ما الذي نفعله في حق ذاكرة موسيقى ثرية، معطاءة وخصّابة، سؤال هو في الموسيقى الجزائرية كما في إرثها الغنائي فغير أجواء الفلكرة والذهنية المناسباتية التي تجثم على مخيالنا السماعي، تغيب الإثراءات المطلوبة لحقل ما لبث يتطور ويمتد، زاخرا بالتنوع والمذاهب الجديدة، ماذا سيكون المعنى من ملف ثقافي حول موسيقار أو مغن أو منشد ولمن يصبّ رافد ذاكراتي يقوم على الاستدعاء والمسايقة والبحث عن المكانة، لا يمكن التلبيس ولا التدليس على إمكانياتنا في الموسيقى والشعر والأداء، فموسيقانا، فكرنا الموسيقي، منظومتنا اللحنية، نخبة الإنتاج الغنائي، كل ذلك يشي بحالة موسيقية قابلة للاشتغال والتأهيل والابتعاث، حصرا وإمعانا في المباشرة تحرض الموضوعة الموسيقية على التأصيل والتدوين والتثوير ومن ذلك العمل على إحياء سير الفنانين والانصراف نحو شواغلهم ومشاريعهم وأداءاتهم، ومن ثمة أيضا تتجه الكراسات التي أبرزت الديوان الغنائي الجزائري في أصاليته ومختاراتة إلى نقاش يبرز بمثابة الضرورة والمنطلق والإرهاص نحو عالمية طموحة ومشروعة، كراسات مصحوبة بالأشرطة المغناطيسية لمشايخ الشعبي الكبار كالهاشمي قروابي والحاج محمد العنقا واعمر الزاهي وكذا طبوع وتلاوين أخرى لرائعين بروائعهم كأحمد وهبي وبلاوي الهواري وفضيلة الدزيرية وليس فقط سلسلة الإصدارات هذه التي طلعت على السوق دونما ترويج مستحق، بل إن مشروع "بلدة ديفيزيون" الذي راكم الموروث القديم على التخريجات المعصرنة على ما يسمى في العمل الغنائي بالروميكس وصخبه، ابداعات ما انفكت تسجل المكسب والليجوند Legnde، تتناصف في النجمة والعلامة والحقل وهي لم تفتقد إلا لحاسة نقدية تلتقط النبض ونغمه، النغم ورهافته، الرهافة ونثيثها الصامت، ليس في الحلقة الغنائية الجزائرية -أصالة وحداثة- نشازات ومروق وأسى، بل تأكيد على عالمية مفترضة لم نعمل عليها ولم نؤمن بتحصيلها أو الدوام على طرق أبوابها ومصارعة ثيران حلباتها بالخلق، الإخراج الحسن، الطباعة المغرية، الآلة التسويقية عالية التقنية والجودة وذلك المطلوب أن يحدث، ثورة الأشكال في الموروث الغنائي الأصيل، التعليمي، المحافظ، الأخلاقي كما ثورة الأشكال في الموجات والصرعات الجديدة شبابية كانت أم رصينة. لا فضل لترجمة عمل على آخر أو فضل تحقيقه على آخر إلاّ بدءا لتحقيق تراكم متعاظم وسيولة غناء وطرب ولحن وتوزيع وكورالات تجسد الملحمة، الغناء الوطني الجزائري وفير بهذه العناصر والتفاعلات مما يندر في فنون إبداعية أخرى وجماليات وحقول أخرى غير الغنا - بضم الغين- بتعبير المصريين واللحن ومنظومته الموسيقية. إنّ تجربة الجيل التسعيني وإرهاصاته المجهضة لهي تجربة سابقة الأوان في الحداثة والتعولم ونبذ الأصولية الغنائية الرسمية التي تسلطن في ساحاتها الآباء من رابح درياسة وعبد الرحمان عزيز ومحمد العماري والغازي والمازوني وعبد القادر الخالدي وعبد القادر شاعو ونادية بن يوسف وحسيبة عمروش وصليحة الصغيرة وسلوى، كثيرون هم وكثيرات من سادة الميكروفون الرسمي وسدنته وحماة معبده آنذاك في ثمانينيات الجزائر وأواخر عشرية أفل خلالها بريق الاشتراكية بنمطها الأحادي الموجّه وأفلت معه هذه المدرسة التمجيدية، المسبّحة بأسماء التسعين وتسعة للميكروفون العمومي وألاعيبه، كان الملهى واحد والتلفزيون واحد والحزب واحد ولا يملك تلاميذ مدرسة ألحان وشباب إلا الطريق السهل لترداد؟؟؟ معاني أصالة أصالية تنام في كسلها، في مهدها، في دوح نومها وهدوء هنائها، التجربة الخام كان يمكن أن تتقدم، أن تصدر، وأن تسمع في البلاد والآفاق متجاوزة حدود الوطن في جغرافياه الشاسعة وفي تاريخيته المرموز لها بالشهداء ومجابهة الكولونيالية، أغنية هؤلاء لم تجاوز الشساعة ولا الأفق الرسمي كما يرسم لوطنية ميثيولوجية مصهورة في أجوائها العقائدية ومسالكها القومية التفاخرية، كان الغناء غناء المؤسسة ومطالبها، وكانت الموضوعات كذلك، ويتساوق ويتناسق الخطاب الغنائي الوطني مع شهوات الحاكمين والمحكومين من الشيوخ وسلفيي الذوق والسماع والشكل كما هي كانت ربطة عنق درياسة وقميص العماري وفستان نادية وقصة شعرها الذكراني، لم يكن ثمة جنحة وملامة تقع في هيمنة فصيل غنائي وطرب جاد على كثير من الصون الأخلاقي ومبدأ الحرمة، بل كان ذلك يكشف عن نزاعات مجتمعيه راكنة نحو دواخلها، تقليدية، قوامها الفضيلة والستر، طل هؤلاء على تماه بشخصية السلطة وشخصية المجتمع كما تريده السلطة إلى حين الطفرة، طفرة أكتوبر من سنة 88 هي التي فارقت بين جيلين وبين أيديولوجيتين وبين مركزيين وهامشين وكذلك بين بينين، تخلت الأغنية عن متانتها، صرامتها الخشبية القشية، لغتها المحنطة، بناؤها التعبيري المدرسي الامتثالي ودخلت عصر النزق والفلتان، عصر المرونة والخفة والهشاشة، سمي ذلك العصربعصر "بلاد موزيك"، رغم أن الآباء والسلفيين، القدامى المحافظين لم يغيروا في إيقاعاتهم ولا في خطابيتهم ولا في تعليميتهم إلا قليلا، بل قام بمجاراتهم جيل التشابه والمشاكلة كما هو دارج في التعبير الثقافي الأكاديمي، إنّ الذين كانوا أصواتا تغني وتلحن وتتسلطن من داخل المنظومة الغنائية الرسمية باحوا بأسرارهم وانكشفوا ولم ينتجوا غير النسح والهجانة السلبية والانحسار والمراوحة في المكان المحلي، رغم أنّ من شروط الازدهار والتمكين كانت قائمة، التكوين الكونسرفاتواري التلفاز الأحادي وشاشته غير القابلة للصرف أو التحويل، المهرجاناتية داخل القطر ومحصوريتها في دوائر مغلقة والحقيقة أنّ حتى من هؤلاء الذين شابهوا درياسة أو العماري أونادية بن يوسف في التطريب بالدارج الصافي وبالفصيح، وباللغة العائلية، اللغة الجمعية الجزائرية ذات النسق الهادف والألسنية الطهرانية التي تعدد من ذكر الله وجلالته والأب والأم وقدسية الوالدين والحذر من مهالك الّدنيا ومباذلها، فهؤلاء في الشبه والنظير مع امتلاك أكثر للهوى الشرقي، طبائعه وخصائصه، ألحانه ورنّاته لم يزيدوا على المشهد الصوتي لحنا ومتنا إلاّ بعض من الجدة والكثير من الانسلاخية عن خصوصية جزائرية مفتوحة لا لمجرد استنساخات في الإيحاءات والإيماءات، لقد فشلت زكية محمد فشلا لا يستحى من ذكره على خلفية الغناء المطابق للهوية المصرية وقاد الفشل معها فائد أوركسترا كبير من وزن يوسفي توفيق ولماذا لا معها سربا من المتوقفين عند النوطة المشرقية المخلوطة بتنويعات الأتراك العثمانيين كجهيده وملكية مداح وسعاد بوعلي.ما كان يحصل داخل النادي الغنائي الجزائري هو نفسه إرادات مشيخية ولعبة توازنات، جيلا وفكرا، وجهة لصالح حالة غنائية مستقرة تولي الظهر للتنوع وللهامش وللفكرة الموسيقية الجديدة، لقد جرى الطمس من الأروقة الأربعة وقدمت سيرة غنائية واحدة تاريخها من تاريخ المؤسسة الوصية، وتوابعها، وظلت الألوان والتصانيف الأخرى تعمل وتستعمل ضمن هكذا مذهب وتوجه، القبائلي، السطايفي، الشاوي، السوفي، الصحراوي، فيما حظيت الفرق الأندلسية باسثمار فائق الاهتمام والرعاية ولم يكن ذلك إلاّ الوجه البرجوازي في فنون السماع وللإبقاء على العائلات وأذواقها محفوظة من زيغ الرايوية المبتذلة التي تنامت على درب سرعان ما طفق يكبر ويصدم به الوعي الجمعي والذاكرة المشتركة، ثمة راي في كل مكان، في كل زقاق ودرب وشارع ومعبر وبيت وسيارة ومطعم وحانة، انسلاخية فنية تعاطت معها السلطة بمهارة وحذق وسياسوية، لم يعد المجتمع يقدر على الفرز، شريحة منفصمه، أقل ولاء لجمود الخطاب الغنائي ومتردّدة وغير مذواقة فيما تقذف التجارب الأخرى في آتون المنفى أو الغزلة الاضطرارية أو النسيان. يجري التفكير في الجزائر كبلاد للموسيقى باذخة النوع والفصيل والاختيار وهو ما قدمناه في أوائل التسعين ويحسن سحبه على راهننا، لقد بدأنا بالتنويعات طيلة العشرين سنة الأخيرة، خاض شبان الوطن والمهجر الساحات والمساحات، كسروا النمذجة التلفازية لزمن إيديولوجي عمّر وانقضى واستعانوا بالحركة والتطور بدلا من الثبات واليباس والأداء اليقيني، رانت على المستمع ذهنية ألحان وشباب ووصلاتها الطوال المكرورة وحلّ المراس المميز على الأسلوب والكلمة العابرة والتقنية فضلا عن الفقه بصرعات التجديد والحداثة والسينكية والتمرد، القناوي والتندى، الجاز والأرنبيRNB، الروك والهارد روك، الراب الصارخ والصادح من الضواحي والعتمات في تجربة لطفي دوبل كانون ووهّاب في الأم ب أس وأسماء انتهكت المعنى وانتهكت النمط كسعاد ماسي والشيخ سيدي بيمول وجمال لعروسي وحميد بارودي وتريانا دالجي ومحمد رضا وغيرهم من صانعي الفارق والثراء في حلقاتنا الفنية ومجالس إمتاعنا. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته