كانت قريتنا الهادئة على ضفة الوادي الذي يميزه الجفاف الدائم إلا من سيول نادرة، تملأ جنباته أزهار الدفلى وشجيرات الحنضل والحرمل، وبعيدا بعيدا تشاهد أشجار السدر ونبقها الطيب اللًذيذ بجانب عين يسميها العامة عين بنت شهيلي، كنت ألتقي بها عندما تقصد الوادي لجمع بقايا حطب ليتخذ للطهي نارا، بينما نار قلبي كانت متقدة لتطفئها حنان برهة من الزمن، كانت بشعرها الغجري ولباسها الريفي وسذاجة الانثى التي تنقاد بيسر، إلا أن قلبي كانت قد ملكته منذ الطفولة، فكنا قلبين سعيدين نتقاسم قطعة خبز الشعير وكأس اللبن الذي كانت تحضره خلسة، كنت أعشقها حتى الثمالة، وكانت تبادلني نفس الشعور، كانت لطيبتها وكنت لطيبتي كأننا جسد واحد تجلت قدرة الله فينا حبا وكرامة ... تلك هي أول وآخر إمراه عرفت، ومن خلالها كل النساء، نمارس لعبة الكريدة وننتشي برائحة الغدير ونجري خلف الفراش ننتقل هنا وهناك... هي أسعد اللًحظات البريئة عشناها معا... ولكن عندما كبرنا كبر معنا هم الأيام الحبلى بالمفاجآت، وأنا يتيم لا عائل لي منذ أن فتحت عيناي عليها، كانت تحزن لغيابي الذي كنت فيه أمارس دور العامل على مسرح الحياة.. وتقدم إلى خطبتها ثري وثان وثالث، لكنها سئمت من انتظار طيف ملاك أبيض اللًون على حصان سحري، لكنني كنت عاجزا عن شراء الحصان وعن المجيء وكان كل شيء مؤجل.. إلى متى؟: قالت هي.... فأجبت.. إلى حين!! وعلامات التعجب كانت بادية على وجوه الحاضرين ممن كانوا يسهرون أمام جدارية عملاقة هي جدارية قريتي الوحيدة، تقع بجانب المسجد العتيق .. كان عناصر المحافظة السياسية يقدمون الى قريتنا ليستغلونها لبث أفلام صامتة حينا وأخرى ناطقة، وكنا نستمتع بها لأنه أول عهد لنا بالسينما... كان عمي فرحات ببحته الجميلة يطالبنا بالسكوت وكان ببي ( تصغير مبروك) بغليونه يتأفف من النسوة اللًواتي كن لا يسكتن ولكن والحق يقال كلما ظهرت صور المجاهدين أو صورة الرئيس الراحل بومدين، انطلقت منهن زغردة ما بعدها زغردة أعقبها الحاج باش بوابل من طلقات البارود من بندقيته التي يستعملها عادة للصيد. كانت قريتنا تحتفي بجو كرنفالي منقطع النظير. وحينما يحل فصل الصيف تبدأ الوفود في القدوم لحضور أكبر كرنفال كانت تحضر له الفرق الفلكلورية بحارة مرزوق وكان مهرجانا يدوم لأيام، كنت مع حنان نتباهى بملابسنا الجميلة وكانت أكثر سعادة مني إلا أن حرقة اللًقاء كانت تحز في نفسها ونفسي ... ظللنا نقاوم وضعنا، ونحن بين الديوان والجدار ولقاءات حجرة الرومي وعين بنت شهيلي نراوح مكاننا ... مرت السنون سرعى، وفقدت قريتي أعز ابنائها وخيرتهم، ابتداء من مسعود لمبريطة إلى جلول أشهر عازف للمزود على الإطلاق، أما أنا وحنان فقد صرنا أجمل عروسين ستزفهما القرية في جو كئيب حزين لفقدان سيد الطرب، ومر عرسنا في صمت لم تدق فيه الطبول، وكانت سماء قريتي حزينة تكاد تذرف دموعها على الجدارية التي ألهمتنا السعادة لتستحيل جدارية للألم، ظفرت أخيرا بحنان وظفرت بسعادة بعد عسر شديد لأجد قريتي قد هجرت جدار السعادة ليصبح في كل بيت تلفاز وثلاجة وغسالة، ولتودع قريتي جدارية الألم الى ألم الحياة ... أما ازهار الدفلى فقد غابت بوادينا لتترك مكانها لأكياس بلاستيكية وبقايا قوارير الخمر والجعة وبقايا حماقات الزائرين ليلا ... تأملت مليا أمامي وخلفي وقلت لحنان ماذا تتمنين: فقالت: آه ... لو عادت تلك السنون لأوقفت العقارب كي لا تسارع الزمن اللًعين وتبقى الفرجة والفرحة في قريتي ولكن ولّت ولن ترجع ولو بعد حين.. فقلت في نفسي: إييييه تلك الأيام وآه ...! وآه...! ورحت أزور ذاك الجدار جدار الحنين، لأجد الجدار قد صار حطاما وكومة طين ...