إن الحديث عن ضعف المقروئية يشكل هاجسا كبيرا لكل المتتبعين للشأن المعرفي في بلادنا ، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقراءة في الوسط التعليمي في كل مستوياته ، ومما يزيد في خطورة الوضع التطور الهائل للمعارف في العالم ، فحتى المجتمعات المتطورة تشكو من عدم قدرتها على مواكبة الإنتاج الفكري فالمكتبات تعج بالكتب والمؤلفات والدوريات والمجلات المختصة وغيرها من المنشورات والجرائد ، ولم تصبح قضية التجديد في المنتوج حكرا على البضائع الاستهلاكية وصرعات الموضة في الألبسة والعطور وغيرها من المنتجات ، بل تعدى الأمر ليشمل مجال التأليف والكتابة في مختلف الميادين ، فدور النشر تتسارع للتعاقد مع الكتاب المشهورين وأصحاب الصيت لتحقيق المزيد من الانتشار والأرباح كما تسعى إلى اكتشاف وتشجيع الأقلام الجديدة والواعدة ، والضفر (بالعصفور النادر) (L'oiseau rare ) لجعله تحت الأضواء واستثمار قدرته على الكتابة والتجديد في مجال انتاج المعرفة . إن السبب في كل هذه الحركية يكمن في حفاظ هذه المجتمعات على عادة القراءة التي لا يمكن ترسيخها في الأذهان عندما نقرنها خطأ بالكتاب المدرسي كما يحدث عندنا ، وبالتالي نقدم لأطفالنا رسالة خاطئة تتمثل في أن القراءة هي ذلك الجهد النفسي والعقلي المتعب الذي يرتبط بالفحوص والامتحانات ، وعلى هذا الأساس فإن مهمة القراءة تنتهي بمجرد اجتيازها ، في حين يتعلم الأطفال عندهم أن الكتاب هو الجليس المستمر الذي يرافقهم حتى في العطل وهو المؤنس الذي يسلمهم إلى النوم ليلا . وبهذا فالتلازم بين الكتاب والمراجعة وتحضير الامتحانات يحدث عائقا أمام القراءة من أجل القراءة في حد ذاتها كنمط حياة وسلوك حضاري له علاقة بتنمية الشخصية وتوسيع مداركها وجعلها أكثر تفاعلا مع العالم الذي يتطور من حولها وتنفتح نوافذها على المجتمعات البعيدة والتجارب المتنوعة . إن مشهد المكتبات شبه الشاغرة في جامعاتنا والتي لا يتذكرها الطلاب إلا عند تحضير بحوثهم أو للسمر وتضييع الوقت، والمكتبات المغلقة في العديد من المدارس والثانويات ، والمكتبات البلدية المهجورة إلا من القلة القليلة من متقدمي السن الذين ورثوا عادة القراءة في كتب فرنسية من الحقبة الاستعمارية ، والكتب التي تزين رفوف مكتباتنا الخاصة بشكلها الجميل وهي متراصة مشكلة صورة يفسدها سحب أي كتاب منها مما يدل على أنها للعرض وليست للقراءة ، كل هذا دليل على وجد خلل كبير في علاقة الجزائري بالكتاب وبتصوره له ، كيف لا وقد سمعت أن مسؤولين عندنا دشنوا مكتبة في إحدى البلديات لا يوجد فيها كتاب واحد ، أي أنهم دشنوا المبنى ولم يفكروا في جلب الكتب فأشرفوا على افتتاح جسد بلا روح . كيف يمكننا تدارك هذا التأخر الكبير في عصر تجاوز الناس فيه الكتاب الورقي الكلاسيكي إلى أدوات متطورة مثل الحاسوب و (الأيباد)؟ هل في جلب وطبع المزيد من الكتب وتنظيم المعارض الدولية للكتاب؟ ، أم في تجديد طبع الكتاب المدرسي كل سنة لأغراض لا يعلمها إلا السماسرة والمرتزقة الذين يقفون أمام المهازل التربوية التي أنجبت أجيالا من المتمدرسين شبه الأميين؟ أم في دعم الكتاب كما ندعم الحليب والدقيق وجعله في متناول الجميع ؟ كل هذه الوسائل تبقى مشلولة ما لم نربي أبنائنا على شيء يسمى (حب القراءة) ، ونُكسبهم هذه العادة الجميلة منذ نعومة أظفارهم ، لنجعل من الكتاب صديقا حميما لهم يكبر معهم فتكبر به مداركهم وأحلامهم ، وألا يكون أول كتاب يوضع بين أيديهم هو الكتاب المدرسي ، حتى يكونوا مهيئين للتعامل معه بكل أريحية ومرونة ، وذلك عندما يكون الكتاب قصة جميلة بدأت فصولها الأولى في البيت قبل أن تستمر في المدرسة . إن أي مشروع نهضوي لا يقوم على القراءة باعتبارها نمط حياة وآلية نفسية واجتماعية ملازمة لتكوين الإنسان منذ طفولته يعتبر مشروعا مبتورا لا يوفر لنفسه أسباب النجاح الكاملة ، لأن القراءة ليست تزويدا للذهن بالمعلومات والأفكار فحسب ولكنها منهجا تربويا يكسب الإنسان اسباب التوازن النفسي والاستقرار المزاجي ويجعله مؤهلا ليكون شخصا سليما ومفيدا لنفسه ومجتمعه ، وبهذا نجسد معنى كلمة (اقرأ) التي كانت أول ما نزل من القرآن لهداية البشرية.