لم يُقتل مختار بلمختار على يد الجيش التشادي، كما أشيع، أيام التدخل الفرنسي في مالي العام الفارط، رغم الصورة التي تداولتها تلفزيونات إقليمية وعالمية أظهرته مقتولا.. ولم يُقتل "أمير الصحراء" في ليبيا، كما لم يقضِ "أمير المارلبورو والسلاح" بتسمّم في الأيام القليلة الماضية.. بلّعور لا يزال يتنفّس في مكان ما في صحراء الساحل الشاسعة، حتى يأتي الخبر اليقين الذي يُظهره صريعا، وحتى يراه من يجب أن يراه، صريعا، عينَ اليقين. كل الأسماء التي وردت في مقدّمة المقال تعود ل"خالد أبي العباس"، وهذا أيضا اسم من أسمائه التي يتحرّك ويعرف بها لكن اسمه الحقيقي هو مسعود عبد القادر مختار بلمختار. الدّاعي وراء كتابة هذا المقال، هو تتبّع مسيرة "لغز" لا يزال يحيّر مخابرات إقليمية ودولية، أولها المخابرات الجزائرية وآخرها المخابرات المركزية الأمريكية وبينهما المخابرات الفرنسية ومخابرات أخرى.
من الصحراء إلى الصحراء ولد بلمختار في غرداية العام 1972، بدأ حياته المتمرّدة حاملا السلاح في أفغانستان العام 91 وهو في سن الأربعين، حيث قاتل إلى جانب "المجاهدين" ضد الروس ثم ضد حكومة كابول، بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي، وهناك في أفغانستان فقد عينه اليسرى في انفجار لغم، ما جعله جديرا بلقب "بلّعور". بعد ثلاث سنوات كانت حرب أفغانستان وجبالها العصية قد عجنت بلعور وجعلته ثعلبا ك"ثعالب كابول"، حينها قفل عائدا إلى الجزائر، وتزامنت عودته مع انفجار العنف المسلح في البلاد بداية التسعينيات. كان جنود الخدمة الوطنية، الذين أدوا فترة عملهم في الصحراء، يتحدثون عن مهرّب خطير لسجائر "المارلبور" الشهيرة، كانوا يقولون إن اسمه لعور بلعور.. كانوا يقولون إنه شبح.. وإنه دوّخ دوريات حرس الحدود والجمارك والدرك والجيش.. كانوا يقولون إنه خبير في التهريب والهروب والتخفي.. تماما مثلما تختفي سحلية الصحراء في رمال ملتهبة.. كانوا يقولون أيضا إنه ابتكر أسلوبا في تحدّي الحرس والجيش والجمارك، فكان يسير بمحاذاة أنبوب الغاز المتمدّد على طول الصحراء فلا يستطيع أحد ن يطلق عليه رصاصة واحدة خشية أن ينفجر الأنبوب وتغرق البلاد فيما لا آخر له بسبب مهرّب. لكن أمر هذا المهرّب كبُر، وعلينا القول إن حياة بلمختار المهرّب لم تشهد "البريق" الذي شهدته بعدما انتقل إلى العمل المسلح. يقول عبد الرزاق البارا، المسؤول الأول عن اختطاف 32 سائحاً أجنبياً في عام 2003، إن بلمختار كان يريد أن ينصّب نفسه قائداً للفوج الذي انتقل معه إلى شمال مالي في عام 2001 لشراء أول شحنة سلاح استخدمها المسلحون في ما أصبح يُسمّى إمارة الصحراء في تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ويوجد البارا في السجن في انتظار محاكمته بعد أن سلمته السلطات الليبية للجزائر في عام 2004.
القائد دوما.. ويعني هذا الكلام أن بلمختار بدأ التدرّج في مراتب الجريمة في 2001، حيث انتقل من مهرّب يجمع المال إلى مختطف سياح يجمع المال بالعملة الصعبة ويُساوم الدول ثم إرهابي يقتل ويفجّر المنشآت الغازية. حصّن بلمختار نفسه بعلاقات مصاهرة مع قبائل التوارق شمال مالي والنيجر، بعدها أعلن نفسه أميرا لما سمي "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" وكان هذا العام 1998، والتي نفذت عدة عمليات اختطاف طالت سياحا أجانب وحصد من ورائها أموالا كبيرة فاقت الأ5 ملايين دولار. في 2006 انضمت الجماعة إلى تنظيم القاعدة وهو ما أغضب بلمختار وجعله ينشق عنها، فالرجل بطبعه متمرّد ولا يحبّ أن يقوده أحد.. فهو القائد دوما ! اختفى بلمختار عن المشهد بشكل تام لكنه عاود الظهور عبر شريط فيديو في 2012، أعلن فيه تأسيس كتيبة "الموقعون بالدماء" وبايع الأمير الجديد لتنظيم القاعدة أيمن الظاهري، بعدما رفض العمل تحت لواء أسامة بن لادن الذي قتلته قوات أمريكية في باكستان.
الظهور المدوّي.. تُرى من وراء اللغز؟ توعّد بلمختار في الشريط الذي ظهر فيه القوى الغربية ب"المنازلة ثأرا للمسلمين"، وبعد عام واحد نفّذ تهديده، ففي 16 جانفي 2013 هاجم 40 عنصر من كتيبة الموقعون بالدماء الموقع الغازي في عين أميناس الجزائر، وظهر في اليوم الموالي بلمختار في شريط مصور مُقتضب مُعلنا تبنيه "غزوة تيغنتورين" مبدياً استعداده للتفاوض بشرط وقف القصف على أزواد عارضاً في نفس الوقت على الأمريكان إمكانية إطلاق الرهائن الأمريكيين المحتجزين في عين أميناس مُقابل إطلاق سراح الشيخ عمر عبد الرحمن و الدكتورة عافية صديقي المسجونين في أمريكا. إلا أن القوات الجزائرية رفضت التفاوض وهاجمت الموقع وقتلت 29 مهاجما وأسرت 3 من المهاجمين وخلصت الرهائن وقُتل أثناء عملية التحرير 37 أجنبياً من مختلف الجنسيات. كان هذا الظهور المدوّي الكبير لمن بات يعرف بأخطر إرهابي في منطقة الساحل، وقد عرضت الولاياتالمتحدة خمسة ملايين دولار لمن يأتيها به حيا أو ميتا، فيما تواصل المخابرات الجزائرية والفرنسية تقفي أثره، هذا فيما قتلته الأخبار الصحفية أكثر من مرّة. أصدرت محاكم الجزائر أحكاما غيابية على بلمختار كان أولها بالسجن المؤبد عام 2004 بعد إدانته بتهمة تشكيل تنظيم إرهابي وحيازة أسلحة غير مرخصة، ثم بالسجن لمدة 20 عاما بتهم خطف أجانب وتهريب أسلحة، ثم أدين عام 2008 بجريمة قتل موظفين حكوميين في الجزائر، حكم عليه فيها بالإعدام. وإلى اليوم لا يزال "أمير المارلبورو والصحراء" هائما في الصحراء، ولا يعلم أحد من وراءه ولا كيف يتحرّك.