لا يتحدّد انغلاق القصة في روايات واسيني الأعرج دائما بالشكل التقليدي المألوف،وذلك حينما نعاينه من خلال الانغلاق البنوي الذي يتوّج خطيّة سرديّة تكتمل بنهاية الحكي. بل قد يستهل واسيني الأعرج نصوصه الروائيّة بالنهاية أحيانا.ولعل ّهذا يفسر انغلاق القصة في بدايتها.ومن ثمّ لا يجدر بنا أن نغفل هذا النمط من الانغلاق؛ولاسيّما أنّه مغاير عن تصورنا القبليّ.ومع ذلك،نسلّم بأنّه محفوف بالكثير من الالتباس. وعلى هذا النحو،يتاح لنا معرفة خاتمة رواية"مصرع أحلام مريم الوديعة" قبل البداية الفعلية للقصة التي سيسرد وقائعها الراوي الذي لا يحمل اسما بعد اغتياله.ويتجلّى هذا الانغلاق الاستباقي أيضا في رواية "كتاب الأمير" ،إذ نجد القصة تبتدئ من نهايتها، فنلفي الخادم جون موبي( Jean Maubet) ينجز مهمته الإنسانية، فينقل رفاة الأسقف مونسينيور أنطوان ديبوش(Monseigneur Antoine Dupuch) من مدينة بوردو الفرنسية إلى الجزائر بعد ثماني سنوات من موته. واللافت للانتباه أنّ الوصية/النهاية لم تتحقق إلاّ بعد نثر رماد جسد مونسينيور أنطوان ديبوش في مكان وزمان محدّدين(البحر/الفجر). والطريف هنا،أنّ افتتاحية "الأميرالية" التي تقدّمت الوقفة الأولى من "باب المحن الأولى" قد انطوت على انغلاق تجلّى في إنجاز وعد مونسينيور ديبوش؛وفي الآن ذاته اشتملت على انفتاحين غير مكتملين؛ فأمّا الأوّل فيتكشّف لنا من خلال افتتاحية كتاب مونسينيور أنطوان ديبوش الموسوم ب«عبد القادر في قصر أمبواز" وأمّا الثاني فنرصده في ملفوظ الراوي الذي ألمح إلى وشوك انفتاح ذاكرة جون موبي على تفاصيل حكاية لم يستطع التاريخ قولها. وهو ما يمكن أن نتبيّنه من خلال المقطع الآتي: «قلّب جون موبي الصفحة الموالية،تمتم وهو يقرأ افتتاحية الكتاب قبل أن يغرق في تفاصيل الخطوط وضباب الكلمات وصراخات مونسينيور ديبوش التي كانت تأتي من بعيد مكتومة وكأنّها كانت تأتي من بئر غميق: «أعود للتو من قصر أمبواز،قضيت أياما عديدة تحت سقفه المضياف،في حميمية نادرة مع ألمع سجين عرفه القصر.أعتقد أنني أكثر معرفة من غيري بعبد القادر وأستطيع اليوم أن أشهد بالحق من يكون هذا الرجل.للأسف، أثناء عودتي إلى بوردو،صادفت أناسا كثيرين أهلا لكل ثقة،لديهم فكرة غير دقيقة وناقصة عن هذا الرجل مما سيتسبب حتما في تأخير تجلي الحقيقة إلى يوم غير معلوم.وأظن صادقا لو أن كل الفرنسيين عرفوا عبد القادر مثلما أعرفه اليوم،لأنصفوه في أقرب وقت.لهذا أتصور أنّه من واجبي الإنساني أن أفعل شيئا في انتظار القيام بما هو أهم... كان الضباب قد لف المركبة ولفها مثل الذي يغطي جسدا هشا يخاف عليه الانكسار.ذاكرة جون موبي،على الرغم من مشقة السفر،ازدادت حدة وصفاء وسط كومة غير محدودة من التفاصيل التي تزاحمت دفعة واحدة في رأسه ... ولا شك أنّ الأبواب الثلاثة(باب المحن الأولى،باب أقواس الحكمة،باب المسالك والمهالك)التي تؤطر نص الرواية ستعضّد انفتاح افتتاحية الباب الأوّل،لتصبح مواقفها فضاءات تتجلّى فيها حكاية الأمير عبد القادر المسكوت عنها. ومن هذا المنطلق،تظل القصة المنغلقة مبدئيا في البداية/النهاية مفتوحة في الخاتمة المنقوصة.ولذلك،لا يمكن أن نتصوّر اكتمال الانغلاق المفتوح بعيدا عن الشكل الدائري للنص السرديّ.وفعلا، فإنّ الموت المؤجّل للراوي المطعون بسكين في الظهر بقي معلّقا في النهاية المفترضة لرواية "مصرع أحلام مريم الوديعة"،ولم يتحقّق إلاّ في البداية/النهاية الجنون الأخير. والشأن نفسه نرصده في رواية"كتاب الأمير"،إذ نجد النهاية غير منتهية،فمن جهة، نلفي الأمير عبد القادر يتهيّأ للانتقال من سجن أمبواز(Amboise) إلى بروسه (Brousse)، ومن جهة ثانية،نتلقى مشهد القدّاس الجنائزيّ تحت ظلال الأميرالية، ثم إنزال تابوت مونسينيور ديبوش في مكان مؤقت في انتظار نقله إلى مدفن الكنيسة بعد ثلاثين يوما. وعلى هذا الأساس،فالمثير للاهتمام في حركة القصة هو تدرّجها من الانغلاق الكلي(النهاية/البداية الأولى)،فالانفتاح(البداية الثانية الفعلية)،فالانغلاق الناقص (النهاية الثانية المعلّقة). وهذا يعني أنّ البداية هي النهاية نفسها،وأنّ النهاية هي البداية في الآن ذاته.ومن ثمّ"لحظة البداية" النهاية هذه تمثل ذروة العقدة الحكائية التي يشتد فيها إيقاع الحوافز الدينامية ،في حين يمثل الشريط الارتجاعي قاعدة أو مركز هذه الدورة السردية،وفيه تكون الحوافز الدينامية في طور النمو والتفاعل والمخاض...واللحظتان معا تقفان على قدم المساواة من حيث الأهمية أو هما تكثّفان معا لحظة واحدة ومتلاحمة.وعلى هذا النحو،فالاستدارة الزمنية للقصة تبتدئ من الذروة(28 جويلية 1864 فجرا) ،ثم ينكفئ مسارها إلى نقطة الانطلاق الفعلية(17 جانفي 1848)9،ثم تتدرج أحداثها شيئا فشيئا،ولا تنغلق إلاّ بالعودة إلى نقطة الانطلاق.وممّا تقدّم نستخلص التجلّيّات التالية للانغلاق والانفتاح في نص"كتاب الأمير": أ_ البداية/النهاية. _الانغلاق الاستباقي:الدفن النهائي لمونسينيور ديبوش في الجزائر/البحر. _الانفتاح المزدوج المبتور. _انكشاف افتتاحية كتاب مونسينيور أنطوان أدولف ديبوش?عبد القادر في قصر أمبواز. _ قابلية ذاكرة جون موبي للانفتاح على تفاصيل حكاية مونسينيور ديبوش والأمير عبد القادر. ب_ البداية الثانية الفعلية:الانفتاح عل زمن الهزيمة"الأمير عبد القادر في الأسر". ج _ النهاية المعلّقة. _ الانغلاق الخديج:الدفن المؤقت لجثمان مونسينيور ديبوش"العودة إلى الفضاء الأليف/الجزائر". _الانفتاح الناقص:خروج الأمير عبد القادر من الأسر"الرحيل من الأسر إلى المنفى". بهذا المعنى،فإنّ الانغلاق في بدايةرواية"كتاب الأمير" يبقى جزئيا رغم البنية الدائرية للقصة.ومع ذلك،فاللاّاكتمال في هذه الوضعية،يحيل على انفتاح الحكي.إلاّ أنّ التحقّق الفعلي للخاتمة سيتم بالتئام وتكامل نهايتيها؛النهاية المتقدمة الناقصة،والنهاية البنويّة المؤجّلة.وانطلاقا من التصور السابق للانغلاق والانفتاح،نلفي القصة في رواية "كريماتوريوم" تنغلق على وضع إصلاح الافتقار من خلال إنجاز سوناتا الغياب.كما يمكن في الوقت نفسه،رصد اكتمال الانغلاق المنقوص في البداية؛إذ تمكّن الراوي يوبا من تحقيق وصايا الأم.وعلى هذا الأساس،يتحوّل الانغلاق الاستباقي في البداية/النهاية إلى خرق للصورة الجاهزة عنه. من الواضح أنّ الانغلاق في نص"كريماتوريوم" لا يخرج عن النموذجين السالفين،ولاسيّما من حيث استراتيجيته التي تهتك نمطيته المرتبطة بنهاية الحكي؛ فيبدو نتيجة ذلك أكثر تعقيدا.ومن هنا،يمتح دينامية وظيفته الجديدة،فلا ينجز بناء على الانتهاء البنوي فحسب؛وإنّما قد يتمظهر في البداية المنغلقة بوصفها نهاية سابقة على نهاية ثانية غير مكتملة.ومن ثمّ،فهو أيضا جزء من الانغلاق اللاحق المؤجّل. ليس هذا كل ما في الأمر،فالانغلاق الاستباقي للقصة لا ينم فقط عن استعجال سدّ بياض الاختتام،أو تخييب أفق توقع المتلقي،بل قد يصبح توريطا لفعل القراءة ذاته؛وبخاصّة حينما يوهمنا بأنّ الانغلاق هو الاكتمال الذي أتى قبل الأوان،فأزاح سلفا كل أشكال النقصان.إلاّ أنّ هذا الافتراض،سيسقط بمجرد امّحاء الحد الفاصل بين النهاية المعلّقة والبداية/النهاية. ولذلك،يحق لنا القول بأنّ انغلاق القصة في البداية هو في الجوهر عودة إلى البداية الأولى.ولعلّ ما لاحظناه سابقا كافٍ لتوضيح هذا المعنى بجلاء؛فمونسينيور ديبوش يعود إلى الجزائر ميّتا،ويوصي أن تزرع تربة رفاته في فضاء واسع كي يتحرّر من عتبات منفاه.ومثل هذه العودة،هي قدر مَيّ الفنانة الفلسطينية التي رجعت إلى القدس رمادا بعد نصف قرن من الغياب.ومن ثمّ فإنّه إذا كانت دائرة الاختصاصي بعلم الهندسة هي دائرة فارغة ، فارغة أساسا. فاستدارة القصة في رواية "كريماتوريوم"ممتلئة دلالياومكتملة شكليا. وعلى هذا النحو،إذا ما تفحصنا الافتتاحية المعنونة ب«وصايا أمي" نلفي انغلاقا نهائيا للقصة في بدايتها خلاف الانغلاق غير المكتمل في مطلع رواية "كتاب الأمير"ولهذا،لا نجد الانغلاق موّزعا بين نقطتي الانطلاق والانتهاء؛ففي البداية/النهاية يعلن الابن يوبا صراحة عن إنجاز المهمة المنوطة به؛وبالأحرى يمكن القول،بأنّ فعله صار من الماضي.ومع ذلك،يفضي هذا الوضع الإشكالي إلى حصول اتّصال مزدوج،فمن جهة يتواصل الراوي يوبا مع فضاء القدس لأوّل مرة في حياته، ومن جهة ثانية،فإنّ تنفيذ الوصية هو في الجوهرالأمر المؤكد المقدور.وهنا،أيضا،يتحوّل غياب الأم إلى حضور، فيمتّد وجودها عبر لوحاتها وكتابتها واندفانها من جديد في أرضها الأولى المفقودة؛حيث مازال،هنالك،يوسف الحبيب يعانق الزيتونة العالية بمحاذاة المقبرة عشقا وجنونا. واللافت للنظر،أنّ انغلاق القصة في البداية المنطوية على النهاية يتجاوز الدلالة على بنيتها المدوّرة،ليكون إشارة في الآن ذاته إلى انغلاق مضاعف يتحقق من خلال وظائف متعدّدة ينجزها الابن يوبا بشكل متدرّج،ومتزامن أحيانا.وهذا ما تطالعنا به فاتحة الرواية: «أغمضت عيني وعرفت أخيرا السوناتا التي استعصت عليّ زمنا طويلا.ولا أدري إلى اليوم كيف حضرت المقطوعة التي قضيت زمنا أبحث عنها بدون أن أعثر على استقامتها المرجوة». «عندما خرجت في ذلك الصباح الباكر باتجاه مطار ج.ف.كندي وسافرت نحو أورشليم،أرض لم أعرفها من قبل ولم تعرفني...محملا بثلاث جرّات رخامية صغيرة مليئة برماد أمي معجون بنوار البنفسج البري كما اشتهت،وسيل من الوصايا المكتوبة...كنت أبعثر رماد أمي المعجون بنوار النرجس البري،كمن يزرع حقلا ميتا بسماد الروح،من حي المغاربة الذي أصبح امتدادا للحي اليهودي حتى مقام سيدي بومدين لمغيث. «اليوم أشياء كثيرة تغيّرت.الدنيا نفسها صارت شيئا آخر.بعدما هدأت كل الآلام والتأمت بعض الجروح ونسيت صرخة يوسي المفزعة التي صاحبتني مدة طويلة في أحلامي وكوابيسي،وانتهيت من تدوين حدادي كما اشتهيت،أصبحت لا أرى شيئا سواها في قمة ألقها كما في سنوات تفتحها الأولى». نستطيع أن نلاحظ من خلال المقاطع السرديّة السابقة أنّ التيمة الأساسية في الفاتحة هي العودة إلى الفردوس المفقود رمادا.ولاشك أنّ الوظيفة المركزية التي اضطلع بها الراوي/الابن يوبا،والوظائف الفرعية المحيطة بها توضح بشكل جلّي هذا المعطى.ولذلك،لاغرابة أن تبدأ وتنتهي القصة عند عتبة النص السرديّ بتحقق وصايا الأم على النحو الآتي: 1_ بعثرة محتويات الجرة الأولى من الرماد في نهر الأردن،وما تبقى منه في الطريق الواصل بين حي المغاربة ومقام الجد الأوّل سيدي بومدين لمغيث الأندلسيّ. 2_ نثر الرماد المتبقي من الجرة الثانية على قبر يوسف المتعدد. 3_وضع الجرة الثالثة عند رأس قبر الجدة ميرا بنت الحاج سليمان المغربي. 1_ قراءة الوصية الأولى على نهر الأردن. 2_قراءة فاتحة الغياب على مقام الجد. 3_ قراءة الوصية الثالثة على قبر يوسف. 4_ قراءة الوصية الرابعة على قبر الجدة ميرا. يمكن،فضلا عمّا تقدّم،استكشاف الانغلاق الخالص من خلال الإعلان الاستشرافي عن عدم موت يوسف،والذي كان يفترض الإخبار عنه لاحقا؛أي في النهاية الفعلية للحكي التي تبوّأت عتبة البداية.وسيشكل تصريح الراوي/الابن يوبا بالانتهاء من تدوين حداده الخاص(الكتابة/السوناتا) استباقا ثانيا.وكلاهما،طبعا،من المفروض أن ينهضا بوظيفة ختامية.بيد أنّ هذه المفارقة ستزول إذا سلّمنا جدلا بالدوران البنوي للقصة.وعلى أيّ حال،فالقدس هي البداية والمنتهى بالنسبة لمَيْ بؤرة الحكاية. ومهما يكن من أمر،فإنّ القصة لا تكاد تتخطّى الانغلاق الاستباقي حتى تنفتح على الذاكرة.ومن ثمّ،فهي تنتهي الآن"وصايا أمي"،ثم تبتدئ من الماضي الفصل الأوّل:عطش البحر الميت.وهنا،تتجلّى حركتها العكسية،فيغدو النقصان منطلقها،والكمال الذي بدأ به النص مرساها.وفي هذا الإطار ،يقول الراوي في البداية الثانية:«تمنى أن تكون مي حاضرة ولكنها انسحبت بعد أن خلفت بين يديه سوناتا لم تكتمل كانت تحمل اسمها والكثير من الوصايا التي كان عليه قطع بحار الظلمات لتأديتها في وقتها وبالشكل الذي أرادته. ومن هذه الزاوية،سيحتّل تنفيذ الوصايا وإنجاز السوناتا المستوى الأوّل من الحكي. وبطبيعة الحال،سيكون هذا الانفتاح محاولة لتجسيد وعد العنوان الفرعي الشارح"سوناتا لأشباح القدس".كما يمكن،أن نعاين في الفصل الثاني"مدونة الحداد" انفتاحا ثانيا على ذاكرة الأم التي تكثّفت رمادا في العنوان الرئيسي"كريماتوريوم".ومن خلال ذلك،نتبيّن التناغم بين نص الموسيقى ونص الكتابة؛ولاسيّما أنّ الأم هي محور النصين؛والبؤرة الأساسية التي تنهض عليها البنية الحكائية الكبرى.وإذا تحدثنا بلغة الموسيقى،نقول إنّها اللّحن المحوري الذي تنبثق منه،ثم تؤوب إليه كل الحركات والإيقاعات. إنّها لحن أساسي يثبت الألحان الفرعية التزيينية المعزوفة فوقه. وعلى الرغم من تكاثر التبديلات في الإيقاعات والأساليب والتناغمات، فإنّ النغم الأساسي يعاود الظهور خلالها كلها وكأنّه يريد أن يعرض قوة صموده وقدرته على ممارسة التحبيك الأبدي للغياب. ليس من شك،أنّ الغياب المزدوج(الوطن/الأم)سيجمع أيضا بين أقسام الرواية التي ستحاكي في بنائها شكل السوناتا،فنجد أنفسنا أمام ثلاثة فصول،وافتتاحيتين.وأمّا في الافتتاحية الأولى "وصايا الأم" التي تصدرت النص السردي،فستتماهى فيها النهاية مع البداية،مثلما أشرنا إلى ذلك آنفا،وكأنّها تستشرف استدارة الحكي.وتبعا لذلك،تصبح البداية نوعا من الغياب الأثيري الغامض،وتتحول معها النهاية إلى حضور،أو بالأحرى إلى بداية،تردنا من جديد إلى البداية فتستنقذها من براثن الغياب،ويتحوّل النص إلى دائرة مستمرة الجريان ، وإلى فضاء يتذاوت فيه الغياب والحضور بشكل هارموني. وأمّا الافتتاحية الثانية "بكبرياء اللون وهشاشة الفراشة" ،ليست كما الأولى التي تؤطر القصة بكاملها،إذ إنّها لا تخرج عن إطار التقديم للفصل الثاني،وإن كانت في العمق ترتبط بتطور القصة من بدايتها الثانية إلى بدايتها الأولى بوصفها نهاية متقدّمة.كما أنّها تشكل في الوقت نفسه،مقاما ثانيا للاستباقات الزمنية.ولتوضيح ذلك،يمكن أن نستعيد مقول الراوي/مي الذي يهيئ القارئ لتلقي تفاصيل الانغلاق الاستباقي في الافتتاحية الأولى: «وتضاءل سلطان الجسد،وأستطيع أن أكتب بحرية تامة،بعد أن اتخذت أخطر قرارين في حياتي وأنا مدركة بأنّ ذلك قد يربك كثيرا يوبا» *الأول، الذين رفضوا منحي رخصة الدفن في القدس سهلوا عليّ مهمة هذه الخيارات،ليكن،لقد قررت أن أمنح جسدي للمحرقة لأرتاح نهائيا من شطط ثقيل لم أعد قادرة على تحمله.وأنا لا أدعو الآخرين إلى السير في مسلكي.أكبر محرقة يعيشها المرء هي أن تسرق منه أرضه ويرمى على حواف المبهم...أشتهي فقط أن يبعثر رمادي على مياه نهر الأردن،ربما وجد طريقه نحو جذور هذه الأرض،وفي أحياء القدس العريقة التي عجنت طفولتي وعلى قبر أمي وأخي وأخوالي،ويوسف...ومقام جدي العظيم سيدي بومدين لمغيث. * الثاني،هو قراري بالشروع في كتابة ذاكرتي الموشومة بالرماد والألوان والكثير من الخوف،بكل الصدق الذي يملأني...الكتابة تفتح كل الجراحات المغلقة وتدفع بعواصف الدم الجارف نحو الخروج للمرة الأخيرة. والحق،لو اختبرنا افتتاحية"بكبرياء اللون وهشاشة الفراشة" على أساس أنّها عتبة رئيسية ل "مدونة الحداد"، سيفضي بنا ذلك إلى الوقوف على انغلاق استباقي ثان؛ فتارة نجده يخبرنا عن قرار مي بحرق جسدها في المحرقة،وزرع رماده في نهر الأردنوالقدس؛ وتارة أخرى ينبئنا بشروعها في كتابة مذكراتها.وهكذا،إذن،يصبح الانغلاق الاستباقي في الافتتاحيتين الأولى والثانية فضاء انتقال من المغلق إلى المفتوح. وتتعضّد هارمونيا الفواتح باتّساع الفصل الثالث لحوار دينامي بين الفصل الأوّل والفصل الثاني؛أي بين الابن الذي شرع في رسم نوتات سوناتا أشباح القدس،والأم التي كتبت حدادها الخاص.وربّما دلّ توسّط الفصل الثاني بين الفصلين الأوّل والثالث اللذين يؤطّرهما راوٍ واحد على حركة اعتراضية بين حركتين متشاكلتين دلاليا وإيقاعيا،ولكن سرعان ما يتبدّد هذا الانطباع،فالحركات الثلاث تشكل في العمق وحدة متداخلة ومتكاملة،وإن كان إيقاعها يشتد في الافتتاحيتين،فيبلغ ذروته في الأولى،ويصبح في الثانية أقل حدة.وانطلاقا من هذه الخروقات الأوّلية لنا أن نتساءل:هل يمكن أن يتحوّل الانغلاق الاستباقي إلى انغلاق استباقي مفتوح؟ ثمّ ما هي آليات هذا التحوّل المفترض ؟ وما دور التفاعل بين نص الكتابة ونص الموسيقى في هذا التحويل الذي محا الحدود بين المكتوب و المسموع ؟ -1 واسيني الأعرج،مصرع أحلام مريم الوديعة، دار الحداثة،بيروت، لبنان،ط.1،سنة1984. 2 - واسيني الأعرج،كتاب الأمير،مسالك أبواب الحديد،منشورات الفضاء الحر،الجزائر،ط.1،سنة 2004. -3 المصدر نفسه،،ص.20. -4 المصدر نفسه،ص.20. -5 المصدر نفسه ،ص.20،19. -6 واسيني الأعرج،مصرع أحلام مريم الوديعة، ص.5. 7 - نجيب العوفي،مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربيّة،من التأسيس إلى التجنيس،المركز الثقافي العربي،بيروت،لبنان، الدار البيضاء ،المغرب،ط.1،سنة 1987،صص.498،497. 8 - واسيني الأعرج،كتاب الأمير،مسالك أبواب الحديد،ص.9. 9 - المصدر نفسه،ص.22. 10 - واسيني الأعرج،كريماتوريوم،سوناتا لأشباح القدس،منشورات الفضاء الحر،الجزائر،ط.1،سنة 2008. 11 - واسيني الأعرج،كتاب الأمير،مسالك أبواب الحديد،صص.13،12. 12Gaston Bachelard,La poétique de l'espace,éd .P.U.F,Paris,1957,p.2 -11. 13 - واسيني الأعرج،كريماتوريوم،سوناتا لأشباح القدس،ص.11. -14 القرطبي،أبوعبد محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين،الجامع لأحكام القرآن،تفسير القرطبي،تحقيق:أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش،دار الكتب المصرية،القاهرة،مصر،ط.2،سنة1964 ،7/134. * بناء على ذلك،يتّضح أنّ الاعتماد على الوصية شكلا لافتتاحية رواية"كريماتوريوم"،لم يكن المقصود منه التجريب الشكلي فحسب؛بل أيضا لتكثيف موضوعة الغياب والحضور.وينسجم ذلك تماما مع منجز الأم التي وصلت حاضرها بمستقبلها.والواقع أنّ الوصية سميت وصية لأنّ الميت لمّا أوصى بها وصل ما كان فيه من أمر حياته بما بعده من أمر مماته. الأزهري،أبو منصورمحمد بن أحمد،الزاهر في غريب ألفاظ الإمام الشافعي،تحقيق:عبد المنعم طوعي بشنّاتي،دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع،بيروت،لبنان،ط.1،سنة 1998،ص.372. 15 - واسيني الأعرج،كريماتوريوم،سوناتا لأشباح القدس،ص.12. 16 - المصدر نفسه ،صص.14،13. 17 - المصدر نفسه ،ص.18. 18 - المصدر نفسه ،ص.25. 19 - إدوارد سعيد،العالم والنص والناقد،تر:عبد الكريم محفوض،منشورات اتحاد الكتاب العرب،دمشق،سوريا،ط.1،سنة 2000،ص.131. 20 - صبري حافظ،"مالك الحزين"،الحداثة والتجسيد المكاني للرؤية الروائية،مجلة فصول،الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة،مصر،المجلد الرابع،العدد الرابع،يونيو/أغسطس/سبتمر،سنة 1984،ص.169. 21 - واسيني الأعرج،كريماتوريوم،سوناتا لأشباح القدس،صص.120،119. 22 - المصدر نفسه ،ص.120. أ.سعداني يوسف * جامعة سيدي بلعباس/الجزائر