ما الذي يدفع بعض الناشطين الحزبيين للخروج من الحزب السياسي الذي ينتمون إليه وإنشاء تنظيم سياسي جديد خاص بهم؟ هل يمكن حصر الأسباب في الدعوى التقليدية حول الصراع على قيادة الحزب؟ وهل ينبغي تجريم الانشقاق واعتبار "المنشقين" مجرد مثيري فتنة وساعين وراء مصالحهم الضيقة؟ ما تعانيه بعض الأحزاب السياسية من تصدعات وانشقاقات يمكن النظر إليه كأمر طبيعي، لا يستدعي التهويل المصاحب عند الحديث عنه، فالحزب السياسي إذا نظرنا إليه باعتباره تجمعا لأفراد يتقاسمون نفس المبادئ والتصورات والمصالح، قد تطرأ عليه سياقات تؤدي إلى حدوث تباينات كبيرة في وجهات النظر داخل قيادة الحزب وقاعدته، قد تصل إلى درجة التناقض الذي لا يحتمل أي قاسم مشترك، ويكون تمسك كل طرف بمواقفه شديدا إلى حد استحالة التوصل إلى أي توافق محتمل، أو الحصول على أية تنازلات متبادلة. عند هذا الحد، قد يلجأ الفريق الذي لا يستطيع فرض توجهاته، وعادة ما يكون الأقل عددا وتأثيرا داخل قيادة الحزب إلى الخروج من التنظيم وتأسيس كيانه السياسي الخاص. وعلى الرغم من أن هذا الخروج قد يبدو إيثارا للمصلحة الخاصة من جانب المنشقين على حساب تماسك الحزب ووحدته، وعلى الرغم من الضرر السياسي البالغ المصاحب لعملية الانشقاق، إلا أنه يبقى أحيانا الحل الوحيد لتجنيب الحركة السياسية الأم حالة الشلل والاضطراب الذي قد يرهن مشروعها السياسي، ويئد الطموحات الخاصة لأعضائها. كما أنه في نهاية الأمر جزء من سيرورة سياسية طبيعية لا يمكن تجنبها بأي حال من الأحوال. وبسبب البنية الهرمية التقليدية التي تطبع هيكلة الأحزاب السياسية، والتي تضيق في القمة إلى أبعد حد، يجد الكثير من الطامحين إلى تولي مواقع ريادية في الحزب عوائق كثيرة تحد من آمالهم، وهو ما ينشئ حالة من انسداد الأفق لدى هؤلاء. ومن الممكن أن نعزو انشطار حزب ما إلى رغبة أحد الأطراف المتنازعة داخله في التمكين لمشروعها الخاص، أو فشلها في فرض هيمنتها على الحزب والوصول إلى مراكز القيادة فيه، غير أن عاملين اثنين قد يكونان الأكثر أهمية، وإن كانا في الوقت نفسه الأقل حضورا في التحليلات التي تتناول الظاهرة: غياب أو بطء التجدد القيادي، والعجز عن إدارة الخلافات بطريقة سلمية. . توظيف القيادات الناشئة بعض الأحزاب النشطة التي تحظى ببنية تنظيمية معقدة، وانتشار وطني مقبول، تولد عددا متزايدا من الإطارات، سواء من التي نشأت داخل الحزب وتدرجت عبر مراتبه التنظيمية، أو من التي تم الانفتاح عليها من الكفاءات العلمية والإدارية والسياسية، وذلك في الغالب كمرشحين في قوائم الحزب خلال الانتخابات المختلفة، ومن ثم يتم تأطيرهم داخل هياكل الحزب، وينجح بعضهم في الوصول إلى مواقع تنظيمية متقدمة خلال فترة وجيزة. وبسبب البنية الهرمية التقليدية التي تطبع هيكلة الأحزاب السياسية، والتي تضيق في القمة إلى أبعد حد، يجد الكثير من الطامحين إلى تولي مواقع ريادية في الحزب عوائق كثيرة تحد من آمالهم، وهو ما ينشئ حالة من انسداد الأفق لدى هؤلاء. خذ مثلا حالة إعداد القوائم في الانتخابات التشريعية، إن أكثر متصدري القوائم (على الأقل من الذين يعتقد لهم الفوز) هم من النخبة "الحاكمة" المألوفة في الحزب: وزراء ونواب سابقون، أعضاء الهياكل القيادية على المستوى الوطني والمحلي، أو –كما بينته الانتخابات التشريعية الأخيرة- بعض من أقارب هؤلاء. وفي الأحزاب الإسلامية التي لازالت فيها بعض تقاليد المشيخة، يكون من المتعذر على الإطارات الشابة أن تبدي نيتها في التقدم لمراكز القيادة أو الترشح احتراما لذوي السبق من الرعيل الأول من "الشيوخ" المؤسسين، وإذا أخذنا بعين الاعتبار غنى هذه الأحزاب بالإطارات ذات التعليم الجيد، فإن هذا يعني أن جيلا بأكمله قد تلاشت حظوظه في تحقيق مسار سياسي واعد. وهكذا يجد الشباب الأكثر طموحا من الناحية السياسية، والأقل قدرة على انتظار فرصة قد تتأخر مدة طويلة، أو لا تأتي بالمرة، يجدون أنفسهم مدفوعين لإنشاء تنظيمات جديدة يكون لهم فيها هذه المرة فضل السبق على الآخرين. في الأحزاب الإسلامية التي لازالت فيها بعض تقاليد المشيخة، يكون من المتعذر على الإطارات الشابة أن تبدي نيتها في التقدم لمراكز القيادة أو الترشح احتراما لذوي السبق من الرعيل الأول من "الشيوخ" المؤسسين، وإذا أخذنا بعين الاعتبار غنى هذه الأحزاب بالإطارات ذات التعليم الجيد، فإن هذا يعني أن جيلا بأكمله قد تلاشت حظوظه في تحقيق مسار سياسي واعد. أما الأحزاب التي يعتبر اسمها علامة تجارية مربحة، فيكون هناك نزوع أكبر للقيام ب"محاولات انقلاب" سياسية، يسميها أصحابها عادة حركات تقويمية أو تصحيحية. وفي هذه الحالة تسعى النخب المتنافسة (ليس على أساس عمري بالضرورة، بل أحيانا على أسس جغرافية أو عصبوية) إلى محاولة الاستيلاء على قيادة الحزب الأم بدل المغامرة بتأسيس حزب جديد غير قادر على المنافسة، وهو أمر ليس من شأنه رهن المستقبل السياسي للمعنيين فحسب، ولكن أيضا مصادرة كل المكاسب التي جنوها لغاية الساعة في الحزب أو الحركة الأم. إن التجدد القيادي في الأحزاب والتنظيمات المختلفة أمر صحي ومطلوب، إذ لا يمكن لنفس الفريق (وأحيانا الشخص) أن يبقى على رأس التنظيم مدة طويلة بحجة أنه هو من أسس الحزب ورفع قواعده، وأنه هو من ضحى ليصل الحزب إلى مكانته التي هو عليها، حتى إذا جاء الوقت الذي وصل فيه الحزب لتحقيق بعض المكاسب السياسية والمادية، ترك القيادة لجيل لم يلاق شيئا من أصناف المحن التي لاقاها المؤسسون. وقد يمتنع قادة التنظيمات السياسية عن تسليم مشعل القيادة خوفا على الحزب من قلة خبرة النخب الجديدة والشك في كفاءتها السياسية والتنظيمية، ومع أن هذا الشعور هو أمر طبيعي، إلا أنه لا ينبغي أن يعيق حركة التطور الطبيعي للحزب وتكيفه مع الأوضاع والمستجدات التي لا يمكن للأجيال القديمة من القادة أن تواجهها بنفس الروح التي يمتلكها من هم أبناء المرحلة الراهنة والأكثر قدرة على التعامل معها بالطريقة التي تستجيب لضرورات التغيير والتطور. وفي هذا السياق تبدو الأحزاب وكأنها تستنسخ سلوك الأنظمة الحاكمة ذات المنطق الأبوي المستمد هو الآخر من إرث اجتماعي تنسب فيه كل الفضائل للجيل السابق، بينما ترمى الأجيال اللاحقة بكل صفات النقص والتقصير. ومن القضايا اللافتة للانتباه أن الأحزاب التي استثمرت أكثر من غيرها في التكوين والتأهيل القيادي كانت أكثر تضررا من ظاهرة الانشقاق والتصدع، وليس من المصادفة أن يتزامن ما حدث في حركة مجتمع السلم خلال السنوات الأخيرة مع برنامج طموح للتنمية الإدارية والقيادية أطلقته قيادة الحركة منذ قرابة عشر سنوات، وسخرت له موارد بشرية ومالية ضخمة. غير أن غياب التوظيف الملائم لكل الإطارات المكونة، خاصة مع تراجع النتائج الانتخابية للحركة، أحدث حالة من "الكساد القيادي" إن صحت العبارة، فقد كانت الحركة منذ منتصف التسعينيات تجد صعوبة بالغة في سد احتياجاتها من الإطارات القادرة على الاضطلاع بالمهام التي استجدت بفعل سياسة المشاركة الايجابية في مؤسسات الدولة، وبالكاد استطاعت الحركة أن توفر الأسماء القادرة على تولي المناصب الوزارية وتصدر القوائم الانتخابية من أبناء الحركة في فترة التسعينيات، وهو ما جعلها تنفتح على كوادر لم يكونوا منتجا أصليا لها، وتمكن كثير من المناضلين من الوصول إلى مواقع المسؤولية في الحركة وفي الدولة دون مؤهلات قيادية كافية، فقد كان الطلب آنذاك أكثر من العرض إذا استعرنا لغة السوق، غير أن الأمر سرعان ما تغير لاحقا، فقد أنتجت سياسة التكوين القيادي عددا معتبرا من الإطارات المؤهلة، في نفس الوقت الذي قلت فيه منافذ التصريف للعدد الموجود، وربما كان دخول الحركة بقوائم مشتركة مع حركتي النهضة والاصلاح في الانتخابات التشريعية الأخيرة عاملا إضافيا في تعقيد الوضع، فقد وجد عدد كبير من الطامحين في تمثيل الحركة برلمانيا أنفسهم في مراتب متأخرة ضمن القوائم، وفي الولايات التي حصلت فيها الحركة على رأس القائمة، قدمت للصدارة أسماء من القيادات الوطنية والمحلية القديمة، وتلاشت آمال الكثير من القيادات الناشئة في الاضطلاع بدور أكبر في تجسيد برنامج الحركة ووضع بصمتها على توجهات الحزب في المرحلة المقبلة، وهو أمر يكون قد دفع بعضهم للتفكير في بدائل أخرى لمسار سياسي أكثر طموحا، وربما كان ذلك بإنشاء كيان جديد قد يحمل معه مستقبلا أفضل لهم. . إدارة التناقضات الداخلية حتى وإن كان يفترض في الأحزاب أنها تجمّع لأفراد يتقاسمون نفس الأفكار والمبادئ والمصالح، إلا أن السياسة تحتم بسبب طبيعتها الغارقة في اللايقين، أن تفرز اختلافات في وجهات النظر وتعارضا في المصالح بين أعضاء الحركة السياسية الواحدة، وهذا أمر يمكن تفهمه بسهولة، فالعمل السياسي ليس مسألة حلال وحرام، أوحق وباطل، ولا حتى قضية خطأ وصواب، وإنما هو مجرد "تقدير" لموضع المصلحة، وهي مصلحة توافقية تجمع بين مصالح الحزب ككيان مستقل، ومصالح أعضائه. وفي هذا المجال بالذات تبدأ التباينات بالظهور، فما هو "مصلحة" في تقدير الحزب (وهو أمر تقرره مؤسساته المحكومة بمنطق الأغلبية) قد يتعارض مع وجهات نظر قسم من أعضائه ومصالحهم الخاصة. وإذا لم تكن في الحزب آليات فعالة لاحتواء الاختلافات الناشئة بين الحين والآخر، وتوجيهها داخل أطر الحزب، وهذا لا يعني بالضرورة وأدها أو قمعها، فإنه قد يتعرض للتصدع عند أول أزمة تعترضه. ويمكن للسماح بوجود متزامن لاتجاهات رأي متعارضة داخل الحزب، بما يشبه السلطة والمعارضة داخل الدولة، بحيث يكون للاتجاه المعارض داخل الحزب مكانة معترف بها ومحمية مؤسساتيا، يمكن أن يكون صمام أمان ضد احتمالات حدوث أزمات حادة داخل الحزب، ويجعل من "المعارضين" داخله يفضلون الاستمرار في النضال للتمكين لوجهات نظرهم بدل الانشقاق عن الحزب وتأسيس كيان جديد، وهو حل لا يخدم موقف الطرفين على أي حال. إن التجدد القيادي في الأحزاب والتنظيمات المختلفة أمر صحي ومطلوب، إذ لا يمكن لنفس الفريق (وأحيانا الشخص) أن يبقى على رأس التنظيم مدة طويلة بحجة أنه هو من أسس الحزب ورفع قواعده، وأنه هو من ضحى ليصل الحزب إلى مكانته التي هو عليها.. إن زيادة حجم الحزب سيفرز لا محالة تنوعا معتبرا في وجهات نظر أعضائه حول القضايا المطروحة، وبدلا من أن يكون ذلك عامل قوة للحزب، ومنبعا لإنتاج سياسات حكيمة، فإنه قد يتحول إلى مصدر خلاف دائم إذا تمكن فريق ما من الهيمنة على توجهات الحزب وفرض تصوراته مدة طويلة، وخاصة إذا لم تحظ السياسة المتبعة بالنجاح المأمول، أو تسببت في فشل ذريع، كتراجع النتائج الانتخابية أو تزعزع البناء التنظيمي للحزب. وإذا رافق ذلك الفشل تهرب من تحمل المسؤولية، وكبت للأصوات المنادية بتصحيح الوضع، واتهام المعارضين في الداخل بمحاولة زعزعة الاستقرار، وتنفيذ "أجندات" خارجية، فإن الوضع سيبلغ من التأزم حدا لا يبقي "للمعارضة" سوى خيار الانسحاب من التنظيم وشق طريقها الخاص بما يمكنها من تجسيد أفكارها وسياساتها المقموعة. لقد طورت الأحزاب في الدول الديمقراطية آليات فعالة لتسيير التناقضات الداخلية بما يجعل من الاختلافات الموجودة بذورا لمشاريع وبرامج بديلة في حالة إخفاق السياسات المتبعة، غير أن ذلك يتطلب في المقابل ثقافة تنظيمية عميقة، وبيئة سياسية مساعدة. وهي عناصر تفتقد إليها الساحة الحزبية في بلادنا. كما أنه من غير المعقول في العرف الحزبي أن يغير الحزب خياراته وتكتيكاته إلى النقيض محتفظا في الوقت نفسه بنفس الفريق الذي كان وراء السياسات التي لم تؤت أكلها في السابق، إذ أن ذلك سيفسر بسهولة على أنه رغبة في البقاء في القيادة مهما كانت النتائج، وتبجيل لمصلحة الفريق المهيمن على المصلحة العامة للحزب. وفي هذا السياق سيكون من باب الحكمة أن يترك المجال لأنصار التوجه الجديد لتجسيد برنامجهم بأنفسهم، فهم أكثر إيمانا به، وأقدر على الدفاع عنه. وربما ضخ وصول "المعارضة" إلى قيادة الحزب دماء جديدة فيه، وأمكنها النجاح فيما اخفق فيه الآخرون. والأفكار في نهاية الأمر مرتبطة بشدة بذوات حملتها، وسيكون من العسير على أنصار الحزب، والناخبين الذين يبحث عن تأييدهم، أن يقنعهم الشخص ذاته بتوجهات كان هو نفسه قبل فترة وجيزة من أشد المعارضين لها. ويمكن أن تتجسد آلية تسيير التناقضات الداخلية من خلال بنية تنظيمية غير هرمية، تتيح لعدد أكبر من الإطارات فرصة التموقع القيادي داخل الحزب، ومع أن عملية اتخاذ القرار ستبقى مسالة تداولية محكومة بمنطق الأغلبية، فإن إحساس عدد أكبر من المناضلين بأنهم جزء من العملية سيوفر قدرا أكبر من الرضا التنظيمي لديهم، ويقلل من شعورهم بالتهميش والإقصاء. ويقطع الطريق أمام احتمالات الانقسام والتصدع. إن زيادة حجم الحزب سيفرز لا محالة تنوعا معتبرا في وجهات نظر أعضائه حول القضايا المطروحة، وبدلا من أن يكون ذلك عامل قوة للحزب، ومنبعا لإنتاج سياسات حكيمة، فإنه قد يتحول إلى مصدر خلاف دائم إذا تمكن فريق ما من الهيمنة على توجهات الحزب وفرض تصوراته مدة طويلة وفي الأخير تجدر الإشارة إلى أن عمليات الانشطار الحزبي لا يمكن أن تستمر بطبيعة الحال إلى ما لانهاية، وعندما تصل المنظومة الحزبية إلى مرحلة متقدمة من النضج، ستتراجع الظاهرة إلى حدها الأدنى تاركة المجال لحالة نمو طبيعية، تكون فيها ولادة أحزاب جديدة محكومة بقواعد أكثر صرامة، في نفس الوقت الذي تشيخ فيه أحزاب أخرى وتضمحل، حتى يستقر الأمر على مشهد متوازن، يكون عدد الأحزاب فيه متوافقا مع عدد التيارات السياسية الفاعلة، وقدرتها التنافسية. ولئن كان إنشاء أحزاب جديدة حقا متاحا للجميع، وأمرا صحيحا من الناحية القانونية، إلا أنه ليس صحيحا بالضرورة من الناحية السياسية. غير أن الوصول إلى الوضع الطبيعي يبقى مرتبطا أولا بوجود نظام ديمقراطي حقيقي، تكون الأحزاب فيه قادرة على المنافسة وفق القواعد المعروفة للعملية الديمقراطية، ولا أظن أن اثنين يختلفان في أن هذه القواعد غير موجودة في منظومتنا السياسية الحالية. . * أستاذ جامعي