.. تأخذك نبرات صوته إلى زمن "الشرطي المخفي" تشعر بالرهبة وأنت معه، فالرجل وإن خرج إلى التقاعد وترك جانبا بذلته الزرقاء، إلا أن ملامح الشخصية الأمنية لا تزال تسكن داخله، يبرقك بنظرات عينيه الحادتين، يستفزك بصمته القاتل .. هو شيخ رجال الشرطة وعميدهم، عمي العزوني يكشف للشروق جزءا هاما من تفاصيل حياته، بدءا من التحاقه بالشرطة، مرورا بسنوات الجمر، وصولا إلى طريق السلامة. وجدناه ينتظرنا عند الباب، وكنا قد تأخرنا قليلا عن موعدنا بسبب أزمة المرور، فرّد عليّ قائلا: "طبعا تأخرتم بسبب حركة المرور لقد وفرت عنكِ هم البحث عن عذر". أخبرته أن حواره مع الشروق سيكون بعيدا عن حركة المرور والنقل فابتسم وقال :".. أنتم الشروق تبحثون دائما عن المخفي والمتخفي..". وراح يقول لي: "من أنا حتى تكتب الصحافة عن حياتي، عمك العزوني شخصية عادية..."، أخبرته أنه من يحظى بتكريم من قبل رئيس الجمهورية، حتما شخصية تستحق الكتابة. ثم أجابني قائلا : "حسنا سنضع مشاكل المرور جانبا، حبي لمهنة الشرطة بدأ منذ أن وعيت حال الدنيا.. فرحة عيد الإستقلال ترسخت في ذهني كان وقتها "الشعب هو البطل الوحيد"، عندما خرج المستعمر من أراضينا، وجدنا نحن الشباب السلاح في الأرض، وكان لا بد على مجموعة من الشباب أن تتخذ موقفا حازما، لأجل تضييق الخناق عن بعض العصابات، أذكر أنني قمت مع البعض من الرفاق بتطويق شوارع "رايس حميدو" و"بولوغين" كان وقتها الكل فقيرا والكل يبحث عن عمل، فقررت أن أدخل الشرطة كمتعاقد في صفوفها، وأذكر أنه كنت من القلائل جدا ممن يُحسن الكتابة على الآلة الراقنة في ذلك الوقت. التحقت بعدها بصفوف المصلحة العامة للأمن العمومي، من عام (1962 إلى غاية 1966)، خُضت تكوينا في ولاية سيدي بلعباس مع أحمد بوصوف، المعروف بعمي أحمد، ثم انتقلت إلى ولاية بجاية للعمل". . أوقفت موكب عرس في بجاية فحوّلت إلى ألمانيا يمسك قلما في يده، يرفع نظارته عن عينه ثم يضعها جانبا على الطاولة ويتحدث قائلا: "كنت مسؤولا عن المرور في ولاية بجاية، وفي أحد الأيام كان هناك موكب عرس، وظل صاحب العرس لمرات وهو يزعج المواطنين بمنبهات السيارات، فأوقفته وطلبت منه أن يتوقف عن إزعاج المواطنين، وفي اليوم الموالي، ويبدو أن الشخص الذي أوقفته كان نافذا.."، أقاطعه قائلة: "هل تقصد أنه كان مسؤولا وهل كان لتدخله تأثيرا على مشوار عملك". يجيب قائلا : "ربما كان نافذا وربما كان وراء نقلي من بجاية، أخبرني المسؤولون في اليوم الموالي، أنه عليّ القبول بين خيارين إما تحويلي لحراسة مديرية الأمن الوطني بالعاصمة، أو الذهاب إلى ألمانيا لإجراء تربص لمدة سنتين، وطبعا في ذلك الوقت كانت البلاد تشهد فترة تشييد ضخمة، ففكرت أن أذهب للتربص بألمانيا، لأجل رفع مستوى تكويني، وأذكر أنه ونحن ذاهبون إلى ألمانيا، سلمنا نائب المدير العام للأمن الوطني عبد المجيد بوزيد، علم الجزائر وطلب منا أن نضعه في ألمانيا نصب أعيننا." وبقيت هناك لمدة سنتين تعلمت فيها اللغة الألمانية وأصبحت أتقنها، ومن الثقافة الألمانية تعلمت الصرامة، وتعلمت الصدق في عملي وتعلمت أشياء كثيرة أثرت على مشوار عملي. عدت بعدها إلى أرض الوطن، ودخلت المدرسة العليا "شاطوناف" ثم مدرسة الصومعة، وأصبحت أشرف على تكوين سائقي سيارات الشرطة، وتكوين الضباط. . أن تكون شريطا ..يعني تسمح من حقك سألته إن كان قد شعر بالحڤرة في مشوار عمله كشرطي .. صمت طويلا ثم رفع رأسه وقال لي: نعم شعرت بالحڤرة أقولها وأكررها، شعرت بالحڤرة"، أقاطعه "كيف ذلك"، يرفض التعليق، مؤكدا أنها حادثة قديمة، ثم يجيب قائلا:"في بداية عملي كشرطي أرسلوني إلى ألمانيا للتكوين، وكنا قبلها قد أجرينا تكوينا في ولاية سيدي بلعباس، ومن بين الذين كانوا معنا كان هناك أشخاص دخلوا "بالمعريفة". أقاطعه قائلة: "هل من توضيح أكثر؟" يرد قائلا: "أول دفعة للشرطة في الجزائر كان ضمن صفوفها في ذلك الوقت أشخاص تدخلت فيها شخصيات كبيرة لفرض أساميهم ضمن القائمة، لقد كان وقتا صعبا.. ولا أستطيع أن أتحدث أكثر من هذا؟. وكانت القائمة تضم 300 شخص من بينهم 150 شخص، وكانت رتبتي وقتها مفتش شرطة، وعندما ذهبت إلى ألمانيا كنت برتبة محافظ شرطة، تركت زوجة وثلاثة أطفال، وكنت أعتقد أني سأعود إلى بلدي برتبة أعلى لهذا ضحيت بترك الوطن، لأجل التكوين. محمد العزوني.. الثاني على اليمين وبعد عودتي من التكوين، كانوا في جهاز الشرطة بالجزائر قد حذفوا هذا التصنيف، وصنفونا بدرجة أقل من رتبة مفتش شرطة، شعرت وقتها "بالحڤرة" في جهاز الشرطة، ولأول مرة تمنت لو أني لم أكن شرطيا، وفكرت مرات عديدة في ترك هذا الجهاز، لأني أحسست أني ضيّعت من عمري سنتين، وكنت قد تركت زوجة وأطفال، وعندما عدت من سنوات الغربة، أجد نفسي قد رتبت في تصنيف أقل مما أنا كنت عليه بالجزائر، أحسست أن السنوات التي قضيتها في ألمانيا كانت عقوبة ولم تكن مكافأة، تجد نفسك أنك عندما عدت من تكوين قاسي ولمدة سنتين، وأنت متغرب عن وطنك وأطفالك، تجد أن الذين تركتهم في الجزائر أصبحوا أعلى رتبة منك.. تشعر بالحڤرة".. يجمع يديه ويتنهد ثم يقول "للأسف القانون لا يطبق بأثر رجعي ... وندمت بعدها مرات على التحاقي بالشرطة سأحكيها لكي لاحقا. تأقلمت بعدها مع رتبتي وتصنيفي، وقررت أن أبدأ من جديد، كان الحصول على عمل صعب جدا في فترة البلد يشهد فيها تشييدا، وكنت أرغب أن أطبق ما تعلمته من ألمانيا. أعترف أني كنت صارما في عملي، وكنت أحب أن أرى كل شيئ في مكانه، وكنت مبادرا ضمن سلك الشرطة، أذكر أنه طيلة فترة عملي كنت أسعى قدر المستطاع تقريب المواطن إلى جهاز الشرطة. فعملت على خلق فضاءات لتقريب المواطنين في المعارض الوطنية والدولية للأمن الوطني، ولقيت جميع مبادراتي تشجيعا، من قبل مديري الأمن الوطني ومن بينها حصة الشرطي المخفي، التي أول ما عرضت كانت على أمواج إذاعة البهجة مع سليم سعدون. . 10 سنوات وأنا أنتظر ردا من التلفزيون حتى يبث برنامج الشرطي المخفي يتحدث عن بداية مشوار حكاية الشرطي المخفي، فيكشف قائلا: "كان جهاز الشرطة ينظم في وقت سابق معارض دولية للأمن الوطني، وفي إحدى المعارض نظمت المديرية العامة للأمن الوطني معرضا لمسابقات قانون المرور، وكان وقتها المدير العام للأمن الوطني "الهادي الخذيري" واستقطبت مُسابقة قانون المرور جمهورا غفيرا من المواطنين، وكنت وقتها أناقش حصة مفتوحة لنقل فعاليات الملتقى باللغة العربية وبالفرنسية، واستقطب المعرض اهتمام المواطنين، كونه ساهم في تقريب الأمن الوطني إلى المواطنين. وبدأت فكرة الشرطي المخفي من القناة الإذاعية الثالثة، وكان مدير الإذاعة وقتها عبد القادر ابراهيمي. ثم فكرت في نقل فكرة البرنامج إلى التلفزة الوطنية، وكان عبد القادر ابراهيمي هو أول من شجعني على خوض غمار "الشاشة"، مؤكدا لي أن الحصة ستنجح لا محالة. وأودعت فكرة البرنامج لدى مديرية الإنتاج، وكان ذلك عام 1975، لكن الطلب بقي على طاولة الإنتظار إلى غاية عام 1985 والحصة تنتظر ردا لكن دون جدوى، وكنت كلما أذهب للإستفسار عن الموافقة، يقولون لي ليس بعد، وبقيت مدة 10 سنوات وأنا أنتظر، لكن الحصة كانت تصنع نجاحات باهرة على أمواج الإذاعة. . هكذا دخلت التلفزيون كنت أشعر أني في جهاد ونضال لكني لم أستسلم يوما، لأني كنت أومن بأن البرنامج سينجح، لهذا رفضت أن أطبق نظرية "إلى الخلف در"، يتأسف وهو يتحصر عن أشخاص موهوبين قُتلت مواهبهم بسبب الحصار المفروض عليهم ثم يتحدث قائلا: "ذات مرة ذهبت للإستفسار عن الحصة وكان وقتها "كمال بن ديصاري"، مدير إنتاج بالتلفزيون، أعلمني أنه لم يحن الوقت بعد، فخرجت غاضبا وأنا أنزل أدراج مقر التلفزيون كنت أدمدم بين شفتي، وأنا أتحصر، والتقيت في طريقي ب "عز الدين بوكردوس" وسألني مابك؟. فحكيت له الحكاية، فقال لي ماذا تحتاج لتنجز حصتك؟ قلت له أحتاج إلى "كاميرا مان" أي مصور وفقط، وأخبرته أنه سيكون معي سليم سعدون، فقال لي: "ابتداء من يوم الغد، ستنطلق في إعداد البرنامج. وكانت فرحة لا توصف.. أخيرا البرنامج سيرى النور، خرجت مسرعا لإعداد تصور عن الحصة. وفعلا كان عبد القادر ابراهيمي وقتها مديرا للتلفزيون، وكان أول من برمج لي الحصة، وكانت مدتها 13 دقيقة، على أن تذاع كل يوم جمعة، وأحدثت الحصة نسبة مشاهدة عالية، التف حولها المشاهدون بسرعة. لكن الفترة التي مرت بها الجزائر من سنوات الجمر، جعلت البرنامج يتوقف، وبحكم أني كنت إعلاميا وشرطيا، أصبحت شخصا مبحوثا عنه من قبل الإراهابيين. . الجماعات المسلحة طلبت من عائلتي تجهيز كفني كنت كلما أطرح عليه سؤالا عن العشرية السوداء إلا ويتهرب من أسئلتي، ويرد علي قائلا: لماذا التركيز على هذه الأسئلة أنتم الصحافة تبحثون دائما عن المشاكل ثم أضاف قائلا: وفي أي شيء سيستفيد القارئ لو قلت لك كنت مهددا، أجبته قائلة: أنت الشرطي المخفي الكثير من الجزائريين يكنون لك الحب والاحترام و أسرار حياتك قد يتعلم منها أجيال. ثم رد قائلا: .. عشت أياما صعبة، وعاشت معي عائلتي جحيم سنوات الجمر، فبحكم عملي كشرطي وإعلامي أصبحت مُلاحقا من قبل الجماعات الإرهابية. مباشرة بعد اغتيال المرحوم طاهر جاووت، تم القبض على تسعة عناصر إرهابية، وتم استجوابهم من قبل عناصر الأمن فأعلموهم أن "العزوني" سيكون الرقم الثاني بعد طاهر جاووت، الخبر تم إذاعته عبر شاشة التلفزيون فسمع أفراد عائلتي استنطاق الإرهابيين فتحولت حياتنا إلى جحيم خوف ورعب، وفكرت عائلتي مرات في أن ننتقل للعيش في الصحراء، لكني فكرت أن أبقى واقفا أدافع عن هذا الوطن. أريد أن أعتذر لعائلتي لأني أجبرتها أن تعيش معي سنوات الجمر بالعاصمة، لزوجتي وبناتي وأبنائي. إلى أن جاء اليوم الذي اتصلت فيه جماعة إرهابية برقم هاتف المنزل، فردت إحدى بناتي فأخبرها الإرهابيون أن يجهزوا كفن العزوني، وكان ذلك أصعب يوم عاشته أفراد عائلتي. وعندما عُدت في المساء حاول أفراد عائلتي اقناعي بضرورة الذهاب للعيش في ولاية بسكرة.. لكني رفضت الهروب وقررت المغامرة بأن أبقى في العاصمة. هذه الأحداث وقتها جعلت جميع رجال الشرطة يؤمنون بأن ما يقومون به هو أكبر واجب وطني اتجاه الوطن، فكرت سابقا أن اترك جهاز الشرطة، لكن رغم الخوف لم أفكر مطلقا أن أقدم استقالتي والبلد في أسود أيامه، كان صوتا ينادي في داخلنا أن لا نترك حماية هذا الوطن. بدأت بعدها الجماعات الإرهابية تُطارد المشاهير وجاء دور رجال الإعلام والجامعات مثل جيلالي اليابس، اسماعيا يفصح ... وآخرين، وكان كل مرة يُغتال فيها رجل إعلام أو رجل شرطة إلا وانتظر دوري. كنا نخرج مختفيين ونظهر مختفيين، وربما ساهم هذا الخوف والهلع في أن أبقى متخفيا حماية لعائلتي ولي أنا.. (يتبع)...