأنا لا أزال على عتبة الحياة.. أتذكر وأنا لازلت في المتوسط ذلك اللقاء الفاتن بنص “الفضيلة" المعدل على يد مصطفى المنفلوطي، وهو اكتشاف الحب في منزلته المثالية.. كان بمثابة زلزال لوجداني الغض، حب يقودنا إلى الإطلال على خبايا النفس التي لم تدنس بالإحباطات اليومية التي تقبض عليك وأنت تتقدم خطوة فخطوة على طريق الحياة العملية. عندما نلتفت الوراء قد نضحك على أنفسنا وعلى تلك السذاجة التي اعتقدنا أننا تجاوزناها بفعل النضج في الفكر والحياة.. لكن هل فعلا أننا تجاوزناها، وكانت مجرد لحظة غريبة على الواقع أم كانت بمثابة الزاد الروحي الذي قد يحصن ليس النفس وحسب، بل العقل عندما نكتشف أننا تحت إغراءات الأوهام العقلانية الجديدة، أننا تجاوز حقبة الطفولة الطبيعية والفكرية.. كلما غرقنا في مستنقع الحياة بحيث تصبح أيدينا قذرة، كما يقول سارتر، لحظتها لا يوجد إلا مثل هذا الزاد الروحي الكامن في أعماقنا ليمنحنا القدرة على الصمود والتجاوز.. وكان نص الحياة المشتركة لتودوروف هو التكملة الروحية الذي قادتني إليه زيارتي الإرتجالية لوضعية الأدب وحالته الخطيرة، ويتوغل النص في متاهة التقاليد اللاإجتماعية، في الكائن العيش والوجود، وفي استراتيجيات الدفاع الاجتماعي وفي تلك العملية المعقدة للتعايش والإنجاز. ويقول تودوروف متسائلا “إن الإعتراف الذي نطلبه من الآخرين متعدد الأشكال وكلي الوجود، ولكن هل هو السبيل الوحيد الممكن لكي يولد إحساسنا بالوجود؟".
الاعتراف المطلوب، والإحساس بالوجود، يا لهما من معادلة مثيرة ووخازة مثل إبرة دامية، نطلب الاعتراف مقابل الحياة التي نمنحها للآخر، مقابل اللحظة اللذيذة التي تجعل منا ضحية في سبيل سعادة الآخر، الإعتراف من الأقرباء، الإعتراف من الوطن، الإعتراف من أصحاب السلط المادية والرمزية، الإعتراف من الحبيب، من الأبناء، من الزوجة، من الصديقة، من الشريك، من المجتمع، من الإنسانية!. وفي صميم فعل الإعتراف تستمد معني الوجود، وجودنا الخاص، ووجودنا العام، وجودنا الحقيقي، الملموس، المادي، والوجود الوهمي والمفترض.. من ذا الذي يمكن أن يحقق ذلك في المطلق إن لم يكن الأدب أوالإبداع بمعناه المجسد للمخيال الفسيح، المتجاوز كل حد محاصر بجدار المكان والزمان؟!
في قلب هذه اللحظة من التأملات بعثت إلي عن طريق الأساماس الزميلة والروائية سارة حيدر بخبر مؤلم ومحزن عن وفاة مفاجئة لصديقتنا المشتركة نجاة.
لم تكن نجاة من الشخصيات المعروفة في عالم الصحافة والأدب، ولا في عالم الفن أوالسياسة، لم تكن شخصية عمومية بالمعنى السائد والتقليدي، بل امرأة امتطت الإتجاه المعاكس للتقليد المهيمن، امرأة مطلقة في ريعان الشباب المشرف على الكهولة، غادرت مسقط رأسها قادمة إلى الجزائر العاصمة في سبيل تدشين مستقبل يكفل لها الحياة بكرامة، فتدرجت من مجرد نادلة في مطعم أو في مطعم / بار لأن تصبح صاحبة رأس مال، وصاحبة مطعم / بار.. كان ذلك في التسعينيات المحيلة إلى جزائر يعمرها حتى النخاع الخوف والفزع والصخب والعنف والموت، جزائر كما يقال تحت سلطة الإرهاب وفظائع الحرب الأهلية. إختار آنذلك الكثيرون الهروب بجلدهم والإنكفاء على الذات، والإبتعاد عن الأنوار والتدثر بالتستر والصمت اتقاء لموتة فظيعة. أما نجاة فكانت نظرتها أن الحياة التي كثيرا ما قيل عنها أنها تؤخذ غلابا لا يمكن أن يجري الدم في مفاصلها إلا باحتكاكها اليومي والجري مع هدير الموت اليومي.. جازفت نجاة بحياتها الخاصة حتى تنتصر الحياة بمعناه العام والشامل والرمزي على الموت.. ولقد انتصرت نجاة والحياة معها عندما تمكنت أن تصبح مديرة لمطعمها الخاص.. ولقد أصبح يتردد على مطعمها المتنقل لأنها كانت تبحث دائما عن إيجار، المثقفون والكوادر والفنانون وحتى الفئات الأخرى التي توصف من أولاد الشعب.. لم تكن نجاة خريجة جامعة ولا معهد في المناجمنت، لكن تعلمت من حياتها فن التعايش مع السلوكات والذهنيات والثقافات، وكانت مهتمة بالشأن العام وهي تعلق على ما تتناقله الصحف والقنوات.. كانت قارئة جيدة للصحافة ومنصتة جيدة لكل من كانوا يتوافدون على مطعمها.. ماذا لو كانت نجاة تمتلك موهبة الكتابة؟! ماذا لو كانت نجاة تمتلك موهبة في الفن؟! لكن نجاة تمتلك موهبة أكثر من الكتابة وأكثر من الفن، وهي موهبة ممارسة الحياة.. وعندما داهمها السرطان كانت تحتفظ بكل تلك القوة الروحية التي جعلت منها امرأة كلها شجاعة وتحمل وانسحاب في صمت جليل..
منذ أيام كان لي اتصال مع الصديق والكاتب الإعلامي سعيد خطيبي، المقيم في الدوحة، تناقشنا حول تجديد الملحق الثقافي والفكري ل«الجزائر نيوز" (الأثر)، وعن ذكرى اغتيال بختي بن عودة، ولقد أخبرته أننا ننوي عقد ملتقى أول حول صديقنا الراحل في ظروف تراجيدية ذات 22 ماي 1995.. وقال لي إنه اقترح على إدارة تحرير مجلة الدولة إعادة كتابة “رنين الحداثة" إلا أنه إلى حد الساعة لم يتمكن من العثور على نسخة من الكتاب النافذ.. ونصحني السعيد في آخر حديثنا الهاتفي أن أقرأ آخر مؤلفات جيل كيبل “مقاساة عربية"، وهو عبارة عن روبرتاج تمتزج فيه الرحلة مع المعاينة والتحليل للدول التي اجتاحها الربيع العربي، ورواية لمؤلف سعودي يكتب بالفرنسية عنوانها “الحزام".. اتصلت إثر ذلك بصديقي الناقد والمخرج السينمائي سعيد ولد خليفة، وطلبت منه أن يبعث لي بالعملين اللذين أشار إليهما سعيد.. فلم تمر سوى أيام قلائل حتى كان الكتابان بين يديّ.. رحت أتصفح “مقاساة عربية" وعزمت أن أمنحه بعض وقتي للكتابة عنه، لكن شاء القدر أن أتجول بشارع ديدوش مراد، وأن ألج مكتبة “النجمة الذهبية" وهي مختصة ببيع الكتب القديمة بأسعار زهيدة وجد معقولة.. اقتنيت بعض الكتب المتعلقة بالأدب الجزائري من روايات ودراسات قصد إهدائها لصديق فرنسي مهتم بالكتابة الجزائرية الأدبية. أثناء اختياري لبعض العناوين، تفاجأت بعنوان مثير بالفرنسية “ربيع عربي"، وعلى غلافه صورة لامرأة عربية سمراء تضع على رأسها شاش يميل إلى اللون الفاتح، ذات عينين سوداوين مشعتين تعكس سطوع لون الشمس ومحيا يشرق منه لون الرمل المنير.. أخذت الكتاب لتصفحه، فوجدته بتاريخ 1974 بينما كانت أول طبعة لهذا الكتاب في نهاية الخمسينيات.. وبالضبط انتهى المؤلف من كتابة مقدمته في أفريل 1958 أي أربعة أشهر بعد ميلادي..
ورغم الفارق الزمني بين كتاب “ربيع عربي" لمؤلفه بوتوا ميشان، وكتاب الباحث في شأن الإسلام السياسي وشأن العالم العربي، جيل كيبل، إلا أنني وجدت تشابها كبيرا على مستوى الشكل والمقاربة بين العملين.. فكلاهما اختار أن تكون صورة امرأة على الغلاف.. وكلا المرأتين كانتا تضعان على رأسهما ما يستره أو يحجبه، وكلا المرأتين على شفتيهما ابتسامة مشرقة وموحية..
هل كان ذلك مجرد صدفة؟! مجرد ذوق ورؤية بحكم الخلفية الثقافية، وبحكم علاقة كلا المؤلفين وهما فرنسيان مع حاضر ومصير العالم العربي؟! وكلا الكاتبين انتقلا إلى الميدان للكتابة عن قرب عن لحظات من العالم العربي، لحظات تشكل تحولا ومنعطفا ورغبة في الانتقال إلى الأفضل.. ينقل لنا جيل كيبل انطباعاته وآرائه وتجاربه في رحلته التي استغرقت بشكل متقطع الفترة الممتدة من 2011 إلى 2013 إلى إسرائيل، فلسطين، مصر، تونس، ليبيا، عمان، اليمن، قطر، البحرين، العربية السعودية، لبنان، سوريا واسطنبول.. وكذلك يونوا ميشان ينقلنا خلال رحلته التي دامت أربعة أشهر بشكل مستمر وغير متقطع إلى مصر، العربية السعودية، الكويت، لبنان، سوريا، الأردن، العراق وتركيا.. الفاصل الزمني بين الرحلتين إلى نفس المنطقة ومن قبل كاتبين من نفس الجنسية ونفس الثقافة، يتجاوز الخمسين سنة بقليل.. فما الذي تغير في المنطقة على المستوى النوعي؟! بالرغم أنني بدأت في قراءة جيل كيبل، إلا أنني وجدتني مشدودا إلى “ربيع عربي" لبوتوا ميشان، ربما بسبب أسلوبه الشفاف المتدفق والقوي، ربما كذلك لعفويته وقوة ملاحظته وغزارة معلوماته، أو ربما لتلك الألوان المتعددة والفنية التي حفل بها كتابه بالمقارنة مع كتاب جيل كيبل من شخصيات فاعلة التقى بها من أمثال جمال عبد الناصر، الملك حسين، نوري سعيد، والأمير السعودي فيصل الذي سيصبح فيما بعد ملك العربية السعودية، وكذلك من الشخصيات المغمورة التي تعكس نبض الحياة الحقيقي لهذه المجتمعات.. رحلة بونوا ميشان التي توجت بكتابه “ربيع عربي" جاءت بعد زيارته لعدد من الدول العربية عام 1941.. نكتشف في هذا الكتاب عالما عربيا يبحث عن طريقه في الخلاص من الفقر والتخلف في ظل الحرب الباردة، وفي ظل نشأة الإرادات العربية في محاولات التحرر من الهيمنات الغربية، لكن أيضا في ظل الصراع بين الخيارات السياسية التي ستحدد مجرى ومصير العالم العربي الناشىء، وفي ظل الصراع على السلطة الذي اتسم بالانقلابات العسكرية، وبالإدارة العنيفة للنزاعات. نكتشف مع ميشان تلك الأهواء المنبثقة عن العدوان الثلاثي على بورسعيد وما رافقها من تحولات في توجهات جمال عبد الناصر السياسية على صعيد إقليمي ودولي، ونكتشف كذلك طبائع الاستبداد الناشىء منذ فشل الوحدة بين مصر وسوريا، في سوريا، وكذلك في العراق الحاسم لصراعاته الداخلية حول الحكم بشكل تراجيدي.
لقد قتل الملك فيصل الثاني ورئيس الحكومة العراقي نوري السعيد، على يد الجنرال قاسم، بصورة تذكرنا بنهاية المعارضين على يد صدام حسين، وبنهاية صدام على يد المنتصرين عليه بدعم أمريكي!!.
لم تكن الرحلة بالنسبة لصاحب “ربيع عربي" مجرد تعرف على عالم العرب والإسلام، بل كانت بالنسبة إليه رحلة أكثر غرابة مما كان يتصور، لأنها فتحت أمامه - كما يقول - لحظة لإعادة التفكير وإعادة التأمل في كل تلك التصورات النمطية والأحكام المسبقة التي كانت لديه، وهي في نهاية المطاف رحلة أثارت في أعماقه دهشة جديدة تتجاوز حب الاستطلاع والفضول، رحلة فتحت أمامه أبواب الروح على مصراعيها باعتبارها لحظة امتحان للفكر والمعرفة.. يصل الكتاب إلى 500 صفحة، يفرض عليك إيقاعه التهامه بكل رغبة وشغف.. فيه الكثير من الصدق والكثير من المعرفة، والكثير من الشجاعة في تقديم رأي الآخر وأفكاره، حتى وإن كان ذلك صادما أو مغايرا لرؤية الكاتب..
بعد استراحة من عمل الجريدة، جلست هذا الصباح لمدة ثلاث ساعات إلى مكتبي للإشتغال على روايتي الجديدة “شير"، بعد متاهات وهوس وجدتني لازلت مسكونا بمقاربة عشرية الدم والعنف، التي نسعى اليوم إلى طيها في قاع النسيان بدل مواجهتها بهدوء من خلال إعادة تأملها على صعيد التفكير والكتابة. البعض أطلق وبتسرع على محاولة الاقتراب أدبيا وفكريا من عشرية الدم والعنف، مسمى كتابة “الأدب الاستعجالي"، وهذا في نظري مصطلح مزيف يسعى إلى النيل من لحظة تأمل اللحظة ذاتها وإلى تمييع القضايا الأساسية التي نحاول رغم تضليل الخطابات الراهنة سيدة اللحظة، إلى تناسيها وتجنبها بحثا عن طمأنينة زائفة تعكس غياب شجاعة الرأي والفكر، وشجاعة المبادرة في النظر إلى وجوهنا في مرآة النقد والنقد الذاتي.. أحيانا يبدو لي مثل هذا المصطلح الذي يراد من ورائه طمس النقاش الحقيقي، هو من صناعة أصحاب النظر المنحسر والنظر القاصر المشجع على الخوض في قضايا تساعد على إنتاج الكثير من الزيف أو من وهم المعرفة المنتجة للوعي المقلوب والمزيف.. أريد من شير، العودة المتجددة إلى تلك اللحظة السوداء التي سكنت فكر السلطة، إن كان لها فكر، منذ الثمانينيات بحيث جعلتها قاصرة على الرؤية، ما خلق تلك الثقافة من العمى المؤسس للجهالة على أكثر من صعيد.. وكان ما عشناه في حقبة التسعينيات وما ترتب عنها حصادها الحقيقي.. بعد الظهر تناولت المسفوف الذي أعدته زوجتي فاطمة، بشراهة، رغم معاناتي من المرض المزمن “الكرون" تناولته باللبن.. تابعت بعض الأخبار على القنوات الفضائية، ثم اتجهت بمؤنس، إبني الصغير إلى رياض الفتح.. تجولت في إحدى المكتبات ومحل بيع السيديهات، فاقتنيت كتابا رائعا للكاتب الصحفي في جريدة “لوموند ديبلوماتيك"، ماشينو، عن زيارته للجزائر منذ بضع سنوات، بعد أن كان قد غادرها في نهاية الستينيات رفقة زوجته فضيلة مرابط، صاحبة الكتاب الشهير “النساء الجزائريات" الذي أثار يومها ردود أفعال وسجالات حادة لدى المثقفين من ذوي التوجه الإسلامي، ولقد وجد ذلك صداه في كتابات مجلة “القيم" التي كان يشرف عليها مؤسس جمعية القيم الهاشمي تيجاني.. ماشينو كان مدرسا في ثانوية الأمير عبد القادر بالجزائر العاصمة، ويروي في كتابه عندما زار جريدة الوطن، أن بعضا من تلاميذه أصبح من مؤسسي جريدة الوطن، مثل رضا بقات رئيس تحرير الوطن سابقا.. واقتنيت كتابا آخر صدر بعد وفاة صاحبه، وهو عمار إيماش، أحد الوجوه البارزة في تأسيس نجم شمال إفريقيا أول حزب وطني في بداية العشرينيات، ورئيس تحرير جريدة النجم “الأمة". عاش ايماش تجربة غنية دفاعا عن استقلال الجزائر، اختلف مع مصالي الحاج، وقضى سنوات السجن في عهد فرنسا الفاشية، أصيب بمرض عضال، وعاد من فرنسا إلى الجزائر في الخمسينيات بحيث توفي عام 1960 بمسقط رأسه في قرية من قرى منطقة القبائل..
الكتاب يحتوي على نصوص وكتابات مهمة لإيماش، قدم لها المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا.. كان رياض الفتح في تلك اللحظة من مساء يوم الجمعة حزينا وبائسا ويكاد يكون خاليا من تلك الحياة المتألقة التي كان يتمتع بها أيام الثمانينيات، أيام مجده الذهبي.. فباستثناء فضاء لألعاب الأطفال يكاد يكون متواضعا وبدائيا قدت إليه ابني مؤنس، بدا لي رياض الفتح مجرد مكان يعيش لحظة احتضار حقيقية.. لحظة موت بطيء، لحظة انتفاء الحياة بكل ما يمكن أن تحمله الكلمة من معنى.. هل أصبح الجزائريون والجزائريات لا يحبون الحياة؟! كيف أصاب مثل هذا الداء العضال الحياة في العاصمة وفي مدن جزائرية أخرى بينما كانت ذات وقت كلها اتقاد وحيوية..؟!
البعض يحاول إيجاد الأسباب في الفترة التي انتصر فيها الموت على الحياة في التسعينيات، لكن ذلك غير صحيح، فحتى في قلب تلك الحلكة التسعينية كان الناس يقاومون من أجل أن يعيشوا متحدين الخوف والموت.. في نظري يرجع ذلك إلى تخلي الدولة عن مسؤوليتها في إيجاد فضاءات جديدة تتلاءم وحياة الأجيال الجديدة، تتلاءم وظروف المعيشة الجديدة للفئات الوسطى والقريبة من الوسطى.. وفي إيجاد ايقاع جديدة للحياة الثقافية والفنية يستجيب لحاجات الأفراد والجماعات بعيدا عن المناسبات، والبيروقراطية وسياسة الارتجالات والنفعية الرخيصة..
انتهيت منذ أيام من قراءة كتابين حول المسرح صادرين عن دار الحكمة، وعن منشورات مقامات، للقاص والكاتب الصحفي الأذرع شريف، ومخلوف بوكروح. الأول يحمل مختلف اللقاءات والكتابات التي كتبها شريف خلال فترة من الزمن، حول المسرح. والثاني، إعداد وترجمة، يضيء جوانب مهمة من الحياة الفنية والفكرية لمصطفى كاتب.. اقترحت على الشريف إثر انتهائي من قراءة المؤلف بعض الأسئلة ليجيب عليها في هذا العدد من “الأثر"، ولقد التقيت به هذا المساء بمقر جريدة “الجزائر نيوز"، وقضينا حوالي ساعتين في تبادل أطراف الحديث عن الشأن الثقافي في البلاد، تناقشنا عن حال الكتاب والمكتبات التي أصبحت تعاني خطرا بيّنا، وذلك في ظل مختلف الإعانات، ثم عرجنا بالحديث عن راهن الحركة النقدية المسرحية.. لكن ما يهمني في هذه السطور هو الحديث عن لذرع الشريف، هذا الكاتب القاص الذي كان من ألمع الوجوه الواعدة في مجال القصة خاصة بعد نشره لأول مجموعة قصصية له بعنوان “ما قبل وما بعد البعد"، ثم مجموعته الثانية “صاحبة الحسن كله"، كشف من خلال مجموعتيه القصصيتين اللتين صدرتا منذ وقت طويل عن صوت متميز في فن الحكي والقص، صوت ملتزم بقضايا مجتمعه، عبر صياغتها ضمن جمالية جعلت منه بصمة في الكتابة الأدبية الجزائرية في مرحلة من مراحلها الثرية. وإلى جانب اهتمامه بالبحث والنقد، مارس شريف مهنة الصحافة الثقافية وكان متابعا ذكيا ونقديا للحركة المسرحية الناشئة بدءا من السبعينيات ومرورا بالثمانينيات. وقد حاور وقتها أهم صناع الفرجة المسرحية أمثال كاتب ياسين، وعبد القادر علولة، وعبد المالك بوڤرموح، والطيب دهيمي، واحسن بوبريوة، وغيرهم من المخرجين والكتاب والنقاد، إلى جانب متابعاته الدؤوبة لمسرح الهواة الذي كان ولايزال يقام كل سنة، وذلك منذ 1968 في مدينة مستغانم. ورغم انتقاله لمدة 15 سنة إلى الإدارة عندما التحق بوزارة الثقافة، إلا أنه قدم استقالته منذ فترة ليعود من جديد إلى الجامعة كأستاذ وإلى المسرح ككاتب نصوص، وناقد في الوقت ذاته.. وما تناولناه في نقاشنا هذا المساء هو تذكرنا لشخصية محترمة لم تأخذ منا اليوم بعض الالتفات والوفاء، وهي شخصية الرحل المسرحي محمد الطاهر فضلاء، الذي انخرط في العمل المسرحي منذ الخمسينات أو قبل ذلك بقليل. لقد ألف الطاهر فضلاء العديد من المسرحيات باللغة العربية الفصحى، وقام باقتباس عدد مهم من الأعمال إلى العربية، كما أشرف على إنشاء عدة فرق مسرحية، إلى جانب ممارسته للمسرح الإذاعي لعقود، وانتهاء بتقديمه حصصا مسرحية على القناة التلفزيونية، وإننا لنتذكر تلك النقاشات الصاخبة التي كنا نثيرها معه أو ضده في الثمانينيات.. ولقد ظل محمد الطاهر فضلاء، وهو من بين أبناء جمعية العلماء المسلمين، ومن بين الذين تعرفوا عن كثب على الكاتب والمسرحي رضا حوحو، إلى غاية عمر متأخر، مسكونا بالنشاط المسرحي، ومسكونا بالفعل الثقافي.. لكن بعد وفاته وكأنه لم يكن.. في ظل صعود سطوة ونجم حزب الانتهازيين الجدد الذين أصبحوا يهيمنون بفعل التموقع البيروقراطي والمؤسساتي على الساحة الثقافية الرسمية..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.