طبع المناخ السياسي اللبناني منذ بداية العام الجاري 2011 أزمة سياسية، سببها الفراغ الحكومي الذي أعقب استقالة وزراء المعارضة ال 11 من الحكومة، وهو وضع أرجع إلى الأذهان الأزمة التي عاشها البلد منذ عام 2006 عقب استقالة وزراء المعارضة (الشيعة والسنة) من حكومة السنيورة، والتي أدخلت البلاد في دوامة كادت تؤدي بها إلى حرب أهلية محققة. لقد جاءت هذه الاستقالة الأخيرة نتيجة تصاعد حدّة الخلاف بين فريقي 08 آذار بزعامة حزب اللّه و14 آذار بزعامة تيار المستقبل (المدعوم من طرف الغرب). ويعود هذا الاختلاف أساسا إلى قضية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي أسّست على إثر قانون مجلس الأمن الدولي رقم 1757 بهدف التحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005، مع كون نتائج التحقيق التي بني على أساسها القرار الظني كانت سرية، إلاّ أنّ التسريبات أكّدت توجيه الاتهام إلى عناصر ينتمون لحزب اللّه. هذا الأمر أثار سخط الحزب وشركاءه في المعارضة، حيث اعتبر أن المحكمة الخاصة بلبنان “موجهة” و«مسيّسة”، تسعى لخدمة مصالح الغرب وإسرائيل في حملتها ضد الحزب والمقاومة الإسلامية التي يقودها في لبنان. وبالمقابل أصرّت قوى 14 آذار على التشبّث بالمحكمة وقرارها، واعتبروها طريقهم إلى بلوغ “الحقيقة” والاقتصاص من قتلة الرئيس الحريري. فبعد استقالة وزراء المعارضة وحلّ الحكومة، وبناء على الاستشارات، تمّت تسمية نجيب ميقاتي، المعروف باعتداله، كرئيس للحكومة المقبلة، وتمّ تكليفه بإجراء مشاورات مع مختلف القوى السياسية من أجل توزيع الحقائب الوزارية وفق صيغة توافقية، لكن الظروف الداخلية والاقليمية التي أحاطت بالوضع آنذاك حالت دون إنجاز المهمة في فترة قياسية. على الصعيد الداخلي، أدى تصاعد حدة الخلاف بين فريقي 08 و14 آذار، إلى جعل قنوات الاتصال بينهما تضيق، مخلّفا حالة من الاحتقان الذي جعل من إمكانية الوصول إلى التوافق أمرا صعبا. كما أن انتقال الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، الذي كان من أعمدة فريق 14 آذار للمعارضة، أدى إلى تغيير ميزان القوى في الساحة السياسية اللبنانية تحت قبة البرلمان، وبذلك مالت الكفة لصالح فريق 08 آذار، الذي أصبحت الأغلبية البرلمانية (حوالي 60 ٪) بيده، وبالتالي ضمان استلام مفتاح السراي الحكومي من جديد. من جهة أخرى، فقد كان للوضع الاقليمي أثر لا يستهان به على الوضع في لبنان، فحركة الاحتجاجات التي عرفتها عدة دول عربية منذ بداية العام الجاري، كان لها دور في تحويل الأنظار من الوضع الداخلي المتأزّم إلى حالة الغليان التي يعرفها الشارع العربي، ممّا جعل اللبنانيّين يفضّلون التريّث لبعض الوقت، أملا في تهيئة ظروف أكثر ملاءمة لتوفير جو يساهم في إنجاح التوافق المنشود. وفي هذا الإطار، ينبغي الإشارة إلى أن انفجار الشارع السوري المحتج، قد كان له وقع هام على الوضع اللبناني. فنظرا لخضوع البلدين لمعادلة التأثر والتأثير التي تطبع العلاقات بينهما، فقد حظيت احتجاجات المعارضة في سوريا باهتمام الأطراف اللبنانية التي انقسمت بين فريق مساند لها ولمطالب المعارضة السورية بضرورة إحلال الديمقراطية (فريق 14 آذار)، وفريق لطالما حظي بالمساندة السورية والذي دعا إلى ضرورة التهدئة واستعادة النظام في البلاد (08 آذار). لقد كان للتطورات التي عرفتها الأحداث في الفترة الأخيرة وقعها على الوضع اللبناني، حيث شهد بتاريخ 13 جوان الماضي ولادة الحكومة اللبنانية بأغلبية وزارية لفريق ال 08 آذار، الأكثرية الجديدة. تشكيلة ولدت من رحم فترة عسيرة، وفي ظروف استثنائية داخليا وإقليميا، ولعلّ القادم أشد عسرا. ففي انتظار المصادقة على مشروع بيانها الوزاري، تمّ قبل أيام تسليم القرار الاتهامي في قضية اغتيال الحريري، المتضمّن توجيه الاتهام إلى عناصر ينتمون لحزب اللّه، إلى قاضي التحقيق اللبناني. هذه الخطوة لم تمرّ بسلام، فقد أعادت الحديث عن قضية المحكمة الدولية والقرار الظني إلى الواجهة في لبنان. ففي يوم ال 02 جويلية الماضي، وفي خطاب له بهذا الخصوص، أكد الأمين العام لحزب اللّه حسن نصر اللّه، إصرار فريقه على رأيه في موضوع المحكمة، وقام بتقديم دلائل تؤكد تورّط عدة مسؤولين فيها مع إسرائيل، منتقدا في الوقت ذاته التحيّز الذي يطبع التحقيق بالتركيز على حزب اللّه، واستبعاد فرضية ضلوع إسرائيل المحتملة في عملية الاغتيال. وفي اليوم التالي 03 جويلية، أكدت قوى 14 آذار، في اجتماع لها على تشبّثها بالمحكمة الدولية، مؤكدة أنها “طريقها إلى العدالة”، داعين إلى تقوية مكانتهم كمعارضة جديدة ساعية إلى اسقاط حكومة تكرّس منطق سيطرة “السلاح غير الشرعي” على “الدولة” اللبنانية، كما تزعم، ومنتقدين تعامل الأكثرية الجديدة مع موضوع المحكمة. وقد تجسّدت هذه المواقف المتشدّدة في جلسات مناقشة البيان الوزاري، التي انتهت في جو من الاحتقان انعكس في المشاحنات التي طبعت مداخلات النواب بين الدفاع، الهجوم والهجوم المضاد.ويعكس المشهد اللبناني اليوم تعمّق وتجذّر الانقسام بين أطرافه السياسية، انقسام يؤدي بالوضع في كل مرة إلى أزمة في بلد أصبحت فيه الأزمات السياسية واقعا مألوفا، وديناميكية تحرك النظام السياسي اللبناني، بالإضافة إلى العوامل الداخلية التي تتحكّم في هذه الديناميكية. تعتبر الظروف الإقليمية والدولية محركات أساسية لها، حقيقة لا يمكن إنكارها وهي أن لبنان، هذا البلد الصغير بمساحته وعدد سكانه، له بعد استراتيجي هام بكونه ميدان نزاع بين مصالح القوى الإقليمية والدولية، أدواته القوى السياسية اللبنانية المصطفة على خط الخارج والخاضعة لاملاءاته. يعد موضوع المحكمة الدولية من أهم المواضيع التي تجسّد هذا المشهد الخلافي. وتستمر التجاذبات بين الأطراف اللبنانية، التي لطالما حرّكتها مصالحها الخاصة المرتبطة بمصالح القوى الخارجية. كل هذا في وقت قرّر فيه المواطن اللبناني البسيط اعتزال السياسة، والتبرؤ من السياسيين مفضلا التفرغ لشؤونه الخاصة. لقد انتهت جلسات المناقشة، ونال ميقاتي الثقة بعد تأكيده تعاونه مع المحكمة الدولية، مشدّدا على أن السلم الأهلي اللبناني يأتي أولا كما نص عليه البند ال 14 من البيان الوزاري. فيما انطلقت الحكومة الجديدة في العمل تحت شعار “كلّنا للوطن...كلّنا للعمل” وسط انتقاد من المعارضة، وانشغال فرنسي بسبب موقفها من المحكمة الدولية، وترقّب أمريكي لخطواتها القادمة وسط أجواء تضعها في مناخ مشحون يسوده الضغط. فهل ستمضي هذه الحكومة قدما على خطى بيانها الوزاري محل الانتقاد والتحفظ؟ إنّه سؤال سيجد إجابته في المرحلة القادمة التي ستحمل أجوبة على جملة من الإشكالات، ساهمت في طرحها الظروف الداخلية والخارجية، لعل أهمها ما آل الوضع في سوريا، وبالتالي مدى التأثير على ميزان القوى في لبنان وكذا الوضع العام من جهة أخرى، فهل سيتسبّب الإفراج عن القرار الاتهامي في إشعال فتنة بدأ دخانها يتصاعد؟ وكذا كيف سيكون تعامل القوى الخارجية والمجتمع الدولي مع الوضع في البلد في فترة ما بعد الإفراج عن القرار الاتهامي؟ وإلى ذلك الحين، تتسارع الأحداث المنذرة باندلاع أزمة في أي وقت في بلد الأزمات، حيث يتقاطع الداخل والخارج حتى أصبح نموذجا في إطار مشروع إعادة رسم خارطة المنطقة أو ببساطة “لبنتها”...؟