لم تفتح العدالة الفرنسية ملف اغتيال »الموساد« للمناضل الجزائري محمد بودية في فرنسا، بالرغم من تبني إسرائيل للاغتيال، ولم تطالب الجزائر بالتحقيق في هذا الاغتيال ومحاكمة أصحابه.. * ولم تتحرك وسائل الإعلام الجزائرية للمعالجة الإعلامية لهذا الملف، وحتى لملف تسليم السودان »كارلوس« لفرنسا، وهو أحد الرموز الثورية التي كان إلى جانب وديع حداد ومحمد بودية يشكلون المواجهة الحقيقية لإسرائيل وحليفتها أمريكا دفاعا عن فلسطين التي حمل الجزائريون شعار بومدين حولها »مع فلسطين مظلومة أو ظالمة«. * لقد حمل النظام الجزائري منذ استرجاع السيادة لغاية 1989 هموم محاربة المعارضة له في الخارج ودعم حركات التحرر، وفي مقدمتها رموز المقاومة الفلسطينية. * والمفارقة أن الاغتيالات لرموز المعارضة الجزائرية تواصلت وكذلك اغتيال رموز المقاومة في العالم. هل سأل أحد نفسه: من اغتال محمد خيضر وهو أحد رموز الثورة الجزائرية؟ ولماذا اغتيل كريم بلقاسم وهو كذلك من رموزها؟ ولماذا كان رأس محمد بوضياف مطلوبا وكيف كانت نهايته؟ * يبدو لي أن الوحيد الذي استطاع أن يهرب من السجن ويحافظ على أمنه »خارج وداخل الجزائر« هو الدا حسين زعيم جبهة القوى الاشتراكية، والصحافة الجزائرية تعاملت معه ك »معارض أبدي« أو كرمز من »رموز الشر« خلال فترة (92 - 1999). * ربما يعود ذلك إلى »عدم إحساس« رجال الإعلام الجزائري بالخطر الذي كان يهدد زعماء المعارضة في الخارج من قبل النظام الجزائري السابق، وبالخطر الذي كان يهدد رموز المقاومة والثورة التي تدعمهم الجزائر في الخارج وداخل الوطن من قبل »الموساد«. * مشكلة علي مسيلي محامي حزب حسين آيت أحمد الذي كان يقيم في باريس منفيا منذ انقلاب 19 جوان 1965 هي أنه أحد رموز المناضل الوفي لبلده وحزبه، وحين أحس بأن هناك خطرا يهدد حزبه سعى لإنقاذه، بالتنسيق مع الحركة من أجل الديمقراطية في الجزائر التي كان يتزعمها الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، واستطاع أن يساهم في تشكيل جبهة (عربية - بربرية) ضد نظام الشاذلي بن جديد. * ولأول مرة يلتقي أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد في لندن ليوقعا »ميثاقا« كان بمثابة خطوة متقدمة للتنسيق بين المعارضة. * اعتبر البعض هذا اللقاء بمثابة صفقة أنقذت حزب آيت أحمد من براثن »الاشتراكية الأممية« التي كانت يد الصهاينة »متنفذة« فيها. ويذهب البعض إلى »الادعاء« بأن أحمد بن بلة »حرّر ماليا« آيت أحمد بن الديون التي تقف وراءها »مصالح غربية«. ومادام مهندس الاتفاق هو المحامي علي مسيلي فمن الطبيعي أن يتم اغتياله، والمستفيد الأول من ذلك هم الصهاينة. * لكن وجهة نظر أخرى، لا تؤمن ب »بنظرية المؤامرة الخارجية« تعتقد أن لقاء رجلين تاريخيين مثل أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد هو بمثابة ضربة قوية للمعارضة. ولهذا تمت تصفية الذي خطط لهذا اللقاء، وهي التصفيات نفسها التي طالت محمد خيضر حين أراد أن ينسبق مع معارضين آخرين، كما طالت كريم بلقاسم حين أراد أن ينسق مع »رموز الانقلابات الفاشلة« في الجزائر. * بعد بضع سنوات من الاتفاق تعرض علي مسيلي في أفريل من عام 1987 إلى الاغتيال رميا بالرصاص. وقامت وسائل الإعلام آنذاك بالتسويق لاغتيال مقابل 100 مليون فرنك فرنسي قديم، وأن المتهم يكون قد اختفى بالرغم من أن السلطات الفرنسة توصلت إلى اكتشافه. * المفارقة أنه بعد 20 سنة ظهر الاسم الحقيقي للمتهم وهو المدعو عبد المالك آملو. * والأكثر غرابة هو أن الاتهام كان موجها لنظام الشاذلي بن جديد (جريمة دولة: قضية مسيلي) في كتاب يؤرخ للاغتيال، وفي هذا الكتاب اتهام للمدعو محمد زيان حساني الذي يكون من فريق قصر المرادية، في عهد الشاذلي، وأحد الموظفين السامين بوزارة الخارجية حاليا. حين ورد اسم محمد زيان حساني كمدبر للعملية لم يتحرك »نظام خالد نزار« عام 1993، ولا تحرك المتهم للدفاع عن نفسه. * ربما يراهن البعض حول »رد الفعل الرسمي« إلا أن هذا الرهان يبقى مجرد تكهنات لأن السلطة الجزائرية ستعالج القضية بما يسمح بالإبقاء على علاقات الصداقة في مستوى الرئيسيين. * ومادامت السلطات ليست لها استراتيجية اتصالية ولا خلايا إعلامية تدير الأزمات، فإن ما وقع سيبقى »مجرد حدث« يصبح في نظر السلطة »مجرد اللاحدث« على حد تعبير أحمد عطاف وزير خارجية أحمد أويحي سابقا الذي وصف به جماعة بن بلة وآيت أحمد ومهري وغيرهم بسبب توقيعهم »العقد الوطني« من أجل المصالحة الوطنية بروما عام 1995. والمفارقة أن بعض الموقعين على »وثيقة المعارضة« بلندن تحولوا إلى مساندين للنظام القائم في الجزائر، والبعض الآخر من موقعي »العقد الوطني« تم إقصاؤهم من الساحة السياسية الجزائرية. * زوبعة في »فنجان« * تقول تقارير صحفية جزائرية بأن »الأمن الفرنسي« وقع في خطأ في عدم التفريق بين اسمين مختلفين في الأعمار وجهة المولد، وأنها لا تستبعد أن يتم الاعتذار للسلطات الجزائرية، وإطلاق سراح الدبلوماسي الجزائري. * وحتى لو تم ذلك فعلا، فإن السؤال يبقى حدث ذلك، وما هو الغرض منه؟ وهل سيبقى مجرد زوبعة في فنجان أم سيثير جدلا في الساحة الإعلامية. وكيف يمكن معالجة ذلك، خاصة وأن له نتائج سلبية على الأمن الفرنسي وربما يمتد إلى »الطعن« في العدالة الفرنسية. * المؤكد أن بين »مصالح التأشيرة الفرنسية« ومصالح الأمن الفرنسية علاقة، وأن منح شخص »متهم« هذه التأشيرة مؤشر على وجود »خطة« لابتزاز ما. * لا شك أن الإساءة إلى الدبلوماسية الجزائرية لا يمر عاديا، لاعتبارات أهمها: * أن الرئيس لن يقبل بالمساس بهذه السلطة التي استعملها لصالح الرئيس ساركوزي في حق وزيره للمجاهدين. * ولا أعتقد أن ساركوزي يسمح بهذا السلوك المنافي للأعراف الدولية. * الاعتقاد السائد عندي أن فتح القضية في الوقت الراهن مرتبط بمضمون مذكرات الرئيس الشاذلي بن جديد، التي يتوقع أن تنزل إلى الأسواق في أية لحظة، وهي ثاني مذكرات لرئيس جزائري بعد مذكرات علي كافي، التي صاحبتها ضجة مفتعلة يراد بها تشويه سمعة صاحبها. * وهناك من يذهب أبعد بالقول: إن افتعال أزمة دبلوماسية أفضل الأساليب التسويقية لعهدة جديدة يكون مضمونها »الوطنية« خاصة وأن ال 5 ملايين علم التي حاولت الإذاعة والتلفزة تسويقها جاء مردودها سلبيا، وكانت مجرد »صفقة مشبوهة«. * سواء سلّمنا بهذا التحليل أو ذاك فإن المتأمل في دور الإعلام في الأزمات المعاصرة في الجزائر يكاد أن يلاحظ أن دوره منعدما، فجميع الأزمات التي مرت بها الجزائر أو تمر بها حاليا كان تسييرها خاطئا، وعكست فهما خاطئا للواقع الجزائري باستناد »أزمة عبد المؤمن خليفة« حيث نجحت السلطة فيها بحيث وضعت الإعلام في خدمة »الفضيحة« والاهتمام بالحيثيات الشكلية (استجواب الوزراء) دون التعمق فيها واكتشاف حقائقها بدءا من تحضير عبد المؤمن ليكون رئيسا للجزائر وانتهاء بتبييض الأموال ومسح »الموس« في »الطاقم الإداري« وليس في أصحاب القرار. * إن فقدان الأحزاب لمواقعها في الشارع الجزائري، وانهيار »هيبة الدولة«، وعودة العنف إلى الشارع والإرهاب إلى الجبال، وزيادة الضرائب مثل ضريبة السيارات، دون احترام لمبدأ القانون، وإعطاء معلومات خاطئة حول »الوضع السياسي والاقتصادي« في الجزائر، ونهب الأموال العامة، وتغذية الجهوية والمحسوبية، وعودة من يصِفون أنفسهم بأصحاب »المهمات القذرة« والاستثمارات الوهمية، هي مؤشرات على تفكك الدولة، وغياب رؤية لمستقبل البلاد.والتخوفات أن يعم اليأس الجميع ويأتي على الأخضر واليابس وندخل دوامة العنف المنظم بعد أن عشنا دوامة »عنف الفوضى«.الإعلام صار الرصاصة الأولى التي تطلق لتمّهد الطريق أمام تحرير الشعوب أو استعبادها، فأفغانستان والعراق تم احتلالهما إعلاميا قبل دخول القوات الأمريكية، والجزائر بدأ تدميرها بإعلام التهريج والإنجازات الوهمية، وسلطة »الواحد«، وأحزاب »الطبلة والبندير«، والمجتمع الأهلي »المساند«، وها هي تضع أبناءها بين خيارات صعبة »الحرقة« و»المخدرات«، و»العنف« و»اليأس« وهي التي يطلق عليها أحد زملائي الأساتذة بالمدرسة العليا لإطارات الشباب ب »الزطلة الحضارية«، فمتى يدرك من يسيِّرون الإعلام في الجزائر بأنهم أدخلوا رجاله إلى »عالم الزطلة الإشهارية« والبحث عن »الجريمة والفضيحة« لتسويقها للمرضى ب (الزطلة). فهل دخلت الجزائر »الزطلة الدبلوماسية« بعد الزطلة الحزبية والتعددية الإعلامية، وزطلة المجتمع المدني؟