مقصدنا هذه المرة كان أرض الضايات للمرة الثالثة على التوالي جنوب مسعد والوجهة هي "ضاية أم الرانب". ولأن المسافة قد تصل إلى حوالي 100 كم فقد كان لزاما علينا الخروج باكرا من مدينة الجلفة. وفي مثل هذا النوع من الخرجات تتخلى عن الدراجة وتلجأ إلى السيارة لأن الشتاء قاس في الجلفة ... وهكذا تشكلت قافلتنا من ثلاث سيارات وشاحنة صغيرة فيها عدّة التخييم ... لما تخرج من مدينة الجلفة نحو مسعد فإن الطريق عبر المجبارة هو الأفضل من ناحية المسافة كما أنه أقل ازدحاما من الطريق الوطني رقم واحد وإن صار طريقنا يحوز أهمية بالغة لا سيما جزئه الرابط بين مسعد وولايات الجنوب الذي أصبح إسمه "الطريق الوطني رقم 01 ب" ... وهكذا على الخامسة صباحا كانت الإنطلاقة من الجلفة بعد إفطار وكرم حاتمي من لدن أخينا حمزة ... تلك آثارنا تدلّ علينا ... "عين الناڨة" هي أول نقطة عمرانية نمر بها وهي نقطة معروفة للقوافل لأن بها واحة صغيرة ومنبعا يتزود منه المارّة والمسافرون. وهنا نستذكر قافلة الضابط الفرنسي "كولونا دورنانو" حين مر بعين الناڨة في أكتوبر 1854 ولم يلبث أن تعرض لهجوم فرسان "أولاد أم الإخوة". وهذا الموضوع التاريخي قد خضنا فيه في رحلة علمية سابقة رفقة الأخوين شويحة وجاب الله محمد. وكان هدفنا يومها البحث عن قبر الضابط الفرنسي "دوبوا غيلبير" الذي قتل في انتفاضة أولاد أم الإخوة. والمعروف عن منطقة عين الناڨة كثرة محطات النقوش والرسوم الأثرية بها. ولعل أشهرها على الإطلاق تلك النقوش التي أطلق عليها الأب فرانسوا دوفيلاري إسم "العاشقان الخجولان". ولا يتسع المجال هنا للحديث عن الأب دوفيلاري ولكن من الإنصاف القول بأنه باحث مجتهد وموضوعي في كل المواضيع التي خاض فيها لا سيما نقاشه المستفيض لأصول البربر في كتابه "قرون السهوب Siècles de Steppes" فهو لم يفصل البربر عن عمقهم العروبي الحمْيري الكنعاني واستعان في ذلك بكل ما وصله من كتابات للمؤرخين الإغريق والرومان والمسلمين. وصلنا الآن إلى المنعطف المعروف باسم "العليليڨة" وهو من النقاط المشهورة على طريق "الجلفة – المجبارة" نظرا لأنه منعطف شديد الإنحدار ويشكل خطرا على رواد الطريق. كما يُعرف بأن المناخ شبه الصحراوي للجنوب الجلفاوي يبدأ من هذا المكان حسبما أخبرني سائق شاحنة عمل زمنا طويلا على هذا الخط وفي كل الفصول. ويُقابل هذه النقطة غربا على الطريق الوطني رقم 01 النقطة المشهورة "واد السدر" التي يتغير عندها المناخ القاري المعروف بقساوة برودته شتاء. ولا بأس من الإشارة هنا إلى الخطأ المشهور في اللافتة حيث نجد مكتوبا عليها "واد الصدر" عوض "واد السدر". وللأسف فإن التوبونيميا بولاية الجلفة، وعلى غرار الولايات الأخرى، مازالت محل عبث إيديولوجي أو عبث نتيجة الجهل التاريخي ... ولنأخذ مثالا التوبونيم العربي "غار الداية" التي كتبت "غارداية" ثم مع الوقت صارت "غرداية" ثم اخترعت لها تسمية جديدة وهي "تغردايت" رغم أنه لا يوجد أي مرجع أو مخطوط قديم يشير إلى هذه التسميات المُختلقة لغرض فصلنا عن عمقنا العروبي ... وخذ أيضا هذا المثال من مدينة الجلفة أين تجد لافتة الإشارة إلى اتجاه حي "بن جرمة" وقد كتبت "Ben Germain" وللوهلة الأولى سيقرؤها الجميع إسما لشخص فرنسي مثل الضابط المجرم الفرنسي "Saint Germain" عوض أن نكتبها "Ben Djerma" إنصافا لذاكرة الحاج محمد بن جرمة صاحب العقار الذي بني عليه الحي ... وللأسف فإن الفرنسيين كتبوها صحيحة في الجريدة الرسمية سنة 1960 ... وليتنا نتعلم أهمية علم "التوبونيميا/ الأماكنية أو المواقعية" في الحفاظ على هويتنا بأمانة مثلما فعل الجغرافي الفرنسي "أوديلون نيال" سنة 1878 لما كتب "oued seddeur" وشرحها "révière de jujubier" أي وادي السدر وليس وادي الصدر!! أنت الآن داخل "بلدية القصور" كما عرفت في وقت الإحتلال الفرنسي حيث كانت مسعد عاصمتها وتسمى "قصر القصور". والقصور هي القرى والمدن التي تشكلت على العيون والزوايا وازدهرت بساتينها ومطاميرها في علاقات تجارية ربطت ما بين الڨيطان والرّحّال. وهاهي مدينة المجبارة تستقبلنا اليوم مثلما استقبلت بالأمس المقاوم الشهير الشيخ بومعزة في طريقه إلى أولاد جلال. فدفعت الثمن بحملة عسكرية للجنرال ماري مونج في فيفري 1847. والمجبارة هي واحدة من القصور التي نشأت بنهاية العهد العثماني بمسجد وديار وبساتين على مصادر ماء، وهي تقع تقريبا في منتصف الطريق ما بين مسعد والجلفة ... وصلناها باكرا ولم ننزل بها لأن موعد صلاة الصبح لم يحن بعد ولقد أدركنا الصلاة في مسعد بالمسجد الواقع عند مفترق الطرق الشمالي للمدينة. لقد فرض وباء كورونا فرض منطقه علينا جميعا فنحن نضع كماماتنا حتى ولو كنا داخل السيارة ... والدخول إلى المساجد لا يكون إلا بالكمامة مثل أي مكان عمومي والتباعد ما بين المصلّين يُطبّق بصرامة ويجب أن تحضر معك "صلاّيتك" الشخصية ... هاهو أحد المُصلّين يفترش عمامته للصلاة فناداه شاب مسعدي أن خذ سجادة من هناك وأشار إلى مقعد به حوالي عدة سجادات تبرع بها محسن للمصلين ... ويا له من كرم حينما تجد من يتطوع للمسجد بصلاّيات فردية في زمن الوباء بمسجد يقع على طريق المسافرين !! والحقّ يقال أن الكرم في هذه الربوع ليس غريبا فمسعد كعادتها تحتضن زائريها مثلما فعلت مع الشيخ السنوسي التي فتح بها أول زاوية سنوسية في العالم قبيل الاحتلال الفرنسي ثم احتضنت المقاوم موسى الدرقاوي الذي أنشأ بها أولى زواياه الجهادية سنة 1831 ثم الأمير عبد القادر الذي فتحوا له مطاميرهم سنة 1846 وقد كتب عن ذلك الشيخ الرايس رحمه الله في توثيقاته التاريخية. والحقيقة أن في كل شبر من هذه الربوع تجد نفسك تستحضر التاريخ والتراث لأن كل مكان له قصة تاريخية في الجنوب المسعدي سواء مع الفاتحين أو المقاومين أو الشعراء الشعبيين أو أي واحد عمّر هذه الربوع ... وكأن لسان حالهم يقول: تلك آثارنا تدلّ علينا *** فانظروا بعدنا إلى الآثار وقد رأينا هذا البيت الشعري مكتوبا بخط يد الشيخ الرايس رحمه الله في أحد جدران البيوت القديمة بقصر دمّد ... من القصور الى بلاد الضايات ... بعد استراحة خفيفة بمدينة مسعد ووقفة عند بائع "السفنج والشاي" تنطلق القافلة كي نحو وجهتها الجنوبية وعلى طول الطريق ترى جبل الأصباع يُشيّعك بقممه كدأبه دوما وهو يشيّع قوافل تجّار أولاد نايل عندما كانوا يعمرون أسواق الصحراء والتيطري ويحتكرون مقطع "أسواق الهضاب - متليلي الشعانبة" من خط التجارة المتجه إلى تومبوكتو ... إنها الطريق التي يسلكها الجميع نحو أرض الضايات التي تعتبر ملاذا للبشر بما تحويه من أشجار وارفة الضلال وبما تربو به مروجها من كلأ للمواشي ... وهي مناطق لطالما شكلت ملجأ للمقاومين مثل سيدي أحمد بن الطاهر الزموري خليفة موسى الدرقاوي سيدي بن عياش الذي لجأ إلى "وادي جدي" ليحتمي من بطش حملة الجنرال لادميرو في جوان 1849 ... وبعده احتمى بها الشيخ عبد الرحمان بن الطاهر طاهيري قائد آخر مقاومة شعبية ببلاد أولاد نايل والتي كلفته الإعدام بسجن سركاجي سنة 1931 تزامنا والعيد الوطني الفرنسي في 14 جويلية. اتفقت مجموعتنا على أن تلتقي عند المنعطف الذي يتجه شرق الطريق الوطني رقم 01 ب على مسافة حوالي كيلومترين من الحاجر العسكري. وهكذا سنودّع الطريق المُعبدة لتبدأ الطريق الترابية التي تتخللها الأودية والشعاب والتي تتطلب المهارة في السياقة لتجاوزها دون إصابة للسيارات ... فقافلتنا اليوم ليس مُشكّلة من السيارات رباعية الدفع كما كان الأمر عليه في خرجتنا الأخيرة إلى بلاد التيديكلت بعين صالح ... منظر جبال الأصباع مع طلوع الفجر رائع فتراها حاضرة بهيبة لا مثيل لها وكأنها تُشيّعك ببصرها وتحرسك وأنت تبتعد عنها ... وعندما تتجاوزها نحو الجنوب الشرقي تشعر وكأن النهار أمامك هناك في الأفق ... فتختفي مسعد وراء الأصباع ولا يبقى لك سوى بعض المناظر لجبال شنوفة وبعض التضاريس المحيطة بقصور البرج وعين السلطان وسلمانة ... الآن الشمس ساطعة والرؤية متضحة والجو ملائم لالتقاط الصور والتوقف ببعض النقاط الجميلة ... هاهي أول المشاهدات الجميلة لنخلة باسقة قد نمت على ضفة أحد الأودية وقد توقفنا عندها لالتقاط بعض الصور. وغير بعيد عنها تقع الأعجوبة الجيولوجية "مقارة الحمام" اي مغارة الحمام لأن أهل الجلفة يقلبون الغين قافا. وقد قدم لنا بشأنها الأستاذ حكيم شويحة شرحا مفصلا. فهي عبارة عن كهف كبير بحجم مدرّج جامعي وقد تشكلت نتيجة لعوامل مناخية مرتبطة بالأزمنة المطيرة الموغلة في القدم. الأماكنية العربية في بلاد الضايات ... الضايات مثل قصور مسعد في كرمها وأصالتها ولها أهلها الذين قد يسكنون بالقرب منها أو يفدون عليها في مواسم الرعي. ومن بين أشهر الضايات بمسعد "ضاية الڨلب" الجميلة والتي تحتفظ بذكرى أليمة لعملية إرهابية سنة 1997 لاغتيال الشيخ خالد طاهيري رحمه الله وهو أحد أشهر البيّازين بالربوع ومن المراجع في التراث البيزري بمنطقة الجلفة. وهناك ضاية "خيابر" التي خيّمنا فيها سنة 2017 ويوجد فيها قبر طويل قال عنه أهل الضاية ل "الجلفة إنفو"، في أوت 2019، أنه لأحد الصحابة؟ ... ماذا؟ قبر صحابي في جنوب مسعد؟ هل من الممكن أن جيش الفاتحين قد توغّل جنوب مسعد؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تقتضي منا الإلمام بخط سير الفتوحات الإسلامية وهو فعلا يمر بمنطقة الجلفة حسب الخرائط المرسومة بكتب التاريخ. ومن الناحية الأماكنية فهناك عدة شواهد للفتح الإسلامي بمنطقة الجلفة مثل مقبرة الفاتح الإسلامي عبد الله الحاج بمنطقة الشارف و"كاف – كهف - المسجد" و"المرڨد" وهو مكان رقد فيه جيش الفاتحين، ببلدية دلدول، و"ڨبر الصحبي" ببلدية الجلفة" و"ڨبر الصحبي" بمسعد و"جبل أم ناصر" بسلمانة وأم ناصر هي زوجة أحد الفاتحين ... فهل يكفي كل ذلك للقول بأن الفاتحين قد وصلوا أرض الضايات جنوبا؟ سنلجأ هنا إلى الأماكنية ولنقارن أسماء المناطق عندنا بتلك التسميات الموجودة بالمشرق العربي ... فجنوب مسعد فيه ضايات "خيابر" و"أم الهشيم" و"أم الرانب" ومدن وقرى "أم العظام" و"أم الخشب" و"ڨطارة" و"القيهب" و"الڨاهرة" و"الحطيبة" ... وهناك أيضا بالسعودية مناطق تحمل أسماء "أم الهشيم" و"أم الخشب" و"أم العظام" و"القطارة" وبها لقب "غيهب" ولاحظ أننا في الجلفة نقلب الغين قافا ... وهناك "خيابر" بالعراق وهناك "أم الأرانب" بليبيا وقرية "الحطيب" اليمنية وقرية "حطيبة" المصرية ... بل وهناك "القاهرة" عاصمة جمهورية مصر العربية ... وهكذا سنفهم جيدا لماذا يتم تحوير أسماء الأماكن بالجزائر فالغرض هو طمس كل أصل عروبي لها!! وفيما يتعلق بمسعد تحديدا فإن الوجود العروبي قديم جدا بها على الأقل منذ 1800 سنة تاريخ جلب الكتيبة التدمرية من سوريا إلى "كاستيلوم ديميدي" من طرف الرومان ... والنقوش والحفريات تدلّ على استقرار الكتيبة التدمرية كما هو الشأن مع حفريات شارل بيكار. وبالعودة لما كتبه دوفيلاري عن أصل البربر فسنجد أن ما يجمع التدمري بالبربري أكثر مما يُفرقهما حتى ولو كان أحدهما مُجنّدا لدى الرومان!! ... وهنا سنتساءل مرة أخرى ... أين لجأ البونيقيون لما دخلت القوات الرومانية شمال إفريقيا بمساعدة الخائن ماسينيسا؟ ... ألا يذكّرنا ذلك بما قلناه عن لجوء قادة المقاومة الشعبية إلى الصحراء؟ ... هذه الأسئلة وغيرها ليست سوى وسيلة لاستفزاز ملكة التفكير لدى كل من ثمل بخرافات المدرسة التاريخية الفرنسية ... وطوبى لمن وضع كتابات الفرنسيين في الميزان قبل أن يُسلّم بها!! لمحة عن تاريخ فن المديح الديني بمسعد ... هاهي قافلتنا في رحلة تخييمها تلجأ جنوبا طالبة الأنس والراحة والهروب من المدينة ... وتضاريس الطريق تجبرك على السير بالمركبة برويّة وهدوء فتتحول مسافة 30 كيلومتر إلى ما يشبه سفرا على مسافة 150 كيلومتر ... وهنا لابد من مجابهة الطريق بالحديث والفكاهة وشيء من المديح النبوي لبعض القصّادة أي المنشدين ... وهاهي المجموعة تطرب لما يطرب له صديقنا "حمزة" مع ذلك القصّاد الذي يؤدي مديح "الصلاة على الرسول/ الشفيع الأبطحي/ محمد العربي". وهاهو بلبل مسعد "قدور خينش" رحمه الله يرافقه العود والبندير في رائعة "صلوا صلوا يا لي حضّار على الهادي كاشف الغمة/ صلاتو تطفي لهيب النار مصباحي في ليلة الظلمة". إنها قصيدة مشهورة ليس لأنها شائعة في المديح القادري بل لأنها لواحد من فحول الشعراء بالصحراء ألا وهو سيدي أحمد بن الحرمة "1835-1924" صاحب الورد القادري من نفطة (تونس) ... وهو أحد أقطاب الشبكة الصوفية القادرية التي تمتد ما بين بريان والأغواط ومسعد وصولا إلى الجلفة ... فهذه الأشعار والمدائح الدينية كانت متداولة وكانت علامة صلة وتواصل بين هذه القصور ... وكل من يستمع إلى "قدور خينش" وهو يؤدي رائعة "صلوا صلوا يا لي حُضّار" سيجد أنه يفتتحها باستخبار فردي يترنم فيه بالطابع العربي البدوي "ياي ياي" وهما بيتان من قصيدة للشاعر المجاهد الطاهر بلعكف يمدح فيها الشيخ الصوفي سي بلقاسم بن أحمد رحمهما الله. وللأسف لو أن المطرب قدور خينش أدى القصيدة كاملة لصارت مشهورة كإحدى روائع الطابع البدوي الصحراوي الجزائري لأنه أبدع في بيتين منها فقط فما بالك لو كان الأداء للقصيدة كاملة؟ وإبداع "قدور خينش اكتمل بإبداع صديقه على العود حين صاحبه بطريقة تجعلك توقن أن العود قد سما إلى "الڨصبة" في مصاحبة الغناء البدوي الصحراوي ... ولا ندري حقا هل أداها المطرب قدور خينش كاملة أم لا؟ ... ليبقى توثيق التراث الغنائي لهذا الفنان مطلبا والأولى بتجسيد ذلك هم أصدقاؤه وأهله بمسعد. والبيتان اللذان أداهما الفنان قدور خينش هما: هوّستوني والعقل فايت مسلول *** واذا شفت الزيار دمعاتي سالوا ڨلّوا ذات الخوني اعليك يظل يڨول *** ڨلبو على الصُّلاّح ثاقب مشعالو وقد روى لنا الحاج بلقاسم العمراوي مناسبة القصيدة ومنحنا، مشكورا، نصها كاملا وهي فعلا من روائع وعيون الشعر البدوي بالجلفة وسننشرها كاملة مع المناسبة في موقع "خيمة التراث الشعبي لمنطقة الجلفة"... وناظم هذه القصيدة هو نجل فحل الشعر بمسعد وما جاورها الشيخ سي "أحمد لعكف" الذي لا يفتأ يذكره الشيخ "محفوظ بلخيري" في كل مناسبة ويستشهد به وبأشعاره. والحديث عن المدائح الدينية بمنطقة مسعد لابد وأن يذكر فيه أحد أعمدته ألا وهو الشيخ "سي عبد الهادي هواري" وهو صديق حميم للراوية "الحاج بلقاسم العمراوي" الذي منحنا بعض تسجيلاته السمعية وأخبرنا أن قصيدة "عدّالة يا عدّالة" من ألحانه ... مع العلم أن "عدّالة" هنا في الأصل هي جمع تكسير مثل قولنا "فلاّحة، سوّاڨة، بنّاية، الڨصّارة، ..." وقد تحدثنا عن هذه البنية الصرفية "فعّالة" في مقال سابق. كما أن الغوص في التاريخ الفني للمديح الديني بمسعد يجب أن يُؤتى فيه على ذكر الشيخ "أحمد بن فتاشة" المدعو "صميدة" وهو شخصية معروفة في مدينتي مسعد والجلفة وللأسف لا تتوفر تسجيلات سمعية أو بصرية عنه رغم أنه قد عاش إلى وقت قريب جدا كانت تتوفر فيه لدى الجميع الكاميرات وآلات التصوير!! وقبل أن نغلق هذا القوس نشير إلى ابن مسعد الشيخ عبد الرحمن السعيدي (1880م- 1931م) الذي نبغ في العاصمة وسرعان ما صار أحد شيوخ الموسيقى الأندلسية بها. كما نشير إلى أن هذا التاريخ الفني بمسعد يجمعها بقصري الشارف وزنينة عن طريق المقاوم الشيخ موسى بن الحسن الدرقاوي وحفيده القصّاد "الشيخ سي أحمد لمين" ... فزوجة الشيخ الشهيد موسى الدرقاوي من قصر دمّد وابنتهما هي زوجة "الشيخ بن الصادق العبزوز" ابن الشارف الذي صار شيخنا على الزاوية الدرقاوية بمسعد ... والشيخ سي أحمد لمين سكن الشارف وزنينة وهما حاضرتان معروفتان في المديح الديني مثل مسعد ... وقد أشار الجنرال لادميرو في تقريره سنة 1849 إلى تلك العلاقة التي تجمع أهل الشارف بمسعد من خلال ترددهم عليها. وأخيرا هناك تراث شعري ملحون هائل بمنطقة مسعد خصوصا وولاية الجلفة عموما يجب أن يجد من يتصدى له بالتوثيق والتمويل في الطبع والتوزيع ... وهو مشروع عظيم له أثر عظيم في المنطقة تأريخا وتراثا ودراسة في شتى مناحي حياتها. السيدة هاجر طاهيري رحمها الله ... من يزور الضايات ويجالس أهلها لابد وأن يحدثوه عن فقيهها وشاعرها وشهيدها الشيخ "سي عبد الرحان بن الطاهر طاهيري" الذي قاد آخر انتفاضة شعبية بربوع أولاد نايل مما أدى بسلطات المحتل الفرنسي إلى إعدامه في يوم العيد الوطني الفرنسي. ولطالما شكلت أرض الضايات ملجأ لهذا المقاوم الباسل بل ويذكر التاريخ المتواتر أن هذا الرجل قد عقد مؤتمرا في صحراء مسعد بدايات القرن العشرين لبعث المقاومة الشعبية وتنظيمها. والشيخ عبد الرحمان بن الطاهر طاهيري عاش كما يعيش أي رجل صاحب قضية فتعرض للتضييق في زاويته ثم السجن ثم النفي إلى وجدة بالمغرب الشقيق ثم السجن مرة أخرى والمداهمات إلى أن تقرر إعدامه ونُفّذ ذلك يوم 14 جويلية 1931 ... وللأسف لم نكن نعلم أن له ابنة كانت على قيد الحياة وقد توفيت في آفريل 2020 وهي السيدة الماجدة "هاجر طاهيري" رحمها الله ... والحمد لله على أنه يوجد من بين آل طاهيري من قد تصدى للبحث والتأليف والتحية أيضا موجهة إلى الدكتور قرّاش، من جامعة الجلفة، الذي وثّق تاريخ أعلام الزاوية الطاهيرية في مؤلّف صدر منذ حوالي شهرين. الضايات ... عالم لوحده !! الضايات عالم لوحده ونظام معيشة قائم بذاته ولهذا تجد لها مصطلحاتها الخاصة بها. ولا يوجد أفضل من يخبرنا عنها من الراوية الشيخ محفوظ بلخيري. وفي ذلك يقول أن الضاية الكبيرة تسمى "دحية" وجمعها "دْحِي". وفي ذلك نجد الشاعر محاد بن المداني (من البلول) يقول في شطر من قصيدة له "ويْحُطوا ذيك الدحي بيت بضاية". ويشرح الشيخ الراوية محفوظ بلخيري هذا الشطر الشعري بأن المقصود من "بيت بضاية" هو أن كل ضاية تسكن فيها بيت وهذا فخر لأن القبيلة كثيرة العدد. وهناك "المناڨع" ومفردها "المنڨع" وهو هو "ڨاع الضاية" و"الڨاعة" ليس فيها شجرة أو حجرة. ولهذا هي تصلح لبناء "الجب" فيها. وعندما تتشكل بحيرة من ماء الضاية فإنها قد تحمل إسم "الرْسَم" إذا كثُر فيها عشب "النجم" أو تُسمى "المغدر" اذا خلت من هذا العشب. أما الجُب، وجمعها لجباب (الأجباب)، فهو نمط من أنماط الري والسقي التقليدية بربوع أولاد نايل ويتم ببناء خزان أرضي بالحجارة عند أخفض نقطة في الضاية والتي قلنا أن اسمها "ڨاع الضاية". ولقد وقفنا على جُب تقليدية بإحدى بوادي المجبارة. وقد ازدهر بناء الأجباب في الضايات وقت الاحتلال الفرنسي والحقيقة أن الهدف من مشاريع المحتل هو تثبيت السكان ومراقبتهم عن كثب لمنع اندلاع أي مقاومة شعبية وكذلك تسهيل فرض الضرائب عليهم. هذه البيئة ألهمت سكانها فاستنبطوا منها مثلا محليا يقول "البطمة تڨتل أمها" ... والحقيقة أن هذا المثل تشاؤمي وفيه شيء من جلد الذات ... ذلك أن أشجار السدرة مهما طالت وامتدت فإنه ليس مقدر لها أن تكون في مثل ضخامة وبساقة البطمة وامتداد أغصانها إلى درجة أنك تجدها بمثابة دوحة في محيطها ... ولذلك فالعلاقة هنا تكاملية ذلك أن السدرة قد سمحت للبطمة كي تخرج في دائرتها ثم تتركها تنمو وتصنع لنفسها ساحة يُخيم تحتها العابرون والجوالة ... وهناك مثل آخر جميل وتفاؤلي يقول "البطمة بنت السدرة" وربما مؤداه كيف يجتهد الوالدان في التضحية لتربية أبنائهما حتى يقدما للمجتمع من يعمرونه ... أو ربما هو كناية عن التضحية أو الانطلاق من الصفر ... فما بين حلقة من أشجار السدرة ذات الشوك الكبير تنمو في الوسط شجرة البطمة فيتشكل حولها جدار يقيها من رعي البهائم أو من الإحتطاب الجائر لبعض البشر. الآن وصلت المجموعة ونصبت المُخيّم وتم تقاسم الأدوار كعادتنا في التخييم تحت ظل "بطمة" كبيرة ... ولأن المثل يقول "الخير دواه الخير" فقد رجعنا إلى "ضاية أم الرانب" بعد أسبوعين ليس للتخييم مرة ثانية فحسب وإنما من أجل حملة تشجير هي الأولى من نوعها في المنطقة فقد أحضرنا معنا 25 شجيرة بطمة وغرسناها كلها بعد اقتحام تقني لأشجار السدرة ... حملة التشجير البطمة بنت السدرة المخيّم الطريق نحو "ضاية أم الرانب"