صالح شكيرو »كأنما جبال الجليل وجبال الكرمل وجبال السامرة وجبال القدس والخليل قد أذهلها أن تنحني، فمشى في يومك الشّجرُ، والزيتون أفلت من حرّاسِه ومشى وفي ثناياه ملأ الرُّبى حزنه.. أرض الحضارة يا فلسطين، هل رجل يعيد للفلسطينيين بعد اليوم ما خسروا!« (1) رحل جورج حبش، رئيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وواحد من آخر عمالقة هذه الأرض المغصوبة وهذا الشعب المغلوب على أمره، الدكتور جورج جبش من الثوار القلائل الذين كان لهم صدى واسع في نفوس الأحرار في العالم وهو الذي يكنّ له كل ذي قضية احتراما كبيرا.. رحل العدو اللّدود للكيان الصهيوني والرافع بنضاله وفكره وإسهاماته لهامات المواطن العربي في أي موطن كان. بعد القضاء على المقاومة الفلسطينية (منظمة التحرير الفلسطينية) في الأردن على إثر اصطدامات أيلول الأسود في 1970 والمجازر الشنيعة التي تلتها، رفع الحكيم من مستوى الكفاح إلى اختطاف طائرات شركة الطيران الإسرائيلي وتخريب أنابيب النفط والغاز والهجوم على السفارات الإسرائيلية في العواصم الغربية. جبهته ثأرت لاغتيال زعيمها الذي خلفه الشهيد أبوعلي مصطفى من قبل الجيش الإسرائيلي، نفذ مناضلوها عملية »جريئة« في الطابق الخامس من عمارة وزارة السياحة أدت إلى وفاة وزير السياحة الإسرائيلي. مات الرجل الذي تفادى دوما الخوض في الصراعات الفتاكة التي دمّرت الصف الفلسطيني، وحفاظا على وحدة الصف شارك في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني، في دورة 1991 في الجزائر (وهي آخر دورة يجتمع فيها المجلس الوطني في الجزائر)، كانت هذه الدورة تمهيدية لندوة مدريد من أجل السلم في الشرق الأوسط بالرغم من معاداته الصريحة والصارخة لخط مدريد ولمشروع مدريد. لكن الحكيم جوج حبش رفض موقع المعارضة فاتحا بذلك المجال لانتصار الرئيس عرفات من خلال انتصاره داخل المجلس الوطني الفلسطيني بالإجماع وليس بالأغلبية في التصويت داخل المجلس، وهذا لأول مرة في تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية. علّق وقتها الدكتور جوج حبش بقوله »ننتقل من الثورة، الثورة حتى النصر إلى الوحدة، الوحدة حتى النصر« لقد أنصفته الأيام وأنصفه التاريخ الدموي للكيان الصهيوني عبر تكريس الدولة الإسرائيلية لخط العداء الدائم للسلم والسلام. راح الثائر الذي يعبر دوما عن انبهاره أمام منجزات الثورة الجزائرية وعن تقديره واحترامه للدولة الجزائرية وللشعب الجزائري الذي يستمد منه مسار حياته ويستلهم نضاله. كان جورج حبش العنصر الفاعل في نشوء جبهة الصمود والتصدي، يوم فتح أمام الأنظمة العربية قوسين عبّروا في حدودهما عن وجودهم ورفعوا ولو لفترة رؤوسهم من الوحل! ظل الحكيم جورج حبش وفيا لخطه ولمبادئه في منفاه في الأردن وإن تأخرت نوعا ما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن مساره، وهو الرافض للتطبيع ولمهادنة العدو الصهيوني. التقيت به عدة مرات خلال اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر ومرة في واحد من البلدان الإشتراكية في 1983. أذكر وقتها، وكان رحمه الله في فترة نقاهه، أننا تناقشنا في عدة مسائل متعلقة بالواقع العربي ومما يحضر في ذهني وأنا أتصوره أمامي الآن بهدوئه ووقاره لشيء ظريف قاله لي. إن وضع الإنسان العربي (المواطن) شبيه بأبقار بورڤاس (2) القريبة من هنا. فسألته »وما هو وضع أبقار بورڤاس« قال مبتسما: »أما تدري أن الفلاحين في منطقة بورڤاس يضعون نظارات خضراء اللون على عيون أبقارهم، عندما يأتي الصيف ويقل العشب وتصفر الدنيا وينقص الكلأ. وبهذه الطريقة عندما يقدمون التبن (الهيشر) لأبقارهم، تراه الأبقار أخضرا فتأكله. وكذلك حال الأنظمة العربية فكل أملها من شرقها إلى غربها أن تكسبنا نظارات نرى ما تريده منا«. الحكيم الراحل ومن خلال قراءاتي له وعنه من المؤمنين بأن الحل في الوطن العربي يكمن في ترسيخ وتطبيق الديمقراطية في الواقع، وهي أي الديمقراطية في نظره بوّابة الحل الأمثل. ويعد جورج حبش، رحمه الله، الذي يعتبر آخر عقلاء فلسطين، من أكبر المعارضين للاتفاقيات المبرمة بين الفلسطينيين وإسرائيل، وقد أبقى الخلاف دون أن يصيب الدم الفلسطيني أو يشرذم المجتمع الفلسطني عبر انقسامات وحروب أهلية. وأعتقد أن أحسن تخليدٍ لروحه ولكفاحه الطاهرين ما كتبه منذ سنة ونصف في تقويم له وتحليل واسع وشامل للوضع العربي لدى تطرقه لأزمة اليسار العربي وقراءاته لهذه الأزمة. يقول الحكيم جورج حبش: »لا يمكن الحديث عن أزمة اليسار العربي، وأسباب حالة الانكفاء والتهميش التي وصل إليها اليوم دون مراجعة تاريخ هذه الحركة، والوقوف أمام أخطائها ومنعطفاتها على مستوى التكتيك والاستراتيجية، ولا بد أيضا النظر إلى الموضوع من منظور تاريخي جدلي يدقق ويتفحص الصيرورة التاريخية لحركة اليسار العربي، وأهم المفاصل والمحطات التي مرّ بها ارتباطا بالظروف الموضوعية والذاتية، الداخلية والخارجية. إن نظرة تقويمية لحركة اليسار العربي، تفتح باب الأسئلة حول تجارب الأحزاب اليسارية العربية بجناحيها الشيوعي والماركسي القومي، خاصة وأن كثيرا من القراءات لتجارب هذه الأحزاب باتتا تُسلّم بإخفاقها عن استيعاب ووعي حركة الواقع، وبالتالي فشَلَها في تغييره. كذلك لا نستطيع التحدث عن يسار عربي دون أخذ واقع التجزئة بعين الاعتبار. فعدم إنجاز مسألة الوحدة العربية كرّس الواقع القطري، الذي أفرز بدوره قوى يسارية قطرية طرحت على نفسها برامج ومهمات على مستوى قطري، أما الأحزاب اليسارية ذات التوجهات العربية القومية فقد وجدت نفسها عاجزة عن التأثير والفعل العملي على مستوى القضايا القومية، وانحصر جهدها على المستوى النظري، حول إشكالية القومية والأمة، والعروبة، والتجزئة، والوحدة، وقد كتب الكثير حول هذه القضايا من قبل مفكرين عرب يساريين، وقوى وأحزاب، لكن على الصعيد العملي تعمّق واقع التجزئة، وتبخّر حلم الوحدة، وتمزقت الهوية القومية إلى هويات جهوية مجزّأة، ولم تُنجز مهام التنمية والتحرر من التبعية للسوق الأمبريالية، وتفاقمت المشكلات الاجتماعية التي عمقت الفوارق الطبقية في المجتمعات العربية، وانتشرت البطالة وتراجع مستوى التعليم والثقافة، إلخ، بمعنى آخر تجلت أزمة اليسار العربي الذي ورث الأهداف التي طرحها »رواد عصر النهضة« فيث عجزه عن إنجاز أي من هذه المهام... مثل هذه المهام (الإستقلال، التجزئة، التحرر، الوحدة، التنمية، وأفق التطور الاقتصادي، والاجتماعي العربي) والمهمات الأخرى التي يحددها الواقع العربي بتعييناته، على اعتبار أننا لازلنا في مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي وخاصة في فلسطين والعراق، حيث يفرض علينا واقع الاحتلال مهمات إضافية أساسية تتعلق بمواجهة الاحتلال ودحره، مثل هذه المهام تتطلب أوسع مشاركة شعبية، من قبل جميع القوى الاجتماعية والطبقية الفاعلة، التي عليها أن تنتظم في أطر جبهوية عريضة، هي الصيغة الأكثر فعالية لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية التي يندرج ضمنها مواجهة الاحتلال، والتحرر من التبعية ومحاربة التجزئة، والوحدة، وإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكل ما يجب أن يرتبط بفهم عميق لمسألة الديمقراطية التي تتجاوز مسألة الحريات السياسية فحسب، إلى مسألة تحصين البلدان العربية ضد التهديدات الخارجية المحتملة من خلال الإصلاح الداخلي الذي يستدعي أوسع صيغ التحالف الوطني العريض والمشاركة الشعبية في القرار السياسي، والاقتصادي والاجتماعي الفاعل الذي يعني ضمنا إعادة المجتمع إلى دائرة الفعل بعد أن غُيِّب طويلا. السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، لماذا أخفقت البرامج التي طرحها اليسار العربي في تحقيق التحولات المطلوبة على أرض الواقع؟ ولماذا لم يصبح اليسار العربي قوة تغيير حقيقية؟ ولماذا بدأ هذا اليسار بالضعف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية؟ أعتقد أن أهم المشكلات التي أدت باليسار العربي إلى أزمته، وبالتالي إلى عدم إنتاج وعي مطابق لحركة الواقع العربي، هو اعتماده بالدرجة الأولى على استعارة مقولات نظرية جاهزة، أنتجتها الأحزاب الماركسية العالمية وإسقاطها على واقعنا، دون النظر في متطلبات هذا الواقع وإشكالياته. المطلوب فتح أوسع حوار بين أجنحة اليسار العربي، لإعادة تحليل وتركيب كافة القضايا التي تواجه واقعنا العربي، من أجل نهوض حركة اليسار العربي مجددا.. ومن جهة أخرى تقتضي الأزمة المستعصية في الواقع العربي عموما فتح باب الحوار أيضا بين مختلف التيارات والحركات الفاعلة على اختلاف مشاربها الفكرية والإيديولوجية الماركسية، والقومية، والإسلامية المتنوّرة، إذ رغم الاختلاف على المستوى الإيديولوجي مع التيار الإسلامي فنحن نميز بين التيار الإسلامي المقاوم واللتيار الظلامي الاستئصالي التفكيري الذي يرفض الحوار ويعتبر نفسه البديل المطلق لكافة التيارات الأخرى الفاعلة في الواقع العربي المعادية للمشروع الإمبريالي الصهيوني...«. (1) هذا مطلع نشيد غنته فرقة الميادين ومارسيل خليفة عندما اغتيل كمال جنبلاط، رئيس الحركة اللبنانية، ووضعته في هذا المقام بتصرف مني. (2) مدينة بورڤاس هي عاصمة غابرافو في جنوب بلغاريا متاخمة لشاطئ الشمس ومحطات بريموسكو الاصطيافية.